للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [١]

(الموضع الثامن)
أولاد عبد المطلب
أنكر الناقد ذكرنا في (ص١٣) بعض أولاد عبد المطلب دون بعض، وقال:
إن المقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، ونجيب
عن ذلك بأن المقام لا يقتضي استيعاب ذكرهم؛ لأن الكتاب ليس في تاريخ بني
هاشم، وإنما هو خُلاصة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وكليات دينه ومزايا ملته، وذكرنا من أولاد عبد المطلب والده صلى الله عليه وسلم، وأعمامه الذين لهم شأن عظيم في سيرته، وهم: أبو طالب والعباس وحمزة رضي الله
عنهما، ولكن العبارة قد توهم غير المطَّلع على تاريخهم أن هؤلاء جميع ولد عبد
المطلب؛ ولذلك نقحَّنا العبارة في نسختنا الخاصة التي يُعتمد عليها في الطبعة
الثانية هكذا: (ووُلد لعبد المطلب أولاد كثيرون، أشهرهم أبو طالب والعباس
وحمزة وعبد الله) ، وما الحاجة إلى ذكر كبراء المشركين الضالين بعد سكوتنا
عن ذكر أشهرهم أبي لهب؟!
* * *
(الموضع التاسع)
ما لقي صلى الله عليه وسلم من جحود قومه وإيذائهم
أنكر الناقد علينا إسناد الجحود والإيذاء إلى قوم الرسول صلى الله عليه وسلم،
واقترح أن يصحح بقوله: فلقي أشد الجحود والإيذاء من زعماء قومه الذين
أشقاهم الله، واحتج على ذلك بما قدمه من قيام كثير من قومه بمساعدته، وإجابة
دعوته صلى الله عليه وسلم، ونجيب عن هذا بما أجبنا به عن ذاك الذي قدمه،
وأهمَّه أننا اهتدينا في هذا التعبير بالقرآن المجيد، فقد قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الحَق} (الأنعام: ٦٦) ، ولم يقل: زعماء قومك؛ ولهذا الاستعمال نظائر
فيه، وفي كلام العرب، ولا يعقل أن يشترط في لغة ما أن لا يسند إلى القوم إلا ما
يفعله كل فرد من أفرادهم؛ إذ لا يمكن العلم بهذا إلا في قوم محصورين، عملوا
عملاً شاهده منهم مَن أخبر عنهم، وذلك نادر، وإنما المعروف أنه يسند إلى القوم
ما يفعله الجمهور، وإن أنكره مَن لا يؤثر إنكاره لضعفهم أو قِلَّتهم، وكذا ما يفعله
البعض، ولم ينكره الجمهور كقتل اليهود للأنبياء، وعقر ثمود للناقة، وتفصيل
الرد على هذه المسألة يُعلم مما يأتي في الكلام على الموضع العاشر والموضع
الحادي عشر.
* * *
(الموضع العاشر)
حمايته صلى الله عليه وسلم للقيام بالدعوة
أنكر الناقد علينا قولنا في (ص ٣١) إنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو
الناس لحمايته للقيام بهذا الأمر، فلم يَحْمِهِ من قريش أحد، واقترح أن تصحح
العبارة، أو تنقح بقوله: (كان يدعو الناس إلى أن يعضدوا مَن يحمونه للقيام بهذا
الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك ... ) إلخ، وهذا وما قبله من تلك العصبية،
وغرضه أن ينزه قريشًا مما ذكر، وبسنده إلى زعماء الشرك على الإبهام.
والجواب عنه يعلم مما تقدم بالإجمال، وأما التفصيل فهو في كتب الحديث
والسيرة النبوية، أيها راجع القارئ يجد فيه أن قريشًا اشتد إيذاؤها للرسول صلى
الله عليه وسلم بعد هلاك عمه أبي طالب، وأنه خرج إلى الطائف يلتمس النصرة
من ثقيف، والمنعة بهم من قومه - وهذه عبارة ابن هشام عن ابن إسحاق - وأنه
كان يعرض نفسه على القبائل، فيردونه، حتى أجابه وفود الأنصار - رضي الله
عنهم - وفي حديث عمرو بن مسلمة عند البخاري: أن العرب كانت تقول: دعوه
وقومه؛ فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، ولو كان فيمن آمن من قومه قوة ومنعة
لما احتاج إلى ذلك، بل كان يدعو القبائل إلى الإسلام فقط، وهذا أمر مشهور متفق
عليه، ولم نَرَ قبل هذا النقد الغريب أحدًا بلغت منه العصبية لقريش، حتى في شر
ما كانت عليه في جاهليتها هذا المبلغ، وسنزيد هذا بيانًا في الرد على الموضع
الآتي:
(الموضع الحادي عشر)
ثباته صلى الله عليه وسلم في أحد ومَن ثبت معه
قلنا في الكلام على شجاعته وثباته عليه الصلاة والسلام من (ص٣٧) إنه
ثبت وحده يوم أحد، فأنكر الناقد علينا ذلك، وقال: إنه يذكر أنه ثبت معه بضعة
نفر من قريش وبني هاشم، (قال:) وكذا في حنين، وهذه منقبة لهم يحسن ذكرها
إشعارًا بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها. اهـ.
والجواب أن الأحاديث الصحيحة تثبت أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بالثبات
في الغزوتين بالذات، وثبت معه أفراد بالتبع، فالأوْلى أن يعطف يوم أحد على يوم
حنين، أو يكتفي بالثاني، فإنه ثابت في الصحيح بلفظه، فلا غرو أن يُذكر في
مثل هذا السياق، وإن قيدوه بما سيأتي للجمع بين الروايات، ففي بعض ألفاظ
حديث أنس في صحيح البخاري أنه: (لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان
وغيرهم بنَعمهم وذراريهم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من الطلقاء
(هم الذين أسلموا في مكة يوم الفتح) ، فأدبروا عنه، حتى (بقي وحده) ، فنادى
يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما، التفت عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار؟ قالوا:
لبيك يا رسول الله، نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار.
قالوا: لبيك يا رسول الله، نحن معك) الحديث.
ويؤيده حديث البراء في الصحيحين، وهو أنه: (سئل: أَوَلَّيْتُمْ مع النبي
صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا ... )
- الحديث - وفي رواية: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟
فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر.....) وفي رواية أنه:
(سئل: أتوليت يوم حنين؟ قال: أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لم يولِّ، ولكن عجل سرعان القوم، فرشقتهم هوازن، وأبو سفيان بن الحارث
آخذ برأس بغلته البيضاء) الحديث، وأبو سفيان هذا هو ابن عمه صلى الله عليه
وسلم (الحارث بن عبد المطلب) ، وكان خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو قادم إلى مكة فاتحًا، فأسلم، وحسن إسلامه.
وروى ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة: (إنه لما فر الناس يوم
حنين لم يبقَ معه صلى الله عليه وسلم إلا أربعة نفر ثلاثة من بني هاشم ورجل من
غيرهم: علي والعباس بين يديه وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعِنان وابن مسعود
من الجانب الأيسر، قال: وليس يُقبِل نحوه أحد إلا قُتل) ، واختلفت الروايات
فيمن ثبتوا معه على أقوال: ٩ أو ١٠ أو ١٢ أو ٨٠ أو دون ١٠٠ أو ١٠٠،
بضعة وثلاثون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، وهذا الأخير تفصيل رواية
أبي نعيم في دلائل النبوة، ويروى عن العباس رضي الله عنه أنه أنشد في ذلك:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر مَن قد فر عنه فأقشعوا
وعاشرنا وافى الحِمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجعُ
قال الحافظ في الفتح: ولعل هذا هو الثبت ومَن زاد على ذلك يكون عجّل في
الرجوع فعُد فيمن لم ينهزم، وكان أول مَن ولَّى وانهزم الطلقاء من قريش، الذين
دخلوا الإسلام يوم الفتح، وما كلهم بصادق، وقال العلماء: ما كل مَن ولَّى يومئذ
كان فارًّا من القتال، بل منهم مَن كان متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى جهة أو فئة
لأجل القتال، وبعضهم جرفه التيار وهو لا يدري أين ذهب، وقالوا في الجمع بين
رواية ثباته وحده، ورواية ثبات القليل معه - أن هؤلاء كانوا في خدمته، وكان
هو المهاجم وحده، وهم يتبعونه من ورائه، حيث توجه، فتوجه إلى قتال
المشركين، ولما رأى ما رأى من اختلاط الحابل بالنابل نادى الأنصار، فلبوه،
فكان النصر بهم، وإن كان فضل المهاجرين وثباتهم لا يُنكر، وكانت مزية بني
هاشم أن أكثر العشرة - أو الاثني عشر - الذين ثبتوا معه أولاً منهم، وكان منهم
أبو بكر وعمر وابن مسعود وعثمان بن طلحة، وما لبث جمهور الصادقين أن
تبينوا الأمر، فصاروا يتراجعون.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاز
الغنائم العظيمة في هذه الغزوة - قسمها في قريش بين المهاجرين الذين أسلموا قبل
الفتح، والطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجد بعضُهم
لذلك، فقال بعضهم: إذا كانت شديدة فنحن نُدعَى، ويُعطَى الغنيمة غيرنا، وقال
بعضهم: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا، ويتركنا وسيوفنا
تقطر من دمائهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم في قبة أدم (جلد) ، وسألهم عما
بلغه عنهم، فسكت بعضهم، وقال فقهاؤهم: أما رؤساؤنا - يا رسول الله - فلم
يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: كيت وكيت، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم - وفي رواية: إن قريشًا
حديث عهد [٢] بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أَجْبُرهم وأتألفهم - أما ترضون
أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟! ،
قالوا: بلى، وفي رواية: أنه خطبهم، فذكَّرهم فضل الله به عليهم بالهداية
والتأليف بينهم والغنى ثم قال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير،
وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءًا من
الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لاخترت وادي
الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار ... ... إلخ، وقد بيّن العلامة ابن
القيم الحِكَم في غزوة حنين في الهزيمة، ثم في النصر وقسمة الغنائم، ومنها أنه
صلى الله عليه وسلم لم يعطِ كبار المهاجرين من الغنيمة كالأنصار، فيراجع في
(زاد المعاد) ولخصه الحافظ في الفتح.
وأما ثباته وحده صلى الله عليه وسلم يوم أحد فهو ظاهر قوله تعالى: {إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (آل عمران: ١٥٣)
- فقد اتفقوا على أنه نزل في هزيمتهم يومئذ، قال الحسن البصري: (فروا
منهزمين في شعب شديد، لا يلوون على أحد، والرسول يدعوهم في أخراهم: إليَّ
عباد الله، إليَّ عباد الله، ولا يلوي عليه أحد) وروي نحوه عن ابن عباس
وعطية العوفي وقتادة، إلا الجملة الأخيرة فقد انفرد بها الحسن، وقد اختلفت
الروايات فيمن ثبت معه صلى الله عليه وسلم، وظاهر بعض الروايات الصحيحة أن
الناس تولوا، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي طلحة زيد بن سهل
الأنصاري يناضل عنه، فكان ثباته معه لأجله، فيصح أن يقال: إنه صلى الله
عليه وسلم ثبت وحده يومئذ؛ لأن ثباته كان بشجاعته الذاتية، وثبات أبي طلحة؛
لأنه رآه ثابتًا، فوجب عليه أن يناضل عنه بسهامه، ولما رآه غيره فعلوا مثل فعله،
فقد كان سبب الهزيمة الأكبر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث أن
تراجع الناس إليه لما علموا ببقائه - فِدَاه أبي وأمي - صلى الله عليه وسلم،
فالسابقون إلى ذلك عُدوا من الثابتين معه، واختلف في عددهم؛ لأن كل راوٍ ذكر
مَن رآه أو علم بوجوده معه، فلا تنافي بين رواياتهم، ففي حديث أنس عند
البخاري: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو
طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب (أي مترّس) عليه بجحفة له،
وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد النزع (أي رمي السهم) ، كسر يومئذ قوسين أو
ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: (انثرها لأبي طلحة) ،
(قال:) ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي
أنت وأمي، لا تشرفْ يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت
عائشة بنت أبي بكر وأم سليم (هي أم أنس) ، وإنهما لمشمِّرتان، أرى خدم
سوقهما [٣] تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم [٤] ، ثم ترجعان،
فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانه في أفواه القوم،ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة
إما مرتين، وإما ثلاثًا.
وفي حديثه عن مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ في سبعة من الأنصار
ورجلين من قريش، يعني طلحة وسعدًا، وفي حديث عائشة عند أبي داود
الطيالسي، قالت: كان أبو بكر إذا ذُكر يوم أحد قال: كان ذلك اليوم كله لطلحة،
قال: كنت أول مَن فاء (أي رجع) ، فرأيت رجلاً يقاتل عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: فقلت: كن طلحة، (قلت:) حيث فاتني يكون رجل من قومي،
وبيني وبينه رجل من المشركين، فإذا هو أبو عبيدة، فانتهينا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: دونكما صاحبكما، يريد طلحة، فإذا هو قد قطعت
أصبعه ... إلخ، وفي الصحيح التنويه بسعد بن أبي وقاص؛ فإنه كان يناضل عنه
صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: ارمِ، فداك أبي وأمي، روى البخاري هذا
عنه، وروى عن علي كرم الله وجهه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد، يعني في الفداء، وروى عن أبي عثمان النهدي
أنه لم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير
طلحة وسعد، أي طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وهما حدَّثا أبا عثمان النهدي
بذلك، وروى الحاكم عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: لما جال
الناس يوم أحد تلك الجولة تنحيت، فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أنجو، وإما أن
أستشهد، فإذا رجل مخمّر وجهَه، وقد كاد المشركون أن يركبوه، فملأ يده من
الحصى فرماهم ... ، وإذا بيني وبينه المقداد، فأردت أن أسأله عن الرجل، فقال لي: يا سعد، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقمت، وكأنه لم يُصبْني
شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، وجعلت أرمي ... فذكر الحديث. اهـ من
الفتح، وفيه اختصار.
وقد نقله دحلان في سيرته عن المستدرك بزيادة واختلاف في بعض الجمل،
ومن الزيادة أن الرجل المخمر لما رمى المشركين بالحصى تراجعوا عنه إلى الجبل،
ففعل ذلك مرارًا، فظاهر هذا الحديث أنه لما جاء سعد لم يكن عنده غير المقداد،
وما يدرينا أن المقداد لم يكن معه من أول الأمر.
قال الحافظ - في شرح حديث أبي عثمان النهدي - من الفتح: وعند ابن
عائذ من مرسل المطلب بن عبد الله بن حنطب أن الصحابة تفرقوا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، حتى بقي معه اثنا عشر رجلاً من الأنصار، والنسائي
والبيهقي في الدلائل من طريق عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: تفرق
الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من
الأنصار، وطلحة [٥] ، وإسناده جيد، وهو كحديث أنس إلا أن فيه زيادة أربعة،
فلعلهم جاءوا بعد ذلك، وعن محمد بن سعد أنه ثبت معه ١٤ رجلاً، ٧ من
المهاجرين، منهم أبو بكر، و٧ من الأنصار، ويُجمع بينه وبين حديث الباب -
أي حديث أبي عثمان النهدي - بأن سعدًا جاءهم بعد ذلك، كما في حديثه الذي
قدمته في الحديث الخامس (أي حديث: ارمِ، فداك أبي وأمي) ، وأن المذكور من
الأنصار استشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم مَن جاء، وأما
المقداد فيحتمل أن يكون استمر مشتغلاً بالقتال، وسيأتي بيان ما جرى لطلحة بعد
هذا، وذكر الواقدي في المغازي أنه ثبت يوم أحد من المهاجرين سبعة: أبو بكر
وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد وطلحة والزبير وأبو عبيدة، ومن الأنصار:
أبو دجانة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن
حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وقيل: إن سعد بن عبادة ومحمد بن
مسلمة بدل الأخيرين، فإن ثبت حُمل على أنهم ثبتوا في الجملة، وما تقدم فيمن
حضر عنده صلى الله عليه وسلم أولاً فأولاً، والله أعلم. اهـ كلام الحافظ في
الجمع بين الأقوال.
