للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قتل محمود شوكت باشا

أهم حوادث هذا الشهر قتل محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية.
كان خارجًا بسيارته الكهربائية من نظارة الحربية فدنت منها سيارة أخرى عند
وقوفها في الطريق بسبب مرور جنازة وأطلق عليه الرصاص ثلاثة نفر منها، فخرَّ
صريعًا في الحال وطارت سيارة الجناة فلم يدرك لها أثر، وقد عرا جماعة
الاتحاديين الوجل والذعر لهذه الفاجعة، وهمَّ زعماؤهم بالفرار من الآستانة أو
الاستخفاء فيها؛ فكان أثبتهم جأشًا جمال بك محافظ العاصمة فثبتهم وبادر إلى إلقاء
القبض على كل من وجد من خصوم الاتحاديين السياسيين الذين كان يصرف جلّ
أوقاته في مراقبتهم وأسلمهم إلى ديوان الحرب العرفي، وكل رجاله من الاتحاديين،
فعذبهم وأساء معاملتهم، فألقى الرعب في قلوب أهل العاصمة وتمكنت الحكومة
والجمعية من الاحتفال بجنازة قتيلها فكان عظيمًا، وجعل ناظر الخارجية البرنس
سعيد باشا حليم صدرًا أعظم.
ثم لم يلبث ديوان الحرب أن سجن مئين ونفى مثلهم وحكم بالإعدام على
عشرة من كبار الزعماء الذين جعلهم جمال بك في موضع التهمة بالاشتراك بالقتل
أو التدبير له، وبادرت الحكومة بأخذ توقيع السلطان (الإرادة السنية) بقتل من
قبضت عليه منهم، وفي مقدمتهم صالح باشا بن خير الدين باشا التونسي الشهير
وهو من أصهار السلطان، وروت الجرائد أن أخت السلطان شفعت عنده في زوجها
وبكت وأبكت ولم يمكن العفو عنه لإصرار الاتحاديين على قتله؛ لأنه من أكبر
خصومهم. وحكموا أيضًا على صباح الدين أفندي ابن أخت السلطان فاستخفى
بمساعدة بعض الأجانب وفرَّ كثيرٌ من خصومهم السياسيين لاعتقادهم أن الجمعية
ستغتنم هذه الفرصة للفتك بجميع من تظفر به من المخالفين لها في سياستها.
ومن جملة الذين فروا إسماعيل بك وكيل حزب الحرية والائتلاف وكان
الاتحاديون قبل الحادثة قد عرضوا عليه تأليف الوزارة من الحزبين الاتحادي
والائتلافي فأبى وقال: إن حزبه قد أعلن رسميًّا ترك العمل لمدة الحرب؛ لعدم
التهويش على الحكومة بالسياسة فليس له صفة للاتفاق معهم الآن. وكذلك كانوا
كلموا صباح الدين أفندي في الاتفاق معهم فأبى. ذلك بأنهم كانوا يشعرون بضعفهم
ونفور الأمة منهم وكيد الأحزاب لهم فكان قتل زعيمهم قوة لهم؛ لأنه كان من قبل
الأفراد لا الأحزاب كما علمنا فجعلوه حجة لتنكيل الحكومة بالرجال الذين يخالفونهم.
اختلف العثمانيون والإفرنج في الثناء الحسن والقبيح على محمود شوكت باشا
كما شأن الناس في كل من ينال شهرة، والحق الذي ظهر لي من كلام المختلفين
واختباري الشخصي بلقائه مرارًا متعددة في الآستانة وسماعي كلامه وآراءه وكلام
العارفين فيه أنه رجل عسكري غير سياسي، وأن معارفه العسكرية أكبر من
شجاعته، وأنه كان يخاف جمعية الاتحاد والترقي فجاراها على إشغال الجيش
بالسياسة وكان يتربص الفرص لإزالة سلطتها من الدولة إلى أن اتهمه مجلس
المبعوثين بالتواطؤ مع حقي باشا الصدر الأعظم على إضاعة طرابلس الغرب
وطلب محاكمته معه فلم يجد أمامه ملجأً يحميه من المجلس إلا الجمعية التي أضاعت
نفوذها من المجلس فكاد يسقط وزارتها بتهمة الخيانة، عند ذلك ساعدها محمود
شوكت باشا بنفوذه وتأثيره في القصر السلطاني فأصدر لها إرادة من السلطان بحل
المجلس وصار معها بقلبه وقالبه، ووثقت هي به، فولته منصب الصدارة ونظارة
الحربية بعد إسقاطها وزارة كامل باشا الأخيرة بقتل ناظم باشا ناظر الحربية.
