شرعت جريدة فلسطين بترجمة هذا الكتاب بالعربية ونشره تباعًا فيها، فرأينا أن ننقل بعض فصوله عنها بمناسبة ما نشرناه في الأجزاء الماضية عن الجنسية في البلاد العثمانية، ولما فيها من العبر. الفصل الأول إن المساعي التي بذلها الشعب الإسرائيلي للخلاص من منفاه بعد أن مضى عليه فيه نحو ألفي عام، قد تحولت منذ ٢٥ سنة من حالة التفكير والسكون إلى حالة الحركة والعمل، وذلك لإعادة حياته السياسية الحرة في بلاد أجداده. ولقد كان ما لاقاه اليهود من المذابح وما قاسوه من الاضطهادات في غربي روسيا من أكبر البواعث على إخراج هذه المجهودات من حيز الفكر إلى حيز العمل. ومن يتتبع تلك المساعي يجد أنها كانت تتغير وتتطور تبعًا للظروف ومجاورة لِمَا كان يضعه الزعماء من البروغرمات والخطط. فجمعيات (محبة صهيون) و (الصيهونية الروحية) و (الصهيونية السياسية) لم تكن إلا وسائط مختلفة وطرقًا متعددة ترمي جميعها إلى غاية واحدة وتوصل إلى غرض واحد. *** الصهيونية السياسية كل أمة تسعى وراء كيان سياسي مستقل حر، يجب عليها توصلاً لغايتها هذه أن تراعي ثلاث حالات ضرورية: حالة الشعب - وحالة البلاد - وحالة الظروف الخارجية. ١- حالة الشعب: من الشروط الأولية لكل أمة تسعى وراء الاستقلال السياسي والاقتصادي والأدبي أن يكون شعبها على شيء من الاستعداد لذلك، كأن يكون ذا شعور قويم راق، وجمعيات قوية منظمة، ورؤوس أموال كبيرة عمومية، وصبر على احتمال المصاعب، وأهم من ذلك كله أن يكون مستعدًّا دائمًا لتضحية مصالحه الحاضرة أمام الصالح العام المستقبل. فإذا كانت هذه الشروط جميعها لا توجد في الشعب ولم تبذل المساعي اللازمة لإيجادها فيه، استحال على الأمة أن تنشئ لنفسها مركزًا سياسيًّا حرًّا. ٢- حالة البلاد: أمّا حالة البلاد أو الأرض التي تريد الأمة أن تستقل بها استقلالاً سياسيًّا فيجب أن تكون ملكًا لها بالفعل من الوجهتين الاقتصادية والعقلية، أعني أن تكون جميع قوى تلك الأرض الحيوية في يد شعبها، وإن كانت الأرض نفسها تحت سيادة غيره اسمًا، وأن يكون للشعب بها علاقة روحية، وتكون تربتها مشبعة من دمه وعرق جبينه، وإلا كانت غير صالحة للاستقلال. ٣- حالة الظروف الخارجية: ثم لو فرضنا أن الشعب كان جامعًا لكل شروط الاستقلال وكانت حالة البلاد موافقة له، فاستقلاله فيها وإعلان حكمه عليها، لا يتيسران له إلا إذا ساعدته الظروف الخارجية أيضًا، لارتباط مصالح جميع الشعوب بعضها ببعض وإن تشعبت الطرق المؤدية إليها. ولذلك كان لا بد في كل حركة قومية من بروغرام سياسي تتمشى عليه لاجتناب ما ربما يقف في طريقها من العثرات، وإقناع الحكام والمحكومين بإخلاص تلك الحركة وما ينجم عنها من الفوائد، مع السعي في الوقت نفسه باستمالة الرأي العام الأجنبي، واستخدام أحسن ما فيه من القوى العقلية والإنسانية لمنفعة تلك الحركة، وإلا أصابها الفشل. *** الفصل الثاني إن أحسن بروغرام يجب السير عليه