للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين [*]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ
الرسالة، وأدى الأمانة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإني قد وقفت على الكلمات التي كتبها في الرد عليَّ حضرة العلامة
والمفضال الفهامة الدكتور محمد توفيق صدقي - وفقنا الله وإياه للهداية والتوفيق
آمين - وحيث إني رأيته لم يأت بدليل جديد، وإنما كرر كتابة ما قد بينت للقارئين
فساده في رسالتي السابقة. أردت اختيار السكوت، وأن أفوض إلى قراء المنار
وغيرهم من علماء الإسلام تولي ترجيح أحد القولين، والحكم بتخطئة أحد
الخصمين بعد الفحص عن أدلة الطرفين. ولكن ألح عليَّ في كتابة جواب الجواب
من يعز عليَّ من أهل البيت الأطهار نخبة الأخيار سيدي أحمد بن حسين العطاس
باعلوي - سلمه الله وحفظه - وكذلك كثير من حزب الله المفلحين المصلحين
الصادقين محبي المنار الأغر، فاستخرت الله واستعنت على كتابة هذه الجملة
المختصرة؛ لأنبه أخانا الفاضل على أن ما كتبه في هذا الرد هو نفس ما كتبه سابقًا
مما قد بينا -ولله الحمد- خطأه، وأيضًا هو لم يبطل شيئًا مما كتبناه في رده لا
بنص نقلي ولا بدليل عقلي.
وأما ما ذكر من شبهات غير المسلمين: فهي مما لا قيمة لها إذا عرضها
الفاحصون على معيار التحقيق، وغاية محصلها أن تكون من أضعف الشبهات التي
ربما تعرض وتعلق بخيالات غير الواقفين على حقيقة دين الإسلام، وها أنا ذا أقدم
للواقفين بيان قيمة كل شبهة أوردها العلامة الممدوح عنهم ووجه دلالتها، ثم أتبع
ذلك بردها، وألتمس من حضرة سيدنا شيخ الإسلام، ومرشد الأنام مولانا السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار، أن يصلح ما فيها من القصور والخطل، وأن ينبه
أحدنا على زلته، ويدل على محل عثرته، ولولا أن بذل النصيحة في الدين واجب
لم أكتب ولا حرفًا واحدًا. ولكن امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناصحوا في
العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم) ،
ولنشرع في المقصود بعون الجواد المعبود فأقول:
قال العلامة الفاضل، سلمه الله ووفقنا وإياه للصواب (الكلمة الأولى في
تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن) إلى آخر ما نقل
عنهم، وحاصله أنهم اعترضوا على صحة دين الإسلام ورسالة سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم بوجود النسخ الذي يسلمه المسلمون في القرآن؛ لأنه - أي النسخ -
لا يكون إلا إذا كان المنسوخ ناقصًا ومعيبًا، إما في مغزاه أي غاياته أو معناه أي
مدلول لفظه، أو بلاغته المخل بإعجازه، أو أن الحكم لا يرضاه الناس، أو أنه لا
ينفعهم، أو أنه قد يضر بمصلحتهم.
فمحصل ما ذكروه أن النسخ لا يكون إلا لذلك، وكأنهم يريدون أن صدور ذلك
من الرب واجب الوجود محال، واستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون دين الإسلام
منزلاً من الرب؛ أي لوقوع ذلك فيه، واعتذروا عن قبول العقلاء لذلك؛ بأن سببه
كمال محمد صلى الله عليه وسلم في الدهاء والتحيل، بحيث صار يلعب بعقول
الصحابة. وذكر عنهم ما ملخصه وحاصله أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتم له
ما أراد من التشريع إلا بعد إصلاح ما وقع في دينه من العيب والنقص، وإبدال ما
انتقده عليه المنتقدون، أو عارضه المعارضون، أو عرف أنه يكون كذلك ولو بعد
حين؛ ولذلك تعلق بدهائه إلى إخفاء عيبه وعيب دينه، بتجويز وترويج مسألة
النسخ في قرآنه، ونقل عنهم أنهم قالوا: وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من
القرآن آيات كثيرة، جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وكأنهم يريدون بذلك أنه
كما أنه يستحيل بزعمهم أن يكون القرآن منزلاً من الله، فهو أيضًا غير محفوظ،
ولم ينقل إلينا كله. ودعوى المسلمين أن ذلك مما نسخ الله لفظه تحكم غير مقبول؛
إذ لم يقدر المسلمون على تعليل ذلك بعلة معقولة - ونقل عنهم أيضًا أنهم يزعمون:
أن ما بقي من القرآن في أحكامه شطط، وأن عباراته متناقضة مختلفة وذكر
عنهم اعتراضًا على بعض أجوبة المسلمين التي ذكرناها في رسالتنا السابقة؛
لتسوغ نسخ لفظ القرآن، حيث قلنا: ما أدَّى وظيفته لا يلزم بقاؤه، فنقل عنهم في
معارضة ذلك: أن القرآن مشتمل على مسائل خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم
وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه. قال: فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ
الآيات التي أدت وظيفتها، وانقضى زمنها، وما حكمة آية الرجم مثلاً مع بقاء
حكمها في شريعة المسلمين! ! انتهى.
أقول: والكلام على ما أورده عنهم من وجوه:
(أحدها) أن نقول: إن بعض هذه الشبهات كقوله: وما بقي من القرآن بعد
هذا التصحيح والتنقيح، تجد شططًا في كثير من أحكامه، فضلاً عما في عباراته
من المتناقضات والاختلافات إلى آخره، لا ترد علينا ولا على من يقول إن القرآن
الموجود فيه ناسخ ومنسوخ، وإنما ترد على خصوص مذهب الدكتور وهو لا
ينفصل عن هذه الإيرادات، ولا يستقيم مذهبه إلا إذا سلك مسلك التأويل المتناقض
لظاهر الدلالات في هذه المواضع، والتأويل إذا صار لا يصح إلا بحيث يكون
المعنى المؤول إليه، إنما يدل عليه بألفاظ غير ما عبر الله به عنه، فهو يكون لا
محالة من باب التبديل والتحريف للذين ذم الله أهلهما ونهى عنهما، وكما أن مثل
هذا التأويل مردود عند أهل الحق من المسلمين، فغير المسلمين أيضًا لا يقتنعون به،
وهو أعظم منفر لهم عن الإسلام؛ لجواز أن يعتقدوا أن ذلك إصلاح خلل،
وتكميل نقص في القرآن والدين - فاعتراضاتهم السابقة على النسخ هي واردة على
مثل هذا التأويل، وقبولهم تكذيب ما نقله المسلمون فيما تقدم ضرب من المحال.
أما نحن القائلون بجواز النسخ في الأديان، ووقوعه في القرآن، فلا ترد
علينا هذه الشبهات لا في الدين، ولا في خصوص القرآن. وإنما يلزمنا الاستدلال
على جواز النسخ عقلاً، ويحسن منا إذا بينا حسنه وحكمته في المورد المعين،
ومن قصر عن إدراك ذلك، فلا يضره ذلك ولا يضر الدين أيضًا - لأن جهلنا بالشيء
لا يستلزم عدمه في الواقع - وإنما يضر لو كان بعض ما علمنا أنه من الدين مخالفًا
للحقيقة في نفس الأمر، وليس في الإسلام شيء من ذلك. وفضلاً عن
الإيرادات والشبهات الواردة على دين أو مذهب مؤلف من هذه التأويلات
المنفرات لمن يريد انتحاله؛ التي لو أردنا إيرادها لطال بها الكلام، فإن مدلول
النسخ الذي يمكن أن ينكر وقوعه المنازعون، أو يورد الشبهات عليه الزائغون، والتأويل الذي يوكل القرآن إليه حضرة الفاضل الدكتور متحد لا فرق بينهما؛ إلا أن هذا الأخير يكون من الرب الذي يفعل ويأمر بالحكمة والعدل. فليتأمل الناظرون
ولينصفا أخونا الدكتور الفاضل، ثم ليدلنا على مورد شبهات غير المسلمين الصحيح:
أهو على من يقول بوقوع النسخ في القرآن للمصلحة الراجحة والحكمة العادلة، أم على من يعترف بصحة شبهتهم، ثم يعدل إلى التأويل المذموم الذي لم يأذن الله به، ولا دل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.
وليعلم القراء الكرام أن ما اعترض به علينا في نسخ الأحكام غير المسلمين،
هو وإن كان فاسدًا كما سيأتي، إلا أنه وارد عليه أيضًا؛ لأنه قائل بوقوع ذلك في
السنة، بل السنة القولية منسوخة عنده كما صرح بذلك مرات، وناسخ ذلك احتمال
تقدير سبب من جملة احتمالات؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المختلف
في رفعه ووقعه، المعارض بما هو أصح وأصرح منه ومتأخر عنه كل ذلك، مع
ترك العلة والسبب المنصوص في ذلك، كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على
وجوب العمل بالسنن القولية النبوية، فانتظره.
