للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين وصفي رضا


نهضة الأزهريين

عسير على المفكر أن يحيط علمًا بكل ما يقع تحت نظره، وعزيز عليه أن
يجهل أسباب أمر واقع؛ ولهذا كان الفكر كثير الدأب والتجوال، لا يقر له قرار
حتى يكون له إدراك صحيح لما يرى ويشاهد، وإذ ذاك يرى أنه إذا حكم على شيء
كان ذلك الحكم مدعمًا بالاستقراء، ناتجًا عن مقدمات لا تنتج غيره.
إن فيما يتفق عليه جمهور المفكرين كثيرًا مما يكون موضعًا للشبهة، والأفكار
فيه مسارح ومذاهب؛ لطموس معالمه وخفاء كنهه؛ ولذلك لم يتحقق الإجماع على
ما لا يعد من البديهيات إلا فيما ندر وقل، وإن مما اتفق عليه العلماء استحالة وقوف
عمل ما عند حد محدود، لا يتنزل إلى هبوط، ولا يتوقل إلى صعود.
لا يبعد أن يذهب قصار النظر إلى إمكانية ذلك، وإنني لا أوجه كلامًا إلى
هؤلاء، بل أخاطب به أرباب العقل، أريد بهم أولئك الذين لا يهملون أمر الفكر،
بل يستعملونه فيما خلق له، ولكل وجهة ومنحى.
تأمل في أي عمل من الأعمال تأمُّل نافذ البصر ثاقب البصيرة، ثم ارجع إلى
نفسك، وأنا ضمين بأنك تحكم: إما بترقيه وإما بتدليه، ولا وسط بينهما.
كل هذا مما أثبتته المشاهدات، واستفاضت بتفصيله النظريات، حتى بات من
المقررات التي لا نزاع فيها بين من يعقل ويفكر؛ ولذلك كان في حال الأزهر وبقائه
في نقطة محدودة لا يتجاوزها قيد شبر لمن ينظر إليه بادي الرأي، حيرة للعقول
ومضلة للإفهام! !
أفرغ ذلك العاقل الحكيم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جهده في سبيل إصلاح
الأزهر، وقضى دائبًا على ذلك سنين لو أمضاها في التأليف والكتابة لملأ الخزائن
حكمة وعرفانًا.
صاح بالأزهريين صيحة صُمَّت منها آذان وفتحت بصائر، فأصاخ قوم لقوله
وثار آخرون ينبزونه باللقب، ويعرقلون مساعيه العظيمة، فريق منهم عانده عن
غي وجهل، وآخرون كانوا يمنون ويوعدون، وكثيرون منهم حملوا على ذلك وهم
كارهون! ! ولكن الإمام كان في أول الأمر مؤيدًا من الأمير، فلم تؤثر في عمله
صيحاتهم، ولم تصدف به سعة سعاياتهم، فأسس للأزهر مجلس إدارة على نمط
ديمقراطي، لا يدع لكبير نفوذًا فيه، ولا لأمير سلطة عليه، ونفخ روح الاستقلال
في رجاله، بما كان يريهم من جلائل أعماله، وجلس من الطلاب مجلس مفيض
الحكمة على العقول، ومربي الأخلاق والنفوس.
ولم تكن العقبات والعواثير الأولى صادة له عما انتدب له وصمم عليه، بل
كان لا يأبه لها - وذلك شأن أرباب النفوس الكبيرة - إلى أن ظهرت له بشكل جديد
يمدها نفوذ قوي، ويؤيدها مقام عَلِيٌّ، فتنكر لها كما تنكرت له، ووثبها حينًا كما
واثبته، حتى كانت تلك الوقفة المشهورة للأمير، وفيها نطق بما كان أكنَّه، وأظهر
ما أخفاه وأجنَّه، قال:
(ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولكن من
الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين،
ويكثرون لذلك من أسباب القلاقل، حتى إنه لما بدا شيء من بعض المغاربة
المجاورين فيه عند إسكانهم في المحال التي خصصت لهم في الأروقة التي عمرت
حديثًا على نفقة ديوان الأوقاف، كان من أهل الأزهر نفسه من يهددهم بالعساكر،
ويتوعدهم بالنفي، ويستفز نفوسهم بمثل ذلك للقيل والقال، والاضطراب والهياج،
إلى أن قال:
وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف
والشغب بعيدًا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة
عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء) .
نطق الأمير بخطبته تلك، ففهم الإمام من بواطنها أكثر مما فهم الناس من
ظواهرها، فاستيقن أن العراقيل التي تقف في سبيله إن لم تقدر على زحزحته عن
مكانه، فإنها كفيلة بتعطيل عمله وإصلاحه، فخرج من حضرة الأمير والأسف
مشتمل على نفسه، ورأى أن الخروج من مكان أراد أن يجعله كعبة للإصلاح،
فحيل بينه وبين ما يريد أصبح واجبًا محتمًا، فاستقال من إدارة الأزهر هو
وصديقه العامل الشيخ عبد الكريم سلمان، ولقد كان لتركهما الأزهر اضطراب
وحزن، شاركت مصر فيه سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الرجاء بالإصلاح
الإسلامي كان معقودًا بهذين الرجلين الزعيمين به ثم مضى الإمام إلى ربه ولسانه
يتلجلج بقوله:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
استحوذ اليأس على النفوس من إصلاح الأزهر بعد ذلك، وحكم الناس بأنه
يصير طللاً دارسًا؛ لأن طريقين يسير الناس فيهما في هذه الدنيا: فإما فناء وإما
ارتقاء، ولا ثالث لهما، ولا وسط بينهما، كما مر من قبل، وأجمع الكثيرون على
أن الأزهر سائر في الطريق الأولى، وصادف عن الأخرى، وكان أناس في حيرة
من أمر الأزهر، ظانين أنه واقف ساكن لا يسير إلى تدلٍّ ولا إلى رقيٍّ! ! وهذا هو
المحال بعينه , وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يستحيل أن يبقى الأزهر في هذا
العصر على ما هو عليه، فإن لم يعمر ويرتقِ فلا بد أن يخرب ويزول.
رأى الأمير بعد ذلك أن يصرف عنايته في سبيل إصلاح الأزهر، وتغير رأيه
في حظ الحكومة منه، وإدخال العلوم الجديدة عليه، حتى أصبح يراها من الفروض
المحتمة، فألف له مجلسًا عاليًا هو رئيسه في بعض الأحيان، فقرر المجلس وضع
نظام جديد للأزهر، ودأب أعضاؤه يجمعون نظاميات المدارس الأميرية، وما كان
وضعه المرحوم الأستاذ الإمام، ولخصوا من كل ذلك نظامًا جديدًا وضعوه ليسير
عليه الأزهر، فكان من عيوبه الكثيرة أن الأساتذة أنفسهم لا يستطيعون السير عليه،
فقد وضعوا فيه علومًا جديدة أوجبوا على الطلاب ممارستها، وأكثروا فيه من
العلوم والفنون التي يستحيل على طالب لم يتوفر على تحصيلها من قبل أن يلم بها،
وحتموا على من أوشكوا أن ينتهوا من الامتحان تأدية الامتحان فيها، مع علمهم بأن
هذا من الإرهاق الذي لا يستطاع حمله، فإن الطالب الذي بلغ الثلاثين أو ما فوقها،
يعسر عليه أن يرجع إلى مدارسة كتب السنة الأولى وبينه وبين الامتحان سنة أو
سنتان! ! على أنه لا يوجد من الأساتذة من يحسن تدريسها، بل لا يوجد من ألم بها
أو زاولها! .
سألني أستاذ عهد إليه تدريس تاريخ آداب اللغة، ماذا أفضل من التواريخ
لإقرائها؟ ابن خلكان أم ابن الأثير! ! ! وجاءني أستاذ آخر يسألني ما هي
المحاضرات؟ ! وربما كان السائلون لغيري أكثر على أنهم يسألون عن موضوعات
ليست غريبة عنهم، فما بالك بعلوم الطبيعة والرياضة ونحوهما؟
جاء البرنامج الذي وضعوه حاويًا أكثر من عشرين فنًّا، ما بين قديم وجديد،
وأوجبوا على طلاب السنة الثانية عشرة أن يمتحنوا فيها، فكأنهم بهذا فرضوا عليهم
أن يعودوا إلى السنة الأولى! ووزعوا العلوم على من لا يحفظ حتى أسماءها، فمن
ذلك أنهم فرضوا على ضرير أن يقوم بتعليم الإملاء! وأرادوا على تدريس الرياضة
من لا يحسن القواعد الأربع! وهكذا كان توزيع سائر العلوم على المدرسين، فكانوا
كلما توغلوا في تطبيق النظام ازداد التهويش والاضطراب.
رأى الطلاب أنهم مسوقون في طريق غير معبدة ونهج غير سوي، فاستيقنوا
أن النهاية ستكون شرًّا من البداية، وكان كثيرون منهم ممن حضروا دروس الأستاذ
الإمام عرفوا منها أن للإنسان أملاً في هذه الدنيا يسعى إليه، وغاية يقصدها بعلمه
وعمله، ورأوا أنفسهم أنهم ليسوا من ذلك في عير ولا نفير، فاضطربت أفئدتهم
وحزنت نفوسهم.
أطلوا على مستقبل مظلم، مسبوق بالنكد والإرهاق، ورأوا الأهوال تصرفهم
وبؤس العيش يؤذيهم، فهبوا من رقدتهم، واستيقظوا من غفوتهم، ونهضوا نهضة
من نفخت فيه نسمة من الحياة، كانت ساكنة ولا محرك لها، فحركتها حرارة هذا
النظام وبرودة تنفيذه من جهة، فصارت ريحًا عاصفةً.
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
من ذا الذي كان يظن أن طلاب الأزهر سيخرجون من الأزهر بقضهم
وقضيضهم وهم بضعة آلاف؛ ليعلنوا للملأ أن ما هم فيه لا يرضى به من كان
إنسانًا، وإن ما أوتوا من النظام الجديد إنما هو نتيجة أفكار تستطيع أن تحشر
المؤتلف والمختلف معًا؛ ولكنها لا تحسن النظام، بل لا تعرف طرقه؟
خرج الطلاب من أزهرهم حذر ما أريدوا عليه؛ وابتغاء الوصول إلى خير
منه، فطوفوا في الشوارع، وذهبوا إلى الجزيرة فخطبوا، وكان مظهرهم من أجمل
ما تقع عليه العين، وكان أحسن ما هم فيه نظامهم وأناتهم، فقد كانت صفوفهم
متوازنة، وأبصارهم خاشعة، تأدبًا بأدب الدين، وتخلقًا بأخلاق حملة العلم.
سُرَّ الناس بهذا المظهر الجميل أو المظاهرة كما يقول الكتاب، وارتاحت
نفوسهم إلى الأزهريين، بعد أن حكموا عليهم بالموت الزؤام. ولكن القيمين عليهم
من المدرسين والمفتشين ريعوا وغضبوا، وصوروا الحال للأمير بعكس ما وقع،
فأوهموه أن فريقًا أو أفرادًا حقيرين (وكلمتهم الحقيقية: هلافيت!) ، قاموا
يصخبون ويصيحون، وأن تأديبهم من السهولة بمكان، فلم يحفل الأمير نداءهم، ولم
يستجب لقولهم. ولكن ظهر بعد ذلك غشهم لأنفسهم وللأمير، ورأوا من اتحاد
الأزهريين وصدق عزيمتهم، أكثر مما عندهم من القسوة والصلف، وأن الأمر واقع
ما له من دافع، فلم يزدهم ذلك إلا تشددًا وعنتًا، ظنًّا منهم أن الشدة تفرق جمعهم،
وتحل عرى اتحادهم، فجاؤهم برجال الشرطة وركبانها، فأحاطوا بالأزهر من كل
جهة، وسدوا من دون طلابه كل منفذ، حتى إن فريقًا منهم لم يرض بما دون
التحرش بقاله وأعماله، فأين من هذا تهديد المغاربة الذي عده الأمير بدعًا؟ ولكنهم
ألفوا الطلاب مدرعين بالأناة والصبر، معتصمين بحبوة التوءدة والسكينة، فما
استطاعوا حملهم على ما يكره من مثلهم، ولا إرادتهم على غير ما أرادوا أنفسهم
عليه.
لم تقف الحكومة موقف الحكمة إمام حركة الأزهريين، بل وقفت شاخصة
ببصرها؛ كمن تعرض أمامه أنواع من الصور المتحركة! ولم تحفل بمطالب
الأزهريين الذين أضربوا عن حضور دروسهم؛ رجاء نيلها. على أنه لم يكن من
العسير أجابتهم إلى بعضها، ولو أنهم أجيبوا لرضوا وشكروا، وتنازلوا عن
المطالب الأخرى واعتذروا.
طلبوا المساواة بين المعاهد الدينية في حقوق الطلاب ورواتب المدرسين،
حتى لا يكون راتب المدرس في الأزهر مائة قرش، وراتب ضريعه في الإسكندرية
ثمان مائة قرش، كما هي الحال الآن، مع أن الأزهر رأس المعاهد الدينية. فمن ذا
الذي لا يقول إنهم طلبوا حقًّا، والتمسوا مساواة وعدلاً؟
طلبوا مدرسين من أرباب الكفاءة والاضطلاع، ولا سيما الذين يعهد إليهم
تدريس العلوم الجديدة التي لا يقدر غير الضليع بها على تدريسها، وأن تلقى إليهم
على نحو إلقائها في المدارس النظامية، وأن ينفذ النظام الذي وضع لهم بالتدريج
اتباعًا لسنة الارتقاء الطبيعي، لا أن يدفعوا به في صدورهم مرة واحدة، ويحملوا
على الجري عليه كلمة كلمة، أفليسوا بهذا المطلب محقين، وبه جديرين؟
طلبوا أن يكون لحملة الشهادة الابتدائية والثانوية منهم حظ من الاستخدام في
المحاكم الشرعية والأوقاف، والخطابة والوعظ، وغير ذلك من الوظائف الحقيرة
فهل هم بذلك مخطئون بما طلبوا؟
طلبوا أن لا يحمل الطالب الذي يؤدي الامتحان في هذا العام على تأدية
الامتحان في العلوم الجديدة التي لم يدرسها، ولم يعرف من أمرها شيئًا؛ لأن حمله
على أداء الامتحان فيها من الإرهاق والظلم البين، فهل أساءوا وظلموا؟ !
طلبوا أن يكون لهم احترام أمام ذوي السلطة، وأن يسمح لهم بالسفر بنصف
أجرة في السكك الحديدية ولشيوخهم من دون أجرة؛ مساواة لهم برؤساء الأديان
الأخرى، فهل كانوا بذلك بدعًا، أم أتوا أمرًا إدًّا؟
تلك معظم مطالب الأزهريين فأي منصف، بل أي مجحف، يبيح لنفسه
الادعاء بأنهم ليسوا أحق بها وأهلها! رأوا أنهم هضموا وظلموا، وأعطي إخوانهم
في الإسكندرية فوق ما سألوا، فطلبوا المساواة بهم. ورأوا أن العلوم وزعت على
مدرسين لم يحيطوا بها علمًا، بل لم يعرفوا لها حدًّا ولا رسمًا، وقد مر على القارئ
أن الإملاء عُهِد في تدريسه إلى أعمى، والرياضة إلى من لا يعرف لها مسمى،
فكيف مع هذا لا يكونون محقين في طلب المدرسين الأكفاء والعلماء الفضلاء! .
رأوا أن الحامل منهم للشهادة الابتدائية أسوأ حظًّا من حجاب المحاكم، وغيرهم من
مزاولي ما هو دون مهنتهم. فطلبوا أن يكون لمن يحملها نصيب في بعض
الوظائف الحقيرة! فهل هم بذلك ظالمون؟ رأوا أنهم ممتهنون مزدرون وأن أحدهم
أذل من قيسي بحمص، وأن أندادهم وأقتالهم من أرباب الديانات الأخرى، لهم من
الاحترام عند رجال الحكومة، ومن الميزة في بعض الشئون، ما حملهم على الطلب
بأن يعاملوا مثلهم، فهل يعد هذا من الافتيات!
وهنالك مطالب أخرى ما كان لهم أن يطلبوها، وإن كانت حقًّا وعدلاً، كطلب
تعيين شيخ الجامع الأزهر بالانتخاب وغير ذلك، وربما يكونون طلبوا كل ذلك
ليجابوا إلى بعضه، على أن الحكومة هزأت بهم وسخرت منهم، فكان ذلك داعية
لصدور حكم المجلس العالي للأزهر عليهم، وهذا هو حكمه بعد ذكر الأسباب:
(قرر المجلس ما يأتي: حرمان طلاب العلم بالجامع الأزهر من: المرتبات
والجرايات، والامتيازات الحائزين عليها بحسب تبعيتهم للأزهر، ويمنعون من
دخوله! ! إلخ) .
جوزي الأزهريون بهذا الحكم لطلبهم تلك المطالب، وسيحفظه التاريخ الذي لا
ينسى شيئًا، ويكون لمن بعدنا حكم عليه وأي حكم! !
لم أر فيما رأيت في هذه البلاد أمرًا عنيت به الأمة، واضطربت له عنايتها
واضطرابها بأمر الأزهريين، وليس لهذا من سبب إلا الشعور بأنهم مغموطون
مضطهدون، فكان اندفاع الأمة في الرغبة إلى الحكومة والالتماس من الأمير بمعاملة
الأزهريين بالرفق والحسنى، وإجابتهم إلى ما طلبوه بحق وعدل كان ذلك سببًا
لنهضة النظار ورغبتهم إلى الأمير أن يصفح عما عده ذنبًا للأزهريين، وقد كان
ذلك، وقرر إرجاع الأزهر إلى قانون سنة ١٣١٤.
سكنت ثائرة الأزهريين، وارتاحت نفوسهم إلى هذا القرار، وأفرخ روع
الأمة بعد القلق والاضطراب. ولكن قام فريق من أصحاب الجرائد وكتابها الذين
يتكلمون بغير وجدانهم، ويكتبون بمؤثرات كاذبة يخلقونها لأنفسهم، يصيحون
ويصخبون متململين من هذه المغبة، متبرمين من سوء النتيجة، ناعين على جرائد
أخرى كانت تشد أزر الأزهريين؛ لأنها كانت تؤيدهم ذلك التأييد، وذلك ليوهموا
الأمة أن الرجوع إلى ذلك القانون خسران مبين! ! !
لو لم يكن في الرجوع إلى ذلك القانون إلا حصر سلطة الأزهر في مجلس
إدارته، لعد هذا وحده غُنمًا وأي غُنْم، على أن نظام القانون القديم الدراسي، كان
وضعه على نمط يجعل للطلاب حظًّا من العلوم الجديدة، من دون أن يرهقوا أو
يحملوا على ما لا يستطيعون، فقد كان القانون يخول لمن كان في السنة السادسة
الاختيار في الامتحان في العلوم الجديدة، فله أن يمتحن فيها إذا شاء، ويكون إذ ذاك
مقