الأرمن وفتنتهم (تابع ما قبله وهو ختام الرسالة) فلو أن تذاكر الجواز الأمريكية كانت تتضمن مثل هذا الشرط المبني على الحكمة والسداد، لبادر الأرمن إلى ترك التجنس بالجنسية الأمريكية تركًا تامًّا لأنهم إنما يلجأون إليه لتكون حكومة الولايات المتحدة مِجنًّا لهم يقلبونه في وجه الحكومة العثمانية , ولكان في ذلك التَّرك راحة عظمى لنظارة الخارجية في واشنطن. إن تجنس الأرمن يكاد يكون دائمًا مبنيًّا على نية سيئة , وإنما يقصد به استخدام الحكومة الأمريكية لإيصال الضرر بتركيا متى كان ذلك في الإمكان يتبين ذلك من جملة اقتبسناها من تقرير رسمي كتبه في ٢٩سبتمبر سنة١٨٩٣ المستر إسكندر تريل أسقف الولايات المتحدة الحالي في القسطنطينية وهو معروف بكفاءته وسعة علمه قال: (إن المهاجرين الأوربيين في الولايات المتحدة يتجنسون بالجنسية الأمريكية عن قصد حسن في الجملة , وأما المهاجرون الأسيويون فحسن النية فيهم نادر جدًّا , وإني في مكان أعرف فيه أن رجوع الأرمني إلى بلاده بعد تجنسه على نية البقاء فيها هو القاعدة التي لا يخالفها إلا شذوذًا) . تلك شهادة جاءت من قبل رئيس المبعوثين الأمريكيين الذين يمالئون ثوار الأرمن في جميع الأمور , ويحرضونهم على تركيا , وهذه الشهادة مبنية على التقارير التي رفعها لوكلاء الدول من عهد غير بعيد لجنة التحقيق الأمريكية التي عوضًا عن أن تنصح للأرمن أن يكونوا من رعايا السلطان المطيعين , وأن يلتزموا السكوت الذي يستلزمه الشرف والوقار حتى تعلم نتيجة تحقيق المشاغب التي حصلت في ساسون، كانت ترى أن من أهم واجباتها أن تثبت وقوع مذابح لم تكترث بها الحكومة العثمانية على أنها كان يجب عليها أن تعلم أن هذه الحكومة لم تساعد على وقوع أية مذبحة كانت , وأن نفس وجود البعثات والمدارس الأمريكية في تركيا وكون غرضها الأصلي نصر المذهب البروتستانتي بين الأرمن , وحملهم على الأخذ به؛ مما يثبت بلا شك أن أوضاع الترك ونظاماتهم مبنية على التسامح والتساهل، فإذا استمر المبعوثون الأمريكيون على ممالأة الأرمن المتذمرين في تركيا كانت سياستهم هذه مخالفة لإرادة الحكومة الأمريكية وشعبها , فإن تركيا على أي حال يجب أن تحافظ على السكينة والأمن في بلادها مهما كلفها ذلك , ولا يمكن أن تتغاضى عن الدسائس الأجنبية التي يحاول المفسدون بها في أرجائها , وهي محقة إذا ثار عضبها لقراءة مثل هذه الجملة التي كتبها أحد الأرمن عن اشتراك الأمريكيين في حوادث بلغاريا التي حصلت سنة١٨٧٥ ضمن رسالة بعث بها للجريدة المسماة (منادي يوستون) وهى: (قد علمت من زمن غير بعيد أن القسيس المحترم سيروس هملن كان يكتب مكاتيب وِدّ وتشجيع للجمعيات المختلفة التي كانت تعقد في هذه البلاد (تركيا) تعضيدًا لمقاصد الأرمن , وعباراتها صريحة في الدلالة على انتصاره لدعوتهم , وقد سمعته يخطب من بضع سنين مضت في إمهارست التابعة لماس (بأمريكا) ولشد ما كان يفتخر في خطبته على سامعيه بأهمية العمل الذي قام به البلغاريون المتخرجون من كلية روبرت وهو حصولهم على حرية وطنهم واستقلاله وأنا أسأل هذا القسيس المحترم عما إذا لم يكن عالمًا بوجود شركات عقدت للحث على حب الوطن والدفاع عنه بين أولئك الطلبة البلغاريين إلخ.. . لقد صدق الفرنساويون إذ يقولون في أمثالهم: لا يغشك إلا أصدقاؤك , فليعلم الأمريكيون ومجلس إدارتهم أنه ليس من الواجب عليهم ولا مما هم منوطون به أن يساعدوا أي صنف من الناس في تركيا على نوال (حريته واستقلاله) ولا أن يمالئوا الجمعيات السرية فيها , ولا أن يتهموا الحكومة العثمانية أمام العالم بالمذابح التي لم توجد , ولا يمكن أن توجد في الحقيقة والواقع , وإنما الواجب الذي ينبغي عليهم مراعاته هو أمر هين بسيط ينحصر في رعايتهم قوانين البلاد التي أكرمت مثواهم رعاية تامة في أفعالهم وأقوالهم , فإنه إذا كان من المستغرب أن أولئك المبعوثين عوضًا أن يخصوا بعناياتهم ونواياهم الحسنة هنود أمريكا وزنوجها، اختاروا الذهاب إلى تركيا لتربية الأرمن على طريقة مخصوصة , وحملهم على التدين بالمذهب البروتستانتي ما أمكنهم , وكان من المحقق أن الباب العالي يأذن لهم بممارسة عملهم طيبة بذلك نفسه بفضل تعاليم دينه السائد التي تحث على التسامح والتساهل , فلم يكن أحد ممن يحبون الإنصاف وحرية الضمير ليقدر أن يلوم تركيا على إظهارها الاستياء مما يقوله هؤلاء المبعوثون على رؤوس الأشهاد , ويكتبون من العبارات الدالة على معاداتهم ومباغضتهم لها , والمفضية حتمًا إلى توسيع خرق الفتنة والمشاغب في بلادها , ولا شك في أن الولايات المتحدة لا ترضى بهذه المظاهرة العدائية الموجبة لمعاقبة صاحبها إذا حصلت في بلادها من أي طائفة من المبعوثين جاءت إليها بقصد تربية الهنود مثلاً ونشر دينها بينهم، خصوصًا إذا كان هؤلاء لهم مقاصد ثوروية كالأرمن المعترفين بذلك، فالذي يكون صوابًا في حق الولايات المتحدة لماذا لا يكون كذلك في حق تركيا؟ الفتنة الأرمنية التي بنيت على أكاذيب ومبالغات , وعلى خطة رسمت وصمم عليها من قبل كما بين ذلك القسيس المحترم سايروس هملن نفسه , وأعان الأرمن عليها كثير من الناس , وساعدوهم على إضرام نارهم لمجرد أنهم مسيحيون , وذلك ما يثبت أن الذي يغري أعداء تركيا بها هو غلوهم في الدين لا غيره , ولولا ذلك لما كانت مفتريات ثوار الأرمن الخارجة عن حد العقل وقعت موقع التصديق عند أناس يصفون أنفسهم بالنزاهة وعدم التشيع , ولما علقت عليها الشروح والتأويلات بدون أن يقوم عليها شيء من البراهين والأدلة المقنعة. من أجل ذلك قد علمت تركيا الآن أنها لا يمكنها أن تعتمد على مليكها، فهي تفتخر به لتنظيم ماليتها وإعلاء شأن جيشها , وإدخال الإصلاحات القويمة في كل فرع من فروع إدارتها , وتعجب بما يدهشها من صدق عزيمته وسمو مداركه وكرم نفسه , وتعلم حق العلم أنها ما دامت في ظل رعايته لا تخاف ضيرًا من أعدائها سواء في ذلك الأباعد والأقارب , وأنها لما كان اعتقادها فيه مبنيًّا على حقائق ثابتة كان السلطان عبد الحميد الثانى حقيقة ملكًا عظيم الشأن. انتهت الرسالة. والله أعلم