أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم ربما يسأل سائل فيقول: سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه الحقيقي، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم الكونية، ومقوّمي العقول البشرية، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء العلوم العقلية، والفنون العصرية، أوَليس الناس تبعًا لهم؟ أفلا يكون للأديب عذره فيما يراه ويسمعه حوله؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة، ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم، وسَكَنَةُ الأثواب العَباعِب، وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين، ثم رفع أمره إلى الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن. فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور، ومهيمن على الحق لا يحيف، إلخ ما يقال في الشكوى. فأجيب طلبه لكن لم ينفعه ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب. ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب) كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين. فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية (رحمه الله تعالى) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها؛ لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة، وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ المالكي. هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في استهجان إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافيا) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع الأزهر؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين. أم لم تنشر في العام الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة؟ ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك بالقديم، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين، وإقامة الحرب على كل من حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم، وإن كان في البقاء عليه تلفهم، وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون، وإن أجمع عليها المسلمون الآخرون. ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء وجَلَبَةً، وهَيْعاتٍ مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا يصيحون أكتعين أبتعين: هذا عدوان على الدين، هذا توهين لعقده المتين، هذا تغرير بأهله المساكين، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم. هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال: إنها عارض عرض عليهم، أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات، والشمول في جميع الاعتبارات، فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة واحدة تخرج من أفواههما وهي: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٢) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار. اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها. ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس منه. فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد، والتقيد به بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدينة السليمة أحبّاء. هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف؟ فقال قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف فقال: إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه (ممن مات) قال: إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله. وإذا قيل لأحدهم: إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها، وإن أصول ديننا تسمح لنا بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون (وهم منا) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك من البديهيات قال: إنما أريد نصًّا فقهيًّا، لا دليلاً عقليًّا. وإذا قيل لهم: اختلت الشئون، وفسدت الملكات والظنون، وساءت أعمال الناس، وضلت عقائدهم، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال الفقر، فتضعضعت القوة، واخترق السياج، وضاعت البيضة، وانقلبت العزة ذلة، والهداية ضلة، وساكنتكم الحاجة، وألفتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهلا نبهكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا: ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع. واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطع الأمل، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل. رأي رنان في الإسلام: هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية مع العلم نقلته عنه الجامعة: (على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة. إلا أنني أخشى أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين الإسلامي. ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة الأديان بالمرة؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه. والثاني: أنه لا يطيق أن تكون الأديان عثرة في سبيله. فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة لازب) . اهـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل. فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم، أو نجاحًا في أعمالهم، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين؟ ومن أين يكون ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين؟ فإن لم تسلم بأن هذا اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه، أو استهجان له أو احتقار لشأنه، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن ينفر بهم عن كل مجد، وأن يحرمهم كل نفع، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان وغيره فما قولك في هذا؟ ؟ (له بقية) (المنار) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب. ((يتبع بمقال تال))