محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (١٧)
الأمراض التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية النافض أو الملاريا Malaria لفظ ملاريا أصله بالإيطالية كلمتان [aria mal] ومعناهما (الهواء الفاسد) سميت به هذه الحمى لتوهم الناس في زمن التسمية أن سببها فساد الهواء. يطلق هذا اللفظ على أنواع من الحمى تنشأ عن ميكروب حيواني من نوع [البيروتوزوا Protozca] (راجع صفحة ٢٨ من هذا الكتاب) يعيش في دم الإنسان وينتقل من شخص إلى آخر بنقل بعض أنواع البعوض (النموس) ويسمى هذا الميكروب بالإفرنجية [Plasmodium] أو [أميبا الدم Ioemamoeba] وإنما قلنا: إنه يعيش في دم الإنسان؛ لأنه لم يعرف إلى الآن أنه يعيش في دم حيوان آخر من ذوات الثدي، ما عدا أنواعًا شبهه يعيش في دم بعض أنواع القردة ويُحدث لها حمى. تمتاز أخف أنواع هذه الحُمّى التي تحدث في أكثر البُلدان المعتدلة بتقطعها؛ بمعنى أن نوبها تفصل بعضها عن بعض بفترات يكون فيها المصاب كأنه سلم منها، أعني أنها لا تكون مستمرة كالحميات العفنة الأخرى، فتستمر النوبة بضع ساعات ثم تزول وتعود في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث [Tertian] أو في الرابع [Ouartan] والنوع الذي يعود في اليوم الثالث هو الأكثر حدوثًا في الأقاليم المعتدلة. أما الذي يعود في اليوم الرابع فيكثر حصوله في بعض بلدان إيطالية والهند. وهناك أنواع أشد مدة الحمى فيها أطول وتعرف في إيطالية بالحمى الصيفية الخريفية [autumnal - Aestiv] وفي البلاد الحارة (بالحمى المستمرة أو الخبيثة) ويكثر انتشار هذه الحمى في الأقاليم التي بين خطي ٦٣ شمالي خط الاستواء و٥٧ جنوبيَّه. الأسباب - قلنا: إن الذي ينقل ميكروب هذه الحمى هو البعوض؛ فلذا توجد هذه الحمى حيث يوجد البعوض ويكثر، وتختفي أو تنعدم حيث لا يوجد، أعني أن حرارة الجو وكثرة الرطوبة والمستنقعات التي يتوالد فيها البعوض هما أعظم الأسباب لانتشار هذه الحمى. وجميع الأجناس البشرية عرضة للإصابة بها، ولكن السود أقل في ذلك من البيض. وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار. ومما يهيئ المرض ضعف الصحة والتعرض لرطوبة أو لحرارة الشمس الشديدة أو الإفراط أو التفريط في الأكل أو الشرب. وقد يمكن الميكروب في الدم ولا يحدث الحمى، وإنما يسبب ضعف الصحة وفقر الدم أو ضخامة الطحال، ولا يستمر بقاؤه في الدم إلى أكثر من ثلاث سنين إذا لم تتكرر العدوى به. ولهذا الميكروب أنواع، ثلاثة منها على الأقل تعيش في دم الإنسان، والأخرى في دم الطيور. وقد اكتشف ما يعيش منها في الإنسان بين سنة ١٨٨١ و١٨٩٠. وهذه الأنواع الثلاثة تعيش داخل كريات الدم الحمراء وتتغذى بها فتمتص مادتها الهيموغلوبينية ويحولها إلى حبيبات ملونة (سوداء أو سمراء مصفرة) [١] . يمكن اعتبارها كأنها براز لها، فإذا كبرت خلية الميكروب انقسمت إلى عدة أقسام (تتراوح بين ٦- ١٥ أو ٢٠) وانفجر غشاء الكرية الحمراء فتخرج هذه الأجسام وتسبَح في الدم ثم تخترق كريات الحمراء وتسكنها وتفعل بها ما فعلته في الأولى. وكثير منها تقتله خلايا الطحال أو غيرها أو خلايا الدم البيضاء. وعند تمام نمو خلية الميكروب وانقسامها إلى عدة أقسام ترتفع حرارة المصاب؛ لأن الميكروب حينئذ يخرج سُمّه فيدور مع الدم. ومن ذلك ترى أن هذا الميكروب اللعين يفسد الصحة بإتلافه الكريات الحمراء التي عليها مدار التنفس وبإفرازه سمًّا يحدث الحمى، وهناك ضرر ثالث وهو إفرازه سمًّا آخر يذيب كريات الدم الحمراء فيتعب الكبد ويكثر من إفرازه الصفراء ويكثر الإسهال، وقد يبول المريض بولاً أحمر مشتملاً على مادة الدم الذائبة فيه- كما سيأتي- فتلتهب الكلى بسبب ذلك. ولا يلزم من دخول هذا الميكروب إلى الدم أن يحدث للمصاب ما ذكر فإنه قد يقتل ولا يصاب الشخص بشيء، وقد يكمن في الطحال إلى أن تضعف قوة مقاومة الجسم له فتظهر حينئذ أعراض الحمى، وقد تتغلب البِنْية بعد ذلك على الميكروب فتبيده وتحصل للجسم مناعة تقيه شره مرة أخرى. وهذا الميكروب قد يصيب الأجنة في أرحام أمهاتها غير أن ذلك نادر جدًّا. أما البعوض الذي ينقل العدوى من شخص إلى آخر فهو من النوع المسمى [Anopheles] وميكروب الملاريا لا يضره بشيء إذا دخل جسمه. واعلم أن ذَكَر هذا البعوض لا يمص الدم بل الأنثى فقط، وهي التي تحمل العدوى. ومدة حياتها تزيد عن شهر في الغالب. وتضع كل أنثى نحو ١٠٠ بيضة على سطح الماء طول كل بيضة نحو نصف ملليمتر أو ملليمتر كامل. وبعد يومين أو ثلاثة يفقس. وإذا كان الجو حارًّا فقست قبل ذلك، وتعود الأجنة في الماء وهي المسماة بالعلق، وبعد عدة أيام (١٣-٢٣) تصير بالتطور بعوضة. ويمتاز هذا النوع من الأنواع الأخرى بما يأتي: (١) أن أنثاه لا تلسع الإنسان غالبًا ولا تمص دمه إلا ليلاً. (٢) أن شواربها [Palpi] طويلة مثل منقارها [Prboscis] الغليظ. (٣) أنه توجد في أجنحتها نقط مسودة بخلاف أجنحة الأخرى فإنها رائقة. (٤) أن جسمها أطول وأنحف. هو مستقيم بخلاف الأخرى فإنها أغلظ وإذا وقفت على الحائط رأيت ظهرها محدودبًا. واعلم أن بعوضة الملاريا لا تنقل العدوى إلى بعوضة أخرى، فلا يوجد الميكروب فيها إلا إذا أخذته من الإنسان بامتصاص دمه. وإذا امتصت البعوضة دم المصاب لقحت [٢] بعض خلايا الميكروب الخلايا الأخرى التي تتطور وتصل غدد اللعاب في البعوضة لتخرج منها أثناء وَخْز شخص آخر فتعديه بالملاريا، ومدة هذا الطور الذي يقضيه الميكروب في جوف البعوضة تختلف من ٦- ١٦ يومًا بحسب حرارة الجو. والبعوضة لا تطير عادة من مواطنها إلى أبعد من نصف ميل إنكليزي. الأعراض- تكون نوب هذه الحمى في أول الأمر غير منتظمة غالبًا، ولعل السبب في ذلك أن الميكروبات التي تدخل الجسم تكون من أنواع مختلفة، فتتغلب البنية على أقلها عددًا، وبذلك ينفرد بالجسم نوع واحد وهو الأكثر عددًا، وفي بعض الأحيان يبقى نوعان أو ثلاثة. طور التفريخ يتراوح بين ٣ أيام و١٢ يومًا، وهو طويل في الأشكال المنتظمة، قصير في غيرها، وقد يحصل المرض بمجرد التلقيح. وفي بعض الأحوال تتقدم الحمى بعض أعراض أخرى كالتوعك والصداع وآلام بالأطراف وغثيان وغيرها. ((يتبع بمقال تالٍ))