فإذا عرفت ذلك، لم يبق مما ذكرته من شبهات غير المسلمين ما يخصنا
الجواب عنه دونه؛ إلا ما يورد على نسخ اللفظ فقط.
(الوجه الثاني) أن مثل هذه الشبهات فاسدة في نفسها، لا يصح أن يوردها
إلا من كان لا يجوِّز النسخ في الشرائع مطلقًا؛ أي ولا يجوز نسخ شريعة نبي
متأخر لشريعة نبي متقدم عنه مطلقًا، حتى ولا من بعض الوجوه في حكم من
الأحكام؛ لأن مَن جوَّز ذلك في شيء مخصوص، لزمه تجويزه فيما سواه إذا وجدت
العلة أو نظيرها، وبالأولى فيما هي به أولى. فإذا جاز نسخ شريعة نبي لشريعة
نبي قبله، فمن باب أولى جواز نسخ بعض شريعة لبعضها الآخر؛ لأن نسخ دين
النبي المتقدم وشريعته الثابتة المقررة عند أمته وأتباعه أشق وأبعد من كل بعيد عن
معتقداتهم الموروثة، لا سيما إذا كان قد تدين بها أنبياء كثيرون؛ لأن ما جاء به
العدد الكثير، قد تستبعد بعض العقول نسخه بما جاء به الواحد - فما يسلمه الدكتور
الفاضل من النسخ هو أولى بإيراد الشبهات مما ينكره - ولما كان نسخ بعض
الشريعة لبعضها الآخر، يكون منوطًا بمناسبة الأحكام لأفراد معتنقيها المعينين
كان كلما كثروا تتجدد الأحكام، وتعدل على الحد الوسط المشترك بين أكثر مجموع
الأمة؛ ليكون الدين شريعة عامة، فلهذا ونحوه كان النسخ في الشريعة الواحدة لطفًا
حسنًا، وعليه فالنسخ في شريعة أي نبي من الأنبياء حين حياته أبعد عن اعتراض
المعترضين عليه منه فيها بعد ثبوتها، فثبت أن حكم نسخ شريعة لشريعة أو بعضها
لبعضها سيان مطلقًا، إن لم نقل جواز ذلك في الأخير أظهر والله أعلم.
ثم نقول لمن يجوز النسخ مطلقًا: إنا لا نسلم أن النسخ لا يكون إلا لنقص أو
عيب في المنسوخ، بحيث يستلزم نقص الشارع - ومعاذ الله من ذلك - لأنا نقول:
إن النسخ في الأديان لازم ومساوق لترقي نوع الإنسان، فلنا: ترقٍّ ديني، وترقٍّ
طبيعي. ولا يكون الأول إلا لحكمة ومصلحة راجحة. فالحكم الثاني الناسخ يوجد
عندما تكون الأمة مستعدة له، وتخطو إلى التقدم من المقام الأول الذي يحسن أن
تنتهي مدة الحكم المنسوخ بجوازها له؛ لأن ما يناسب البشر في أول نشأتهم قد لا
يناسبهم، بل قد يجب أن لا يكلفوه في أوان كمالهم، وما كانت الأمم السالفة محجور
عنه لمصلحة سد الذريعة، قد يجب في هذه الأزمان رفع حجرهم عنه؛ إذ لو كلف
الجهال ونحوهم ما يتسع له العلماء، للزم وضع الشيء في غير موضعه المناسب
له، وهذا من لازمه قلب الحقائق، ولو حجر على العقلاء البحث في الحقائق
المستعدين لإدراكها وتقديرها قدرها لكان في ذلك الظلم المنزه ربنا عنه، ولو كلف
الضعيف عقلاً أو جسمًا ما لا يطيقه هو، أو ما لا يطيقه إلا من هو أكمل منه لكان
كذلك، وإذا استحال كل ذلك، فلا شك أن حالات الأمم السالفة واستعداداتهم،
تخالف حالات الأمم واستعداداتهم اليوم، فتكليف بني الإنسان اليوم بشرائع أولئك أو
العكس، أقل حالاته أن يكون تكليفًا بما لا يناسب النشوء الفطري والترقي التعليمي،
وحينئذ لو كان ذلك، تكون أحكام الدين من باب تكليف ما لا يطاق، أو من باب
الحجر على المستعد عما هو مستعد له، فيكون الدين سدًّا دون العلوم والمعارف.
