للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أمالي دينية
(١٥)

(تابع القضاء والقدر)
م (٤٣) حقيقة العقيدة
ثبت بالبرهان أن قدرة الله - تعالى - متصرفة في الممكنات عن إرادة
واختيار وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ووجوه النظام.
وأنه خالق كل شيء {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} (هود: ١٢٣) , ومن الممكنات
التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم يعمل بقدرته ما
تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه وهو الإنسان ,
وهذا عند البعض هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله
وبدائع أسراره فيها ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه , ولا
يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنًا بعد آن ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا
الله تعالى , والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم
السلام , ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك
حاشاه حاشاه. قال البيضاوي في بيان أن كل نبي خليفة: استخلفهم في عمارة
الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به - تعالى - إلى
من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك
لم يستنبئ مَلَكًا كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: ٩) اهـ،
وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية فعلم من كل من القولين أن
في الإنسان معنى ليس في غيره , فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛
لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه فكذلك لا تساعد خلقته وليس
من وظيفتها إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها.
ولو كان إيجاد مخلوق على ما ذكرنا في خلق الإنسان غير ممكن لَمَا وجد ,
ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان , وهما أصل كل برهان ,
ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.
إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت: إحداهما كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة
يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف وهي بديهية , والثانية هي أن الله هو
الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية , ويتولد من هاتين القضيتين
القطعيتين مسألتان نظريتان.
م (٤٤) الأولى
ما الفرق بين علم الله - تعالى - وإرادته وقدرته وبين علم الإنسان وإرادته
وقدرته؟ والجواب من وجوه: أحدها أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له
لذاته , وصفات الإنسان حادثة بحدوثه , وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.
ثانيها: أن علم الله تعالى محيط بكل شيء {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: ٢٥٥) ، وأما الإنسان فما أوتي من
العلم إلا قليلاً , وإرادة الله - تعالى - لا تتغير ولا تقبل الفسخ؛ لأنها عن علم تام
بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء، وتفسخ لظهور الخطأ في
العلم الذي بنيت عليه , وتتجدد لتجدد علم لم يكن له من قبل وقدرة الله تعالى
متصرفة في كل ممكن فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة , وقدرة الإنسان لا تصرف لها، ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحة ومنفعة
له وهو لا يقدر على القيام به , ثالثها أن صفات الإنسان عرضة للضعف
والزوال وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية وبالجملة إن المشاركة بين صفات
الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس كما زعم بعضهم فبطل زعم
من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته
يقتضي أن يكون شريكًا لله - تعالى - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) .

م (٤٥) المسألة الثانية
وهي عضلة العقد , ومحط المنتقد. أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى
أو إرادته (قولان) في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه
الممكنة , والقدر: وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل , ومن
الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية فإذا كان قد سبق
القضاء المبرم بأن زيدًا يعيش كافرًا ويموت كافرًا فما معنى مطالبته بالإيمان وهو
ليس في طاقته ولا يمكن في الواقع , ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة
مجبور على الكفر في صورة مختار له كما قال بعضهم؟ وقد نظم هذا السؤال
يهودي فقال:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
قَضَاني يهوديًّا وقال: ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي
والجواب عن هذا أن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانًا يفعل كذا لا ينافي أنه
يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرًّا كحركة المرتعش مثلاً , ولكن
أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية أى بإرادة فاعليها لا
رغمًا عنهم , وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثًا ولا لغوًا. وثم وجه آخر
في الجواب وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا يستلزم أن يكون
ذلك الفاعل مجبورًا على فعله؛ لكان الواجب تعالى وتقدس مجبورًا على أفعاله كلها
لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك , وكل ما تعلق به العلم الصحيح لابد من وقوعه.
فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يُسمَّ باسمهم قد غفلوا عن معنى الاختيار.
واشتبهت عليهم الأنظار. فكابروا الحس والوجدان. ودابروا الدليل والبرهان.
وعطلوا الشرائع والأديان. وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره.
ولا فقهوا سر نهيه وأمره. حيث جرأوا الجهلاء على التنصل من تبعة الذنوب
والأوزار. وادعاء البراءة لأنفسهم والإنحاء باللوم على القضاء والمقدار. وذلك
تنزيه لأنفسهم من دون الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان
بالانغماس في الفسوق والعصيان. فياعجبًا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من
الإغراء. وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء. أليس من شأن من لم يفسد الجبر
فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه. ومؤدب لعقله وحسه
اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن. ويظهر ويبطن. وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟
بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأما الذين
ضلوا السبيل. واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك
بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨)
فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم من أسباب وقوع البأس
والبلاء بهم , وقوله عز من قائل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: ٤٧) وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه والله عليم
حكيم.
((يتبع بمقال تالٍ))