للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارْتَعَى
إذا أحس نبأة رِيعَ وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
نهال للخطب الذي يروعنا ... ونرتعي في غفلة إذا انقضى
إذا أزعج الصائح الغنم السائمة بنبأة شديدة تجفل مرتاعة وتترك الرعي هنيهة
ثم لا تلبث أن تعود إليه بعد سكوت الصائح، فإذا عاد إلى الصيحة عادت، فإذا
طامن لَهَتْ وتمادت، ذلك مثلنا في رأي ابن دريد قاله من نحو ألف عام أيام كنا في
أوج مجدنا، وبحبوحة عزنا، وهو إنما يصدق علينا في هذه القرون الأخيرة التي
غلبت علينا فيها المعيشة الفردية، وإن كانت خسيسة بهيمية، وجهلنا معنى الأمة
ومقوماتها، والحياة الاجتماعية وحسناتها، فلا يبالي الواحد منا بما ينزل بالأمة،
إلا إذا آلمه هو وأهمه، وإننا لنعد انطباق مثل السائمة علينا مبدأ ارتقاء وشعور
جديد في الدهماء.
ما أكثر النبآت والهيعات التي أجفلت المصريين في غضون هذه السنين؛
ولكنها لم ترتق بهم إلى تدارك الخطب وترك اللهو واللعب، ألم تر أن نبأة
المحاكم الشرعية القارعة، وصيحة إصلاحها الصادعة، كانت قد راعت الناس
واعتقدوا أن غرض الحكومة سيطرة المحاكم الأهلية على المحاكم الشرعية، أو
إدغامها فيها لتمحى بالكلية، ولما سكت الصائح عاد أهل هذه المحاكم إلى ما كانوا
عليه لا يصلحون عملاً، ولا يقوِّمون درأ ولا يقيمون عوجًا، وسكت عنهم الناس
الذين أجفلتهم الصيحة الأولي لا ينذرونهم بعودة الافتيات، ولا يوصونهم بالاستعداد
لما هو آت، فماذا ينظرون، إذ ظلوا في غفلتهم يعمهون؟ {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ} (يس: ٤٩-٥٠) ولكل شيء قيامة، إذا حلَّت لا تنفع الندامة.
وهذه صيحة استبدال اللغة العامية السخيفة، باللغة الصحيحة الشريفة -
استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير - قد طرقت المسامع، وآلمت الطبائع،
أستغفر الله، إنه لم يؤلم الطبائع إلا هذا السجع؛ ولكن الصيحة حركت الألسنة
والأقلام إلى تفويق سهام الملام، وإقامة الحجة على الصائح بأنه يقصد منفعة
قومه لا منفعة الذين يدعوهم إلى ترك لغة دينهم وشريعتهم وعلومهم وآدابهم التي
ضعف بضعفها فيهم كل مقوم من مقومات حياتهم، وفي محوها من ألواح التعليم
محو أمتهم من لوح الوجود الاجتماعي، وماذا عسى يُفيد الاحتجاج بالقول إذا لم
يؤيده العمل والسعي في ترقية اللغة الصحيحة، وجعلها لغة التخاطب والتعامل؟
أرأيت أيها القارئ إذا اتخذنا جفول أهل الشعور من هذه الصيحة وسيلة لاستنجاد
القائمين على تعليم اللغة والإلحاح عليهم بوجوب إصلاح التعليم بحيث يستعمل
المتعلم اللغة في القول والكتابة، أيقولون أن هذه لُباب النصيحة أم يقولون إنه إهانة
للعلماء والمدرسين، وإنما حياتنا بتعظيمهم وتبجيلهم والرضا بكل ما يكون منهم
سواء اغْتُنِمَتْ الفرصة أم فاتت، وعاشت لغة القرآن أم ماتت؟
أعني بصيحة اللغة كتابًا ألفه المستر ويلمور المستشار في محكمة استئناف
مصر الأهلية باللغة الإنكليزية، يدعو فيه إلى جعل اللغة العامية المصرية لغة
التعليم العامة بدلاً من اللغة العربية الصحيحة، ويحاول إقناع المصريين بأن هذا
خير لهم وأقوم سبيلاً، وما هي بالصيحة الأولى؛ وإنما هي ترجع لصوت (ولهلم
سبتا بك) الألماني أمين دار الكتب الخديوية من قبل (المتوفى سنة ١٨٨٣) فإنه
وضع حروفًا إفرنجية للغة العامية المصرية لأجل إحيائها، وألف كتابًا في صرفها
وكتابًا في أمثالها وقصصًا عامية، ونشر ذلك باللغتين الألمانية والفرنسوية؛
ليرغب أوروبا في تنفيذ مشروع تعليم اللغة العامية بالحروف الإفرنجية، وجعلها
لغة العلم والتعليم، وقد انتدب بعض أغنياء الإفرنج منذ سنين لذلك، وأرصد له
مالاً جمًّا ونشرت يومئذ كراسة في الحث عليه وترغيب الآخذ به بالمال، ووزعت
هذه الكراسة مع الجرائد اليومية الكبرى حتى المؤيد، وكتبنا وقتئذ مقالتين مطولتين
في الرد والتنفير عن المشروع فنَّدنا فيهما وجوه الخديعة والخلابة وكشفنا الغطاء
عن ضروب التدليس والتلبيس في الموضوع بلهجة شديدة، فليرجع إليهما من شاء
في العددين ٥ و ٦ من السنة الأولى.