ولو أطلق للأولين الحرية، وأذن لهم بولوج أبواب هي مجهولة لديهم، أو لم
يستعدوا لمعرفتها، لكان ذكر تعزيرًا لهم وتكليفًا لما لا يطيقونه، وما كان كذلك فالله
لا يرضى بقاءه، بل لا بد من تغيير وتبديل فيه مساوقين لترقي معارف البشر،
وهذا هو حقيقة النسخ، وما ذكرناه هو سببه وحكمته في الشرائع، فالنسخ لا يكون
لعيب ونقص في المنسوخ، ولا جهل الشارع - تعالى عما يقول الظالمون - بل
يكون لاستعداد المكلفين لما هو خير لهم في الحال أو الاستقبال، ونحو ذلك مما لا
يخلو عن زيادة الخيرية التي ذكر الله أنه لا بد منها في النسخ، فالنسخ يكون قبل
فحش التفاوت في مناسبة المنسوخ لحالة المكلفين، كما ذكرنا ذلك في رسالتنا
السابقة.
فثبت بما ذكرناه وما لم نذكره من الحجج البينة؛ أن النسخ في الشرائع لازم
ومستحسن عقلاً، وكذلك هو واقع فعلاً وثبت ذلك نقلاً، فإن كثيرًا من شرائع
الأنبياء قد نسخت واندثرت، وأنسيت شرائع أنبياء بعدهم، وذلك ظاهر لا نطيل
بذكره، وإن أبى المعترضون لزمهم فوق ما قدمناه من المجالات، أن تكون شرائع
الله المحكمة المحتم على البشر قبولها وامتثالها والإيمان بها متضاربة متناقضة،
وذلك بأن يجب على الشخص الواحد المؤمن بجميعها فعل الشيء الواحد وتركه في
آن واحد، وهو محال من الله وعلى العباد.
والأديان والشرائع قبل الإسلام وقع فيها كثير من الخلط والقلب - أما التكاليف
والصعوبات الشاقة، والكلمات الموهمة خلاف الواقع، والحكايات المستبعدة في
كتبهم الدينية، فمما أوجب على العقلاء منهم ومن غيرهم الجزم بأن تلك الكتب قد
وقع فيها من التحريف والتبديل، ما أوجب أن يحكم بعدم الوثوق بها، وما كان
كذلك فمن اللازم أن لا يبقى دينًا للبشر إلى آخر الدهر - ولذا ونحوه قال نبينا صلى
عليه وسلم (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) الحديث، أفليس من اللازم أن يبدل الله بهذه
الشرائع شريعة عادلة محكمة محفوظة عن تغيير المبدلين وعبث العابثين؟ إن تلك
الكتب وشرائعها لا تصح وهي بالحالة التي عرفت حجة لله على عباده، فأرسل الله
محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأيده بالمعجزات الباهرات والآيات
البينات، فما من دليل يستدل به على رسالة رسول من الأنبياء والرسل السابقين؛
إلا وقد أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بمثله وبأظهر وأوضح منه، وصح لدينا نقلاً
لا يعتريه شك بأسانيد صحيحة متواترة متصلة , ولولا شهادة الله في كتابه القرآن
وشهادة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في خطابه بصحة معجزات الرسل
السابقين، لم تبلغ تلك النقول في شرائط النقل والقصص فيها إلى مرتبة الظن
فضلاً عن اليقين؛ لأنها لو وزنت بميزان التحقيق في شرائط النقل، لم تتحصل
منها ما يصح اعتباره مسندًا متصلاً عن النقلة المعروفين بشروط الرواية.
وبناءً على ما ذكرناه نقول: إذا كان وجود النسخ في تلك الشرائع غير قادح
فيها لكونها قد أيدت بالمعجزات - فهكذا وجود النسخ في الإسلام أو في القرآن،
لا يصح أن يكون قادحًا في صحته عن الله - تعالى - لما عرفت. وأيضًا فمن
يقدح بذلك في دين الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يكون في الحقيقة
قادحًا في صحة دين من تقدم من الأنبياء عليهم السلام، من حيث يعلم أولا يعلم،
رضي أم أبى.