في كل حركة قومية تتطلب الخلاص والاستقلال هو العمل لها من الجهات الثلاث المذكورة. وبهذه الطريقة فقط تتقدم وتتقوى من يوم إلى يوم ومن سنة إلى أخرى. فيصلح حال الشعب ويسهل عليه امتلاك البلاد، وتصبح الظروف الخارجية ملائمة له، وتكون جميع القوى التي تملكها الأمة قد استخدمت لفائدة تلك الحركة، فبينما تسعى جماعة مثلاً لتكثير رؤوس الأموال وإفعام خزائن الشعب منها، تكون غيرها ساعية وراء تعليم العامة وإنماء مداركها وشعورها، وبينما تكون جماعة ترود البلاد وتدرس حالتها، تأتي أخرى لاستثمارها واستعمارها، وبينما يقوم البعض بشرح رغبات الأمة وغاياتها أمام الشعوب الأجنبية، يسعى آخرون بالتعارف مع الملوك والوزراء وما يترتب على ذلك من الأمور السياسية؛ لأن على مجموع هذه الأعمال المتفرقة التي يقوم بها الأفراد والجماعات في جهات متعددة وفي وقت واحد - يتوقف نمو الحركة ونجاحها. وبالعكس فإن النتيجة تكون عقيمة أو قليلة الفائدة [١] إذا حصر المسعى في جهة واحدة، وبقيت قوى كثيرة مهملة بدون عمل. ومن المحتمل أيضًا أن يكون هذا العمل الناقص ذا نتائج محزنة في المستقبل؛ لأن أقل عارض يطرأ عليه يوقف مجاريه فيفقد العملة نشاطهم ومراكزهم، وتقع عامة الشعب في أزمة شديدة، وتصبح الحركة في طور حرجٍ جدًّا، وفي ذلك من الأضرار ما لا يخفى على أحد. أما إذا كان العمل مشتركًا، وفي جهات متعددة فحبوط جزء منه في جهة يعادله نجاح جزء آخر في جهة أخرى. وهكذا تبقي الحركة سائرة سيرًا طبيعيًّا مطردًا. لنتصور الآن أن الظروف الخارجية كانت موافقة لرغبات أمة ما تريد أن تجدد تاريخها وحياتها الاستقلالية في أرض ما، ووافقت الحكومات والشعوب جميعها على رغبتها هذه، ولم تجد مانعًا خارجيًّا يقف في سبيلها؛ ولكن شعبها كان من وجهته قليل الثقة بقواه الخاصة قليل الاستعداد لبلوغ الغاية التي ترمي إليها: لا جمعيات منظمة لديه، ولا أموال عمومية تساعده على اغتنام الفرص المهمة واستخدامها، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة حينئذٍ أن تلك الفرصة المهمة التي سنحت تفوت، وربما لا تعود في عدة قرون. ومثل هذه الفرص عرضت مرتين لليهود عندما طردوا من أسبانيا في أيام الدوق جوزيف دي نكسوس فلم يستخدموها. ثم لو تصورنا عكس ذلك ورأينا الشعب مستعدًّا للحياة الاستقلالية وليده جميع الوسائط اللازمة وكانت البلاد في قبضة يده فعلاً ولكن الظروف الخارجية كانت لا تساعده أو لا تسمح له بالحصول على بغيته، إما لأنه لم يهتم بها، وإما لأنها لم تكن على استعداد تام لقبول فكرته، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة إذ ذاك أن الشعب يضطر إلى أن يبقى تحت العبودية والنير في انتظار أيام أحسن. ومثل هذه الحالة تنطبق الآن تمامًا على حالة أرمينيا العثمانية التي وإن كان استقلالها أمرًا لا بد منه، إلا أن ذلك يطول ما دامت الظروف الخارجية غير موافقة له. على أنا إذا وجدنا لِمَا تقدم مثالاً، صَعُبَ علينا جدًّا أن نجد في التاريخ العلم كله من أوله إلى آخره حالة مفجعة أسوأ من حالة شعب ذكي متعلم راق كالشعب اليهودي، هبَّ لجمع شتات قواه وتنظيم رؤوس أمواله، وشعر بوجوب استمالة شعوب وحكام العالم أجمع لمساعدته والأخذ بيده، فوجد بعد كل هذا العناء أن البلاد التي ينشدها وهي غاية أمانه ومطمح أنظاره ومرمى مساعيه التاريخية - بين أيدي شعب آخر يضارعه اجتهادًا ولا يقل عنه في مداركه الاقتصادية. ولذلك فإنني [٢] أشعر بوجل شديد وترتجف أعصابي عندما أتصور أن الشعب الإسرائيلي ربما وجد نفسه في مثل هذه الحالة يومًا ما إذا ظلت مساعي بعض زعمائه منصرفة إلى جهة واحدة. وحينئذٍ قل: السلام على تاريخه المملوء بالآلام والاضطهادات وعلى أمانيه وموضوع أحلامه وآماله، وقل: السلام على مستقبله الذي أضرّ به جهل الزعماء، أكثر من مساعي الأعداء. *** الفصل الثالث إن سبب قلة نجاح الحركة الصهيونية في الخمس وعشرين سنة الأخيرة يرجع معظمه إلى النقص في العمل، فجمعية (محبة صهيون) لم تهتم في بحر عشر سنوات في غير أمر البلاد وحالة الأرض فقط، فلم تفكر في إعداد الشعب لها وإنماء مداركه العقلية، ولا بإنشاء رؤوس أموال عمومية، ولم تعرف أن تحول هذه الحركة إلى حركة رسمية سياسية، ولم تجرب أن تستميل إليها الدول الأجنبية؛ بل اكتفت بأن تظهر في مظهر المحسن بإنشاء بضع مستعمرات تعيش من مال الإحسان، ولذلك انتهت هذه المدة الأولى من تاريخ الصهيونية بأزمة سنة ١٨٩١. على أن المدة الثانية التي تلت تلك الأزمة وهي مدة انتشار الصهيونية الروحية لم تكن بأسعد حظًّا من الأولى فقد أُهمل فيها أمر البلاد كما أُهمل في التي قبلها أمر الظروف الخارجية. وبعد خمس سنين انصرفت في أثنائها جميع المساعي إلى التعليم الداخلي وتنبيه الشعور العقلي فقط، نبغ عدد قليل وجملة من الخياليين، فلم يجدوا لما تعلموه فائدة محسوسة أو عملاً ماديًّا، وبقي مجموع الأمة جامدًا، وأصبحت الحركة الصهيونية مهددة بالموت. إلى أن عُقد المؤتمر الأول فابتدأت به المدة الثالثة وهي عصر الصهيونية الذهبي، فبعثت الحركة من مرقدها ودبت في الأمة روح جديدة؛ لأنها وجدت في المؤتمر ضالتها، ووافقت قراراته هوى في نفسها. إن جميع الصهيونيين الحقيقيين أصحاب الوجدان ومفكري الأمة رأوا في بروغرام مؤتمر (بال) الأول إدعام البروغرامات السابقة بأخرى جديدة حوت صفوة ما تقرر، وخلاصة رغبات الأمة، ولا سيّما في تصريحه جليًّا على مسمع من العالم أجمع بأننا نجاهد لإنشاء حكومة يهودية في فلسطين، وأنه لا بد لنا لنصل إلى هذه الغاية من أربعة أمور: ١- امتلاك فلسطين اقتصاديًّا وأدبيًّا. ٢- تنظيم قوى الشعب وإنشاء رؤوس أموال عامة له. ٣- إنماء الشعور القومي في الشعب وترقيته. ٤- السعي بكل الطرق السياسية لجعل جميع الظروف الخارجية موافقة لنا. وفي الحقيقة: إن الشجاعة الأدبية التي أظهرها هذا المؤتمر