لما جئت الآستانة في أول شوال سنة ١٣٢٧ للسعي في تأسيس جمعية الدعوة
والإرشاد فيها كتبت إلى هادي باشا قائد الجحفل الثالث في سلانيك أستشيره في بدء
السعي في ذلك فكتب إلي أن أبدأ بعرض المشروع على محمود شوكت باشا وأعمل
برأيه وكتب إليه كتابًا يعرِّفه بي، فلما قابلته بيَّن لي رأيه في المشروع، وأن
الإسلام والدولة في أشد الحاجة إليه وما يخشى من المقاومة له، وعهد إليَّ أن أذهب
من قِبَله إلى الصدر الأعظم حسين حلمي باشا أولاً، ثم إلى ناظر الداخلية طلعت بك
وأن أرجع إليه فأخبره بما يقولان، ثم كانت سيرته معي أو سيرتي معه هكذا: كلما
تجدد شيء في السعي أخبره به ويذكر لي رأيه فيه، وقد كنت أجلس عنده الساعة
والساعتين وأكتب من كلامه ما أراه جديرًا بأن يكتب في دفتر المذكرات المؤرخ،
ومنه كلمة فلتت بالمناسبة في رأيه في زعماء الاتحاديين أشرت إليها في مقال سابق
من غير عزو إليه، وهي قوله بمناسبة وعد طلعت بك وحقي باشا بتنفيذ المشروع:
(هل صدقت؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم) .
لو أن محمود شوكت باشا شجاع لأسقط الجمعية وأصلحها ولو أنه أمر
بمحاكمة قاتلي سلفه ناظم باشا لما اشتد السخط عليه وأقدم مَن أقدم على قتله.
ذهب معي مرة لزيارته صديقي السيد عبد الحميد الزهراوي وكان مبعوثًا فأثنينا
على خطبته التي خطبها في نظارة الحربية بوجوب امتناع الضباط من الاشتغال
بالسياسة وقلنا له: إننا لا نزال نراهم على حالهم لم يمتنعوا، وذكرنا له حادثة
كانت وقعت في نابلس من أقبح حوادثهم وأفظعها في العدوان، فقال: أما هنا فقد
امتنع اشتغالهم بالسياسة، وأما في الأماكن البعيدة كبلادكم فيحتاج منعهم ألبتة إلى
زمن، ولكن ظهر بعد ذلك رسميًّا ما كتبه في عريضة استقالته من نظارة الحربية
أن قوله هذا غير صحيح.
وذكرنا له مسألة التناظر والتغاير بين الترك والعرب وأعمال رجال الدولة
والجمعية التي أحدثت الخلاف وما يجب من تلافيه. فقال: إنني أسمع كلامًا في
هذا لا يعجبني وأرى مستقبل الدولة لنا نحن العرب؛ لأننا أكثر عددًا وأزكى فهمًا
وأنشط في العمل، ولكن يجب أن ندخل أولادنا مدارس الدولة ونرتقي بها، ولكنه
مع هذا لم يساعد العرب ولا كفَّ عنهم شيئا من العدوان بل هو الذي سير الحملات
العسكرية إلى اليمن والكرك وحوران إطاعة للجمعية. على أن هذه الشدة هي
التي كونت المسألة العربية الحاضرة.
وقد بلغنا من الأخبار الخاصة أنه كان في العهد الأخير عازمًا على إجابة
العرب إلى مطالبهم الإصلاحية، وإن كان هو الذي أمر بتشديد حازم بك على
طلاب الإصلاح في بيروت. وقد أشار طلعت بك في كلام له نشرته الجريدة إلى
ميل شوكت باشا إلى إجابة العرب إلى ما يطلبون من الإصلاح المعقول. وبالجملة
فإن للرجل -عفا الله عنه ورحمه - حسنات وسيئات وأمورًا متناقضة، والله أعلم
بالسرائر.
***
احتجاج حزب المحافظة على حقوق الإنسان
على فظائع الاتحاديين

لما اتصل بحزب حقوق البشر الفرنسيين خبر الأعمال الفظيعة التي ارتكبها
الاتحاديون بحجة التحري عن قتلة شوكت باشا أرسل رسالة برقية بواسطة رئيسه
إلى مولانا السلطان من باريس في ١٨ يونيو احتجاجًا على فظائع الاتحاديين وهذه
ترجمة الرسالة:
اسمحوا يا صاحب الجلالة لأصدقاء مخلصين للدولة العلية أن يستغيثوا بما
اتصفتم به من العدل والإنصاف باسم ستين ألفًا من الرعايا الفرنسيين أعضاء حزبهم؛
إذ قد يتعذر على الرأي العام الأوربي أن يتصور قيام حكومة في أيام سلطان محب
للقوانين والتقدم لإلقاء القبض على الجموع العديدة عقب قتل شوكت باشا، وإلقاء
العذاب الأليم بهم وإعدام المتهمين منهم دون أن تضمن لهم الحق بالدفاع عن
أنفسهم.
أجل، إن الحكومات والشعوب لم تجنِ إلا العلقم من اتباع سياسة الإرهاب ولا
شيء شر وأسوأ من التذرع بحجة جرم سياسي لإلغاء الحزب المعارض والقضاء
عليه القضاء الأخير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس الحزب