ونقول في الجواب أيضًا (الوجه الرابع) : ما يدري هؤلاء المشككون أن
النسخ الواقع في شريعة الإسلام أو في القرآن، قد كان سببه تلك التهم التي
أوردها؟ فهل عندهم نقل يؤيدها ويصححها، أو دلالة عقل تعينت على ما ذكروه،
أم هو احتمال فرضوه، وأوهام توهموها، أو مماراة، أو معاندة أنتجتها الأحقاد
الموروثة؟ وهل هذا الاحتمال متعين، فما الدليل عليه؟ وهل يصح أن يقوم مقامه
احتمال من احتمالات غيره ينقض مزعومكم أم لا؟ وحينئذ لا يصح أن يدفع الثابت
ويرد باحتمال من احتمالات هذا حالها. وإذا كان النسخ في التشريع والأديان لازمًا
عقلاً وواقعًا حتمًا، يكون مستحسنًا كذلك نقلاً، وكانت رسالة نبينا صلى الله عليه
وسلم ثابتة بالحجج اليقينية بأصح ما يمكن أن تثبت بها رسالة أي رسول فتعين
ذلك الاحتمال والوهم، وحاله ما عرفت مع وجود ما يدفعه ويكذبه، باطل لا يجوز
لعاقل أن يلتفت إليه أو يعتني بإيراده.
أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء أن صار يلعب
بعقول أصحابه، فجعلهم يقبلون منه ما لا يُقبَل من غيره. فالجواب عنه أن محمدًا
صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - لم يكن من أهل الحيل والدهاء، وإنما كان
من الأنبياء الأتقياء، وقد عرف بالصدق والوفاء، حتى صار ذلك وصفه الثابت
حتى عند أعدائه، أما أصحابه فقد عرفوا صدقه وصحة دينه بالدلائل الصحيحة
الثابتة، وهم لم يصدقوه فيما جاء من النسخ وغيره لضعف في عقولهم، وهو ما
جاء بما في دينه من النسخ بدعًا مما جاء به المرسلون قبله، وإذا كان كذلك فمن
البهت أن يقال: إن أصحابه صاروا يصدقون ويقبلون منه ما لا يقبل من غيره؛
لأن نقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يأت إلا بما يأتي به المرسلون، ولم يقبل عنه
أصحابه إلا ما يقبل عن المرسلين، وإلا لانقلب الأمر، وكان النسخ في الشرائع
محالاً، وقدمت فساده عقلاً وشرعًا.
فبما ذكرناه يعرف الناظر فساد تلك الشبهة، وأنها في غير محلها، وأنها لا
يتعين ورودها على شريعة دون غيرها من الشرائع، بل لو صح إيرادها على
بعض الشرائع السابقة لركاكة ما عرف من تلك الشرائع، وعدم صلاحيته لتدين
جميع البشر إلى آخر الأبد، وللوهن في نقلها وضبطها - فإن صحة توجيهها على
الإسلام ضرب من المحال، ونقص عن الكمال؛ لما في القرآن من الدلائل
والبراهين على صحة كل أحكامه وشرائعه، وما كان فيه من منسوخ وناسخ موجود
فقد ذكر سببه وحكمته بالصراحة تارة، وبالتضمن والالتزام أخرى، يعرف ذلك
بطرق يعرفها من تلقى فهمه عمن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، فمنها أن يذكر
الحكم الأول مقرونًا بسببه أو بفائدته وغايته، أو غير ذلك مما يصح أن تدرك به
علة هذا الحكم، فإذا نسخه بأن أنزل بعده حكمًا يناقضه بوجه من الوجوه، فهو
يذكر سببه أو غايته، أو غير ذلك مما تعرف به الحكمة في النسخ، وهذا بخلاف
الشرائع السالفة، فإنها وإن كان فيها أشياء من الاستدلال الصحيح، إلا أنه لا يوجد
في كل شيء، ومع ذلك هو لم يبلغ بالاستدلال فيها إلى المراتب الكاملة في التحقيق
كما هي في القرآن ودين الإسلام، ومع ذلك كله نحن لا نحمل ذلك على نقص فيها
كما يقول هؤلاء المعترضون، وإنما نقول: إن تلك قد سبقت فيها الشرائع على
طريقة تناسب عقول البشر واستعدادهم إذ ذاك، وهي غير مؤيدة فناسب أن تكون
كذلك، حتى يترقى الإنسان إلى أعلى مقاماته مما تطوح به إليه خلقته وفطرته
المخصوصة، وحينئذ يناسب أن يشرع له دين بالغ في التحقيق أقصى غاياته،
فكان الأمر كذلك بدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))