(١٩) من هيلانة إلى أراسم في ٨ مايو سنة ١٨٥ أتدري أيها العزيز أراسم أني فكرت كثيرًا فيما ختمتَ به مكتوبك الأخير وورد على ذهني منه خاطر يجب عليّ قبل الإفضاء إليك به أن أبين لك كيف ورد. جاء الدكتور وارنجتون وأسرته إلى هنا وأمضوا يومين، فسنَّ لي شبه قانون أجري عليه في معيشتي، بل هو الذي يتبعه معظم الإنكليزيات الحوامل اللاتي يوصفن عادة بأنهن في حالة شاغلة، نصح لي بإدامة الرياضة البدنية والتنزه، ثم قال ما نصه: إياك والاقتراب من القصص التي تتولد من قراءتها الانفعالات السيئة الشديدة، كان اليونان أعقل منا؛ لأنهم كانوا يحيطون نساءهم في مدة الحمل بالتماثيل والصور الجميلة المنسوبة لمشاهير الأساتذة في فن التصوير، وإني لست أجزم بأن هذا كان سببًا في إتيان أولادهم حسان الخلقة، ولكني على كل حال أقول: إذا كان مثل هذه التماثيل والصور وغيرها من الأشياء البديعة الصنع يحدث في نفوس ذوي الفطر السليمة من الناس شعور الارتياح والانبساط، ويكون فيها مدعاة اعتدال الأمزجة وتوافق الطبائع، فلم لا يكون من موجبات حفظ الصحة؟ كثير من السيدات عندنا يغلب عليهن في طور الحمل الخمود وفتور القوى بسبب البطالة التي هي منشأ الأمراض العصبية، فإنهن لا شغل لهن فيه سوى مساورة الأوهام ومطاردة الخيالات. أما أنت فلِما أعهده فيك من الشغف بالمناظر الخلوية أوصيك بالسعي وراء اجتلاء ما في الخليقة من رائع الجمال ورائق الحسن وبأن تتخذي لنفسك أعمالاً مرتبة تشتغل بها يدك وعقلك. ولقد رأيت أن هذه النصائح كلها حكمة وعلم، فأخذت نفسي بها وخرجت للتنزه من اليوم التالي لتلقيها بعد تدبير بعض الشؤون البيتية، فلما رأتني نساء القرية مبكرة على الطريق بعثهن كرم أخلاقهن على أن يبتدرنني بالتحية قائلات: (صباح بهيّ وبكرة سنية) ولم يكن الصباح كما قلن ولكنها عادة الناس هنا إذا تبادلوا التحية بالوقت فهم دائمًا يميلون إلى امتداحه قليلاً، فشكرت لهن حسن قصدهن. لم أسر في تنزهي على الخليج، بل اعتسفت الطريق في ريف يتسع فيه الفضاء للماشي كلما جدّ به السير، ومما لاحظته أن نساء كورنواي يضعن على رؤوسهن كمات [١] من القش، وقد اخترت أن أحذو مثالهن في ذلك، فوضعت واحدة منها اتقاء لحر الشمس وحبًّا لما فيها من البساطة الكلية، وأخالني أروق في نظرك لو رأيتني بها، كنت أتقدم في هذا الريف على جهل من قراه، ولكني كنت آمنة من الضلال لأني ما كنت قاصدة جهة معينة، وكان ذلك اليوم من الأيام التي كثيرًا ما ترى في غرب إنكلترا، فكانت سماؤه محتجبة بالجهام [٢] وكانت تأتي من البحر ريح بليل [٣] مسفسفة [٤] فتجري بين أشجار العليق فتولد فيها رعدة طويلة , وكانت الطيور تغرد حول عشاشها. قد أتى عليّ حين من الدهر كنت فيه أوجد على الخليقة إذا بدت عليها سمات الاغتباط والسرور، وأنا حزينة الفؤاد متبلبلة الأفكار، فما زلت بي حتى أثبت لي أن هذا الوجد والانفعال باطلان بعيدان من الإنصاف، وناشئان من الأثرة وحب الاختصاص، فأصبحت الآن بفضل نصحك لي أُسَرّ بما أجده في سائر المخلوقات من آثار الفرح والابتهاج، وقد تبين لي في ذلك اليوم بما انبعث في قلبي من وجدان الحنان والرحمة، وبما عاينته في المخلوقات من شواهد الفضل والنعمة أن الله سبحانه لم يلعن الأرض ولم يغضب عليها. كانت بكرتي هذه من البُكر التي أنت تعرفها , يدور في هوائها على سكونه مادة غزيرة مختلفة العناصر للتوليد والخصب، فكان ينبعث من أشجار العوسج وحقول القمح والمخارف [٥] الموطأة نسمات فاترة مقوية كانت تسري بسببها الحرارة في جسمي فتصل إلى وجهي فكأن الأرض كانت مصابة بحمى الربيع، ولقد ذكرتك في تسياري بين هذه المزارع، وفكرت فيما سأناله عما قليل من شرف الأمومة إن لم يحدث من الطوارئ ما يقطع موصول آمالنا، وفي هذا الوقت أحس قلبي بما انطوى عليه مكتوبك فتسابقت إلى ذهني منه هذه الكلمات وهي (فإني قد استودعتك إياه) . عند ذلك صِحْت قائلة: لماذا لا أكون أنا في الحقيقة معلمة ولدي؟ أليس من المعروف عن نساء الولايات المتحدة أن معظم تعليم الأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا موكول إليهن؟ بل إن مما يؤكده العارفون أنهن يَفضلن الرجال في القيام بهذه الوظيفة الصعبة، وإني سأجرب نفسي في الاقتداء بهن على أن هذا هو ما يراه زوجي، فمن حيث إنه قد عول على ترك المزايا التي لمدارسنا وغيرها من معاهد التعليم لاعتبارات أقدرها حق قدرها، فلا بد أن أحل محله ولو حينًا من الزمن في القيام على تلميذنا الآتي وتربيته، وسيكون هذا آكد فرض عليّ وأَخصّ ما أفتخر به وأزهو , أُشهد الله سبحانه على ما أقول وأُشهد عليه أيضًا أمومة الفطرة الكبرى التي تدعوني بما فيها من القدوة إلى العمل وإنماء جميع قواي. ربما أضحتْك مني هذه المزاعم , وإني لعلى علم بكل ما يعوزني لأداء هذا الواجب الصعب المعضل؛ لأني ينقصني كثير من المعارف وإن كان والداي لم يغفلا تربيتي الأولى، ولكن ما الذي يمنعني من الاستمرار على التعلم بنفسي إذا كنت لا أزال في السن الملائم له، فسأعلم ولدنا في الزمن الذي يشب فيه وينمو وأتعلم أنا أيضًا بتعليمه، ولن أعتقد أني أمه حقًّا إلا إذا نفثت في روعه أفكارك وزرعت في نفسه أصولك. سنتعاون بقلبينا على هذا الأمر الخطير، فعليك الإرشاد وعليّ العمل، وقد وعدتك بأن أكون قوية، وهذا هو قصدي وسأبلُغه ملتمسة من الرياضة البدنية والمطالعة ما يلزمني من الصحة والعافية في جسمي وعقلي لأداء هذا الغرض العظيم , ومعاذ الله أن يكون من قصدي أن أصير إلى أحسن مما أنا عليه الآن، نعم إني لست من الوليّات ولا من النُسّاك؛ فقد أتى عليّ زمن كانت تجذبني فيه جواذب اللذات الدنيوية، وليس هذا الزمن عني ببعيد، فإني لم أتجاوز الثالثة والعشرين من عمري، ولم يكن تركي معاهد التمثيل وملاهي الغناء وأندية الظرفاء التي كنت أفتخر فيها بمصاحبتك مبنيًّا على رغبتي عنها وميلي إلى غيرها، وإنما كان ذلك لما أصابنا من صروف الدهر ونوائبه التي سيظل ما جرته لي من الكآبة والحزن مخيمًا عليّ طول حياتي، على أنني لست آسى على شيء مما فات، فأرجو أن لا تظن بي ذلك، وأعتقد أني لو كنت مطلقة من قيود هذه المصائب لما انفككت عن اختيارك لي خِلاًّ وقرينًا، واعلم أن الفراق لم يزدني فيك إلا حبًّا، وإنما أنا أشكو من ألم في نفسي، ولكن كما توجد طرق مادية لحفظ صحة البدن توجد أيضًا طريقة معنوية لحفظ النفس وسلامتها من الأمراض وهي رفعها إلى معالي الأمور، وسأجربها فإن ذلك - على ما يُقال - يسكن من آلامها، وإذا صح هذا فأي غاية تسمو إليها أفكاري وتعلو بها نفسي أشرف من رعاية ولد أُربيه على أصولك وأخلاقك، إن هذا لهو أكمل قصد وقفت نفسي على إدراكه. أنا مع انتظاري لهذا العمل الجليل، أشتغل الآن بشؤون بيتية محضة، أما قوبيدون فإنه قد صمم على أن يعمل عمل المزارعين فإنه قد جلب إلى مسرح الدواجن في بيتنا دجاجًا وبطًّا وماعزة وغيرها، وكان في البيت برج عتيق مهجور فعمّره بالحمَام، وإني مهتمة غاية الاهتمام بكل هذا العالم الصغير، وكنت قبلاً أعتقد في نفسي أني على شيء من علم الحيوانات لما قرأته من الكتب المختلفة في التاريخ الطبيعي، أما الآن فقد تبين لي مقدار خطئي في هذا الاعتقاد، فإني كل يوم أشاهد من عجائب الحيوانات ما لم يقل عنه العلماء شيئًا، وأنا وجورجية نوزع الحبوب على جميع هذه الدواجن التي يظهر من حالها أنها تدرك محبتنا إياها؛ لأنها تأتنس بنا وتفرح لرؤيتنا. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))