لم نكتف في المقالتين بتفنيد وجوه منافع المشروع التجارية والتعليمية
والوطنية التي زعمها ناشر الكراسة يومئذ؛ ولكننا نبهنا أيضًا على تقصيرنا في
إحياء اللغة الصحيحة ونشرها بالتعليم القويم حتى كادت تمحى وتزول، وحتى
صار بعض الناس يعتقد أن إحياءها محال، وعلى الخطر الذي يتهددها إذا تمادينا
في إهمالنا وإغفالنا؛ ولكن قومنا لا يروق لهم إلا القدح والطعن في الأجانب ومدح
أنفسهم، وإذا لم يضرهم هذا لما منحهم الأجانب من الحرية فإنه لا ينفعهم ولا يقيهم
من سهام الأجانب؛ وإنما الذي يقيهم وينفعهم هو النظر في تقصير أنفسهم والتبصر
في عيوبها، ثم الرجوع عليها باللائمة، وحملها على اتقاء السهام التي تصوبها
إليهم حرب تنازع البقاء بالمِجن الدافع، والتدبير النافع.
ليت المؤيد الأغر لم ينشر مقدمة كتاب المستر ويلمور لأجل عرضها على
الكتاب للرد عليها، فقد كان الأولى أن يبطل شبهاته من غير أن ينشرها ويقررها؛
فإن من الناس من يلتاث بالشبهة وإن كانت تتضاءل افتضاحًا، وتدق في نظره
الحجة وإن كانت تتبختر اتضاحًا، على أنه لا خوف على المصريين من الانخداع
لتلك الشبهات مهما موهها صاحبها مادامت شبهات قولية، كما أنه لا رجاء في
اقتناع المستر ويلمور وأمثاله بما نكتب ونقول؛ وإنما العبرة بالأعمال ومن الناس
من إذا قال فعل وبعضهم يقول ما لا يفعل:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
لهذا ختمنا المقالة الثانية من تينك المقالتين بهذه العبارة:
(إذا ألقي ما شرحناه على المتحذلقين من المصريين ينغصون رؤوسهم،
ويحدجون بأبصارهم، ويقولون: إكبار وتهويل، وصياح وعويل، وما هو إلا
كلام بكلام، أما العقلاء فيعلمون أنه كلام حق، وأن الإفرنج إذا قالوا فعلوا، وإذا
عملوا أدركوا، وأنهم ما دخلوا قرية ولا خالطوا أمة إلا أفسدوا كيانها وجعلوا أعزة
أهلها أذلة وكذلك يفعلون، إن نفوس سكان الولايات المتحدة نيف (كذا) وسبعون
مليونًا وليس فيهم هندي من السكان الأصليين، لا أبعد عليك في المثال، هذه بلادك
التي تسكنها أيها العاقل انظر فيها إن كان لك بصر، واعقل إن كان لك لب، ثم
ارجع إليَّ باللوم والتفنيد، أو بالشكر والتحبيذ) .
أرأيت يا من نسي الصيحة الأولى كيف تبعتها الرادفة، فتدبر وتفكر واعلم
أن الخَطْب لا يُدفع بخطب الخطباء، ولا بكتابة الأدباء، وإن كان لا بد من قول
ينفع إذا ضر السكوت وخيفت مغبته؛ وإنما يجب العمل لإحياء اللغة العربية بالفعل
فإذا صدقتنا في العمل لحفظ لغتنا المقدسة فلا يقدر أحد على إضاعتها مهما بلغت
قوته، وعلت صيحته، ومن أضاع حقه فلا يلومن الناس على إضاعته أو هضمه
لمنفعة أنفسهم.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
فعلى من يدَّعي الغيرة على لغة دينه وملته، وقد رأى المعاول هيئت لتقويض
أركانها، وهدم بنيانها، أن يجدد لها بيتًا معمورًا، ويجعل عليها حجرًا محجورًا،
فإذا قال كلمة في الهادمين، فليقل عشرًا في البنائين؛ لأنك إذا أنصفت - وغير
الإنصاف لا يفيد - لا يمكنك أن تقول في محاول الهدم إلا أنه يفعل ذلك لمصلحة
قومه وأمته لا لمصلحتنا ولك مع المكلف بالبنيان كلام كثير إذا أحسن البناء، وكلام
كثير إذا أبى أو أساء، وأقترح الآن شيئًا واحدًا وهو تعوُّد متعلمي اللغة الكلام
العربي الصحيح، واستنجاد مشيخة الأزهر الشريف وطلب مساعدتها على ذلك
ليكون علماؤنا هم القدوة لنا في إنقاذ لغة الدين من مخالب المغتالين، وذلك بأن تلزم
المدرسين والمتعلمين بالنطق بالعربية الصحيحة في الدروس، ثم في غير الدروس
وإن لزهاء عشرة آلاف متعمم لتأثيرًا كبيرًا في إحياء هذه السنة التي هي حياة
جميع الفروض والسنن.
أما إصلاح التعليم لترتقي به اللغة فقد كتبنا فيه مرارًا كثيرة، ولو كان لنا
مساعدون يطالبون بالقول والكتابة لنفع القول وأفاد، وبلغنا به المراد، وإن لنا
لحملة على معلمي العربية في المدارس؛ فإن أكثرهم مقصر في أداء ما يفرضه
عليه ديوان المعارف، وكان الواجب عليهم أن يجتهدوا في الزيادة عليه إذا وجدوا
إليه سبيلاً.