وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه. (مشروع الدعوة والإرشاد في مصر) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) . {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: ١٢٥) ، الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين. والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه، وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا، فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين. هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها. وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام. فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين. فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل، الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة. يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها. إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية، ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير الهنود، ولتنصير الجاويين ... إلخ. يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم. يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه، ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية. إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من يدافع عنه كما يوجد في مصر. جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ ١٤ شوال سنة ١٣٢٨ ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول: إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة، وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي، لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية. ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في ١١ المحرم الحال، وقد كتب في ٢٤ ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه: (أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن، وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) . (ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن تنصروا) . (وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد، ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل. ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل. قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة، وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [١] فلم يبق لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال. هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم، والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: ١٠٤) الآية، ولم يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب. * * * (مدرسة الدعوة والإرشاد) نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره. (١) يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين، وما عدا القسم الشمالي من إفريقية. (٢) المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب. (٣) يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن مع التدبر. (٤) يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة، وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك. (٥) لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا. (٦) يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام. (٧) سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن توقف على هذا العمل. (٨) نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء المؤسسين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا *** (إصرار جريدة العلم على الإرجاف) أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم، وعزمنا على أن لا نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها؛ لأنها رد عليها؛ أرسلناها مع صديق لنا ولزعماء الحزب الوطني، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي يوم الاثنين ١٥ المحرم بنشرها والتعقيب عليها، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر عن التأخير. ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني في أمر نشرها، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن، وقد انتظرت إلى يوم الأربعاء، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم. *** (المقالة الثانية للعلم) وفي صبيحة يوم الخميس ١٨ المحرم، صدر العلم وفيه المقالة، وفي فاتحة باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي، ووصفي بالعجز والضعف، مع الإرجاف والإيهام بقوله: (ولو أن العلم شاء لبسط للناس، كيف ذهب صاحب المشروع الذي هو (أقدس وأفضل عمل ديني) إلى السير غورست؛ ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه، وينال إسعاده. ولو شاء العلم لبين للناس ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة. لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها، كما نشرنا مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب عنهما، أحدهما: الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا، والثاني: تخطئة العلم إياي بقولي: إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع، كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد. أما الأول فأقول فيه: إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند؛ لأنني أرجو من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما، فإذا قاومه الإنكليز فيهما، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه، على أنه لا يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية كعدم المقاومة، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب، وكانت ولا تزال تأخذ من هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة للإنكليز وضارة بالمسلمين؟ ؟ ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية السلبية منهم، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله: إنه لم يقم بمشروع ينفع المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز، ولا من القبط، ولا من نصارى السوريين، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين أنفسهم، أقول: ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز؛ بأنها تمد مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز، وهاجت جريدة اللواء عليه وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل. إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار الوكالة البريطانية ولورد كرومر، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا للإنكليز، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي يختلفون إلى بعض السفارات؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان إلى سفارة روسية، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة الجمعية للدولة العلية؟ ؟ وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا، فقلت في ص٦٠٧ من مجلد المنار الثاني ما نصه: (وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في إقامة خلافة عربية، كأن الخلافة من الهنات الهينات، تنال بسعي جماعة أو جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف. (مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو الشيطان. (ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان: رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين؛ بإيهامهم أن منصب الخلافة ضعيف متزعزع، يمكن لأي أمير أن يناله، ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه، ليزيلوا هيبته من القلوب، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله في وقت من الأوقات، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا) ... إلخ. هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي: من إحدى عشرة سنة وشهور، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة، بل الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد الحميد وأوسمته ورتبه، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته، أو الانتقام ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب، لا يحتاج إلى سعي ولا عمل؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي. كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت، فصارت كلما سنحت الفرصة، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام، حتى إنها نشرت في سنة ١٣٢٣ مقالة في العدد ال١٧٥٤، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع ١٧٦٢، زعمت أنها جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها، توهم قراءها بذلك أن في جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا، ولم يخطر لمديرها ولا لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا، فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء؛ أن العدد الأول يصل إلى جاوه، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها، وتصل رسالته إلى مصر، وتنشر، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد! ! وزاد طعنها فينا معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور. هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة ١٣٢٣ التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد، وتلك التهم التي كانت تشيعها عن مسألة الخلافة العربية؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم بها، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة، حتى إنه قال مرة ما معناه: إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام، وفي مقاومة سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في (جمعية الشورى العثمانية) . ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من مدائح عبد الحميد وتقديسه، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى المابين، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك بعض الوقائع؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة؛ لأن ذلك يسيء السلطان و.. إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني؛ هم مدير اللواء وبعض محرريه، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر، ولجعل الحكومة المصرية دستورية ولا يهمهم غير ذلك؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم، ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه، فإذا كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم منذ أقل من أسبوع، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء اللتين أشرنا إليهما آنفًا، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة؛ وهي ما أنشئت إلا للمقاومة! ! ! يقولون الآن: إن عندنا (أقاويل) أو (إشاعات) أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من قبل؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه (الأقاويل) والأراجيف (شنشنة أعرفها من أخزم) . على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا المشروع؛ لأن لهم في شغل الحزب، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في الحقيقة جهاد في غير عدو، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء، ولأن الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم (العلم) وما كنت أظن أنه يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل؛ بناء على الأقاويل والأوهام. فإذا كانوا قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي توفرت فيها الدواعي على المقاومة. هذا، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو الذين تصدوا للمقاومة، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال، وأرجو - وقد بينا لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا اليوم فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد، وما ذلك من المستعجلين ببعيد. ولا بأس أن نفكه القراء، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ عبده، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال: (الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام، وفيلسوف الإسلام) فليخفف عن نفسه قليلاً، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل القرآن) اهـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في حياته، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار. فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس، ولكن احمدوا الله معي، إن صاروا يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني من آذاهم؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار. أنا لم أقل في ردي عليهم: إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته؛ لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي، فيصدق أنني أريد أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم، ولكنني وأنا الذي نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول: إنني لم أسمع منه رحمه الله تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر، ولا على أنه يتمنى ذلك في الآستانة، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام، ولم أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر. وأقول: إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما فكرت فيه، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي، وإلى بعض ما كتبته من التمهيد لها، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات، وقد تذكرت الآن حديثًا في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في شهر المحرم سنة ١٣١٩ أي منذ عشر سنوات كاملة، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية، وقلت له هذه العبارة (وإن هذا ما يدعو إليه المنار) فليراجع ذلك من شاء في أول ص١٥٨ من مجلد المنار الرابع. ((يتبع بمقال تالٍ))