في إعلان حقوق الأمة الإسرائيلية في فلسطين، والخطة الجلية الصريحة التي رسمها لبلوغ هذه الغاية، والقوة المعنوية التي تجلت من خلال أبحاثه - كان فعلها في الشعب اليهودي فعل المعجزات، فإنه تنبه من سباته العميق، وفي كل محل بلغت إليه أخبار المؤتمرعقدت الاجتماعات، وألقيت الخطب، فأسست الجمعيات، وتألفت الشركات. ومنذ ذلك الحين أخذ العمل يتقدم بسرعة وبجد واجتهاد عظيمين، فاشتد ساعد الجمعية الصهيونية وأنشأت صندوق المال الملي، وانضمت لها قوى سياسية خارجية، وظهر لنا من نتيجة مقابلات الملوك والوزراء بأن حركتها ستنمى وتتقوى على مر الأيام. غير أن القريب من مركز إدارة هذه الحركة والواقف على مجرياتها، يلاحظ في الحال أن الخطأ العظيم الذي كانت الصهيونية تتألم منه في مدتيها الأولى والثانية - وأعني به قيادة الحركة من جهة واحدة فقط وتوحيد المساعي وصرفها وراء نقطة واحدة من نقط البروغرام - مازال يُرتَكَب حتى الآن، وذلك بسعينا وراء العمل السياسي فقط لاجتناب العقبات الخارجية. أما الجهات الأخرى فلم يلتفت إليها؛ بل أهملت بالكلية. فالأمر الأول من بروغرام مؤتمر (بال) وهو امتلاك (فلسطين) اقتصاديًّا وأدبيًّا كان من نتيجة قلة الاهتمام به أن اللجنة التي عينها المؤتمر للنظر في المسائل الاستعمارية لم تعمل شيئًا؛ لأنه لم يدخل صندوقها شيء من المال، ووجد مديرو هذه الحركة في فلسطين أنفسهم بعد ست سنوات أنهم لم يتقدموا خطوة إلى الأمام؛ بل ظلوا في ذات النقطة التي ابتدأوا منها. ثم إن الآداب الإسرائيلية لم تتقدم أيضًا تقدمًا محسوسًا، وكانت مسألة البحث في إحيائها تبدو في كل مؤتمر كشبح مرعب. والدليل على ذلك النجاح البطيء الذي صادفته اللغة العبرانية في السبع السنوات الأخيرة مع أنها من أكبر العوامل على تنبيه الشعور القومي. *** الفصل الرابع ظهر مما تقدم أن إدارة العمل من جهة واحدة لا يمكن أن تأتي بالفائدة المقصودة، ففي الوقت الذي كانت فيه مساعي الرؤساء جميعها منصرفة إلى العمل السياسي، كان بقية الأعضاء يطلبون بالحاح شغلاً عمليًّا آخر، ولكن هذا الشغل لم يكن موجودًا، والعمل السياسي - كما لا يخفى - لا يصلح له إلا رجال مخصوصون، وهكذا أهملت نفسها التي عليها مدار الحركة، ولم يلتفت إلى حفظ المواصلات معها، وإرسال قوى جديدة إليها، كما أنه لم يهتم أحد للأعمال العقلية وتنبيه الشعور القومي، وجل ما عمل إذ ذاك كان منحصرًا في جمع المال وإلقاء الخطب، إلى أن جاء المؤتمر الرابع. وهذا بدلاً من أن يكون صهيونيًّا - أي أن يهتم بقيادة الحركة في الطريق السوي - اقترح وضع بروغرام، خلاصته: إنشاء جمعيات للتعاون وجمعيات خيرية وجمعيات إسعاف لإطعام الجياع وصندوق للتسليف. فجعل للحركة الصهيونية دخلاً في كل شئ حتى في جمعيات رجال المطافي الحرة، فكانت النتيجة أن العزائم انحلت وشعر الناس بأن هذه الأعمال لا تصل بهم إلى الغاية. ثم حدث ما هو أنكى من ذلك فقد استقرّ في الأذهان أن الصهيونية السياسية رغم ما بذلته من المساعي واستفادته من وعد الحكومات بمعاضدتها، هي عاجزة عن تغيير طرق معيشة الشعب اليهودي وإصلاح أحواله وتحسين معاملته ودفع الحيف عنه في أكثر البلاد التي يقطنها، ولذلك كان كل عمل الصهيونية في نظر الأمة الإسرائيلية لا يساوي شيئًا. وقد أصاب الناس في هذا الاعتقاد؛ لأن أمورهم الاقتصادية كانت تزداد سوءًا من يوم إلى يوم، والمهاجرين يغادرون بلادهم بالألوف، والحرائق والمذابح والاضطهادات يتلو بعضها بعضًا، الأفواه تردد بأصوات عالية قائلة: أعطونا عملاً، نريد شغلاً، فلم يجدوا من الصهيونية ما يحقق آمالهم فيها. ومما زاد في الطين بلة على إثر ذلك: قيام عثرة جسيمة في طريق سياستنا اضطرتها في سنتها السابعة أن توقف عملها مدة من الزمن فوقفت الحركة من جميع الجهات. على أن وقوف دولاب الحركة هذا لم يكن ليضرها بمقدار ما أضرّت بها فكرة بعضهم في استعمار أوغندا، وهي أعظم غلطة ارتكبت في مدة الخمس وعشرين سنة الماضية من تاريخ الصهيونية؛ لأن الأنظار تحولت إذ ذاك إلى هذه الوجهة. وانشقت الحركة إلى قسمين وانتشبت الحرب بين الإخوة وتمزق العمل فكان من نتيجة ذلك حدوث أزمة هائلة. وبعد أن كان الصهيونيون قبل المؤتمر السادس أقوياء لا في سياستهم أو في أموالهم أو في جمعياتهم فقط؛ بل في اتحادهم ووحدة مبدئهم - جاءت هذه الفكرة فهدمت ذلك الاتحاد إلى سنين كثيرة، وزادت عليه فقضت بما أحدثته من التأثير السيئ على زعيمنا الأكبر هرتسل العظيم منشئ المؤتمرات، وذلك عندما رأى صروح عمله تنهار وأتعابه تذهب أدراج الرياح. إن الأمة الإسرائيلية تجتاز الآن زمنًا مخيفًا فقد أصبحت لا قائد لها ولا بروغرام، وأصبح أفرادها لا ثقة للواحد منهم بالآخر، والكل يجهل ما تؤدي إليه هذه الحالة. ومَن يعلم ماذا يضمر لها المؤتمر السابع، وهل هو يجري على خطة المؤتمر السادس ويتمم ما ابتدأ به من هدم جميع ما اشتغلنا فيه مدة ٢٥ سنة أو هو يستخرج من اليأس قوة عظيمة فيسعى للتفكير عن تلك الزلة الهائلة التي ارتكبها المؤتمر السادس فيضع خطة جديدة لإدارة العمل. إنني أريد أن أعتقد أنه سيختار الخطة الثانية؛ لأن السبيل الموصل إليها سهل هين، وهو الرجوع إلى بروغرام مؤتمر (بال) بجملته وما فيه من الصراحة. *** الفصل الخامس إن النقطة الأساسية في بروغرام مؤتمر (بال) هي إنشاء وطن سياسي حر مستقل للشعب الإسرائيلي في فلسطين. ويفهم من هذا بوضوح أن الغاية الوحيدة من الحركة الصهيونية هي إنشاء بلاد سياسية حرة مستقلة لليهود في فلسطين، لا إيجاد ملجأ أو مركز روحي لهم، وقد ذُكرت فلسطين ولم يُذكر غيرها؛ لأن كل سعي يرمي إلى بلاد غير فلسطين ليس هو من الصهيونية في شيء، وأحرى بالقائمين به أن لا يستظلوا بالعلم الصهيوني لنشر فكرتهم. ولذلك أصبح من واجب المؤتمر السابع أن يهدم ما وضعه أولئك المنافقون المتظاهرون بالصهيونية، ويزيد على بروغرام المؤتمر الأول كلمة واحدة لها معنى كبير وهي كلمة (فقط) أي (في فلسطين فقط) ويحتاط بمادة أخرى يضيفها إلى القوانين الأساسية الصهيونية تضمن لمجموعها التنقيح والتغيير فيها. وهنالك أيضًا أشياء أخري يجب على المؤتمر تقريرها. منها أن يصادق على طرق العمل التي وردت في المواد الأربع المذكورة في بروغرام مؤتمر بال. وأن لا ينقص حرفًا منها ولا يزيد عليها شيئًا من شأنه أن يصرف الأذهان إلى طرق أخرى كإنشاء ملاجئ أو مستعمرات خيرية، فإذا عمل ذلك سَهُل عليه إنهاض الحركة من كبوتها والقبض على أَزِمَّتِها والسير بها في أقوم طريق. وها نحن أولاء نأتي الآن على شرح تلك المواد الأربع من بروغرام مؤتمر بال لا كما وردت بالترتيب ولكن بحسب درجاتها في الأهمية وما يتراءى لنا من سهولة تناولها. (لها بقية) (المنار) لو لم ينشر من هذا الكتاب الصهيوني إلا هذه الفصول لكفت من يعتبر من العرب الفلسطينيين وغيرهم عبرة وبيانات لمقاصد هؤلاء الصهيونيين. وليعلم من لم يكن يعلم دين هذه الأمة وتاريخها أن الصهيونيين إذا تم لهم ما يريدون فإنهم لا يبقون (في أرض الميعاد) التي يؤسسون ملكهم الجديد فيها مسلمًا ولا نصرانيًّا. وليست أرض الميعاد أو فلسطين عندهم ما نسميه نحن الآن فلسطين فقط؛ بل هي في عرفهم وتحديد كتبهم الدينية تمتد إلى سوريا حتى (النهر الكبير) أي نهر الفرات. فهذه بلاد لا يجوز عندهم أن يقيم فيها أحد غير الإسرائيليين. وفي سفر (تثنية الاشتراع) أن الرب أمرهم عند دخولهم فيها بعد خروجهم من مصر على يد موسى صلى الله عليه وسلم أن لا يستبقوا من أهلها نسمة ما. والنص في ذلك تجده في باب الفتاوى. نعم إنهم لا يبيدون الآن مَن فيها من غير اليهود بالسيف والنار كما فعل أسلافهم من قبل؛ بل يبيدونهم بقيد الكيد والمال، وهما قوتان لهذا الشعب الصغير ترهبهما كبرى الأمم والدول، حتى إن دولة الروسية القوية القاهرة أنشأت تستميل في هذه الأيام يهود بلادها على قلتهم لئلا يحدثوا فيها أحداثًا وفتنًا داخلية تزلزل أقدامها في هذه الحرب التي تقتضي مصلحة الدول المحاربة فيها أن لا يكون لها شاغل داخلي يشغلها. فماذا عسى أن يفعل العرب أصحاب فلسطين من أسباب المحافظة على وطنهم وأملاكهم فيه على تفرقهم أو جهل السواد الأعظم منهم بكنه الخطر وكنه قوة مزاحميهم، وعلى جهلهم أيضًا بقوة أنفسهم وبطريق الانتفاع بها؟ لا أقول: إنه لا يمكن أن يعملوا؛ ولكن أقول: لا بد من الروية والحزم وقوة الاجتماع، ولا بد من المسارعة إلى تنظيم وسائل الدفاع، وليعلموا أنه لا يكاد يوجد شعب من شعوب الأرض غافل عن قوته واستعداده كالشعب العربي. فقوته واستعداده كامنان فيه كمون النار في حجر الصوان تحت الثلج، فمن ذا الذي يزيل أو يذيب الثلج عن هذا الحجر الصلد، وأين مقدحة الحديد التي تقدح النار من هذا الزند؟ ستجيب عن هذين السؤالين الأيام، فإن الجواب عنهما أحداث وأفعال لا أحاديث ولا كلام.