للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

(س٤) من الخواجه إلياس لطف الله أبي سليمان بتينوغستا (الأرجنتين) .
حضرة العلامة العامل، والأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا:
أدامه الله بخضوع واحترام، أقدم كامل الواجبات لشخصكم الشريف وأرجو
من سيادتكم الإفادة، إذا كان منع غير المسلمين من الدخول إلى أرض الحجاز المقدسة
هو أمر ديني مقرر في الكتب الشريفة المنزلة أو في الحديث الشريف أم هذه عادة،
وفي الحالين أرجوكم إذا لم يكن من مانع أن تتكرموا بالإيضاح في أحد أعداد مناركم
المنير، ولكم جزيل الفضل والمعروف ٠ قال سعادة الشيخ علي يوسف صاحب
المؤيد الأغر في عدد ٥٥٦٧ ما معناه: إن المهندسين العثمانيين في سكة حديد الحجاز
انفردوا بالعمل كله من العلا إلى المدينة؛ لعدم جواز دخول غير المسلم أرض
الحجاز. أختم بتكرار رجائي، والله يديمكم مرجعًا في جميع الأمور؛ كي تستنير
منكم ومن مناركم العمومُ، سيدي.
(ج) روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول
الله صلى الله عليه وسلم وَجعُه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث:
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،
ونسيت الثالثة) . والذي نسي الثالثة هو سليمان الأحول وهي النهي عن اتخاذ قبره
وثنًا أو تجهيز جيش أسامة.
وروى أحمد ومسلم والترمذي وصحيحه عن عمر أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها
إلا مسلمًا) .
وروى أحمد من حديث عائشة قالت: آخر ما عهد به رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وروى أحمد أيضًا والبيهقي من
حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه
وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الجهاد من شرحه للبخاري: أن الجمهور
على أن الذي يُمْنَعُ منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال
وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم
جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها، مع أنها من جملة
جزيرة العرب. أقول: قال في القاموس: جزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر
الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة
إلى ريف العراق عرضًا. والذي جرى عليه العمل هو إخراج غير المسلمين من
الحجاز، ففي صحيح البخاري أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز
وذكر يهود خيبر فقال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء , وجعل بعضهم
حديث أبي عبيده مخصصًا؛ لتصريحه بلفظ (أهل الحجاز) ، وقال بعضهم: إنه لا
يصلح مخصصًا.
وليس من غرضنا هنا تحقيق الخلاف وتحرير الدلالة، وإنما نقول: إن
الحجاز هو الذي نفذ فيه الأمر وجرى عليه العمل، فهو عند المسلمين كالمسجد،
ولا يشاركهم في مساجدهم إلا من دان بدينهم، وشاركهم في عبادتهم , وهذا
التخصيص على كونه دينيًّا يتعلق بسياسة الإسلام، فإنه لما فيه من التساهل مع
المخالفين لا يستغني أهله عن بقعة خاصة بهم، لا يزاحمهم فيها غيرهم، يأرزون
إليها عند إلجاء الحوادث ومطاردة الكوارث. وليس الحجاز مما يصلح لكسب الدنيا
والتمتع بزينتها. فما منع غير المسلمين إلا من مكان لا حظ لغير المسلم فيه، إلا أن
يريد مزاحمته أو الافتيات عليه في خاصة دينه.
وقد تبين المحققون أن حكم الإسلام في مكة أنها وقف للمسلمين عامة. قال
ابن القيم: وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع قسمتها، ولو وجبت قسمة ما عداها
من القرى (أي التي تفتح عُنْوة) وهي أنها لا تملك؛ فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق
وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف الله على
العالمين، وهم فيه سواء، ومنى مناخ من سبق قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: ٢٥) إلى أن قال: فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى
وعرفة ومزدلفة، لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس؛
إذ هي محل نسكهم وتعبدهم، فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ... إلخ.
ثم إن لسائر الحرمين أحكامًا خاصة، فلا يحل صيدها، ولا يختلى خلاها،
فمن هنا يعلم أن منع غير المسلمين من سكنى بلاد الحجاز، ليس هو الحكم الذي
تختص به وحده هذه البلاد. وأما دخولها لغير السكنى ففيه أقوال، أصحها عندي
قول الشافعي أنه لا يُمَكَّن غير المسلم من دخول أرض الحرم إلا بإذن الإمام؛
لمصلحة المسلمين، على أن المشهور في مذهبه أنه يجوز لغير المسلم دخول مساجد
المسلمين بإذن أيّ مسلم، لا يختص بالإمام الأعظم، ولا يقيد بالمصلحة العامة.
وقال بعض العلماء: يجوز دخولها ما عدا المسجد الحرام والحجاز.