للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخطر الأكبر على بلاد العرب
والرأي في تلافيه

طرابلس الغرب مملكة عظيمة مساحتها أضعاف مساحة إيطالية الطامعة في
استعمارها، وإغناء فقراء أمتها بخيراتها، وكانت في يد الدولة العثمانية من عهد
بعيد، ولم تقدر على الاستفادة منها ولا على مساعدتها على الترقي والعمران؛ لأن
فاقد الشيء لا يعطيه، ثم إنها لم تحصن فيها الثغور، ولا أقامت فيها معدات الدفاع
لحفظها من الأجنبي الطامع، بل كان من سياسة الاتحاديين الذين حلوا محل
السلطان عبد الحميد أن أخرجوا منها معظم ما كان فيها من العسكر والسلاح،
فبادرت إيطالية إلى احتلال ثغورها، ولولا قيام أهلها بالدفاع عنها لاحتلوا سائر
أرجائها، كل هذا معروف، ولكن ماذا كان بعده؟
انبرت إيطالية بعد فعلتها بطرابلس إلى سواحل جزيرة العرب المقدسة،
فأنشأت تضرب ثغورها بمدافع أسطولها، تقتل من تقتل وتدمر ما تدمر، والدولة
تسمع وتبصر ولا تستطيع أن تعمل شيئًا، بل نراها تهدد إيطالية بطرد رعاياها من
المملكة العثمانية؛ إذا هي اعتدت على بعض جزائر الأرخبيل أو سواحل الرومللي
أو الأناطول، ولكنها لا تهددها ولا تفعل شيئًا، ولا تقول كلمة في ضرب إيطالية
لثغور اليمن وحصرها هي وثغور الحجاز (ما عدا جدة التي تعارض الدول الآن
في حصرها، وما يدرينا عاقبة أمرها) ومن أسباب ذلك أن الدولة جعلت من
تقاليدها أن مركز عظمتها وشرفها ومجدها هو الرومللي ثم الأناطول، فهي تهتم بأدنى
قرية أو جزيرة من الرومللي، وإن كان جميع سكانها من الروم أو البلغار، ما لا
تهتم لمملكة عربية، وإن كان سكانها أبناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقومه، وهذا من أكبر أسباب ضعف الدولة.
لولا معارضة فرنسة لضربت إيطالية ثغور سورية واحتلتها كلها أو بعضها،
ولو كانت ترى لها ربحًا أو نفعًا من احتلال بعض ثغور اليمن والحجاز لاحتلتها،
ولكنها قد تخشى من الضرر أكبر مما ترجو من النفع، وهي على كل حال لم تعتد
إلا على البلاد العربية؛ إذ هي البلاد التي لا تدافع عنها أوربة؛ لأنه ليس فيها
نصارى أو إفرنج، ولا الدولة ذات السيادة عليها؛ لأنها عندها من أطراف نعم
السلطنة، لا من الأعضاء الرئيسة في الدولة؛ ولذلك لم تحصن ثغورها، ولم
ترسل إليها عسكرًا إلا لقهر أهلها على كل ما تطلبه من المال، أو إكراههم على
التجرد من السلاح، فقد علم المصريون مما نشر في الأهرام نقلاً عن مدير معارف
اليمن ما كان يعلمه أهل الآستانة قبل من أن حملة اليمن الأخيرة كانت مبنية على
طلب الوالي من الإمام إعطاء ما عند قومه من السلاح للدولة وامتناع الإمام من ذلك.
لم تكن محاربة اليمن وحدها هي التي قصد بها جمع السلاح من أهالي البلاد،
بل كانت حملة حوران والكرك لأجل جمع السلاح من أرجاء سورية، وكانت
الحكومة الاتحادية تريد جمع السلاح من عرب طرابلس الغرب أيضًا، ولكنها لقيت
من معارضة المبعوثين ما حال دون تقرير ذلك وتنفيذه، وقد سمعت في الآستانة من
مصادر مختلفة أن من أصول سياسة جمعية الاتحاد والترقي جمع السلاح من العرب
في كل ولاياتهم، ومن الألبانيين والأكراد، ثم ظهر صدق ذلك.
نحن لا نبحث الآن عن مقصد الاتحاديين ونيتهم، ولا عن ضرر سياستهم
التي جروا عليها أو عدم ضررها، ولا في إثبات ما يقوله خصومهم من عزمهم
على بيع بعض الأطراف للأجانب بتجريده من أسباب الدفاع، والسماح لهم بالنفوذ
فيه، ووسائل الانتفاع الذي هو الطريق المعبد للفتح السلمي والاستعمار. وإنما
ننبه أهل الغيرة والروية في الآستانة وسائر المملكة، ثم المسلمين عامة على ما ظهر
بالحس والعيان فهدم جميع النظريات المخالفة له، وهو أن البلاد العربية لا يمكن
حفظها من اعتداء الأجانب عليها، ودوام ارتباطها بسائر المملكة العثمانية، إلا
بقوتها الذاتية وتعميم السلاح والتعليم العسكري فيها.
فالواجب المُحَتَّم الذي لا تخيير فيه هو أن تبادر الدولة العلية إلى إرسال
السلاح الكامل، حتى المدافع بأنواعها إلى بلاد الشام والعراق والحجاز ونجد وكذا
اليمن من غير سواحل البحر الأحمر، وأن ترسل الضباط البارعين لأجل تعميم
التعليم العسكري، والأهالي كلهم يقبلون ذلك، ولا يكلفون الدولة مالاً ولا نفقة تذكر،
ويجب على جميع الأهالي مطالبتها بذلك ملحين ملحفين، وإلا فلينتظروا الساعة
تأتيهم بغتة، كما أتت أهل طرابلس وبرقة، فقد جاء أشراطها، وأنى لهم إذا
جاءتهم ذكراهم؟ ؟