كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي: أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته تقرير مطالبه الآتية: (١) ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من ١٠٠ أورطة. (٢) أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية. (٣) أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين. (٤) مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين. (٥) تعيين مستشارين فرنسويين للمالية. ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض طلبات السفير. ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه. هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط، والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من (٥٠٠٠٠) جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ......) والناس ينتظرون من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور. أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية. ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح المدارس ولا إصلاح بدونها! ! رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم يكتف بالرد عليكم. هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) . اهـ. (المنار) إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك كرامة لمولاي إدريس - رحمه الله - فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي خسر بها الروس نحو١٥٠رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاً عليهم.