فعلم مما تقدم أن منقبة الثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد خاصة
بمن علموا بموقفه، ودافعوا عنه قبل أن يتراجع الجيش، وأنها لم تكن للمهاجرين
وحدهم، بل كان للأنصار الحظ العظيم منها، وأنه لم يكن مع المهاجرين أحد من
بني هاشم غير علي كرم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين.
* * *
(الموضع الـ١٢)
مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد التبليغ
قال الناقد: ذكرتم في الخاتمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد بدء
التبليغ عشر سنين، والمشهور أنها بضع عشرة سنة. اهـ.
ونقول إن هذه العبارة أظهر هفواته وأغربها فما ذكرناه هو المنصوص في
كتب الحديث والسير، وما ذكره وادعى أنه المشهور لم يقل به أحد، وإنما وقع
الخلاف في الروايات الواردة في مدة إقامته بعد البعثة لا بعد التبليغ بين عشر
وثلاث عشرة، وجمع بينهما المحققون بأن المدة بين بدء الوحي وفترته، وبين
الأمر بالتبليغ ثلاث سنين، والمدة من بدء الأمر بالتبليغ إلى وقت الهجرة عشر
سنين، بيَّن ذلك الإمام أحمد في تاريخه وغيره من المحدثين، واعتمده ابن إسحاق
وغيره من أصحاب السير، فهل بلغ من الناقد الفاضل التعصب لمكة كأهلها أن
حفظ المدة من ابتداء الوحي بالرؤيا الصادقة إلى وقت الهجرة حفظًا إجماليًّا، ثم
نسي تحديدها وصفتها، فجعلها بضعة عشر عامًا من أول التبليغ، وعلى هذا
يُحتمل أن تكون سبع عشرة سنة، أو تسع عشرة سنة، وأن تضاف إليها مدة الفترة
فتكون ٢٢سنة! ، ومن المشهور - الذي يحفظه العوام وصبيان المكاتب في مدارس
الناقد الفاضل كغيرها - أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث على رأس الأربعين،
وتوفي في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ٦٣ سنة، فسبحان مَن
لا ينسى ولا يذهل.
وقد أضاف الناقد إلى هذا الموضع مسألة أخرى، فادعى أننا لم نذكر في
الكتاب دخول الإسلام في عهد القوة والمنعة بعد فتح مكة بدخول قريش فيه واتباع
العرب لهم، ورجا أن نذكر ذلك في المستقبل؛ لأنه مظهر مزايا الاصطفاء،
ونجيب بأننا ذكرناه بالإجمال، ولا يتسع هذا المختصر للتفصيل.
ونحب أن نصرح لأخينا الناقد الفاضل بأن كتاب (ذكرى المولد النبوي) لم
يوضع لشرح حديث الاصطفاء، ومناقب قريش وبني هاشم، فنذكر فيه كل ما
يتعلق بذلك من تاريخهم في الجاهلية والإسلام، وإنما شرحنا الحديث شرحًا لم نطَّلع
لأحد على مثله لبيان حكمة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في خير بيت من بيوت
الأمة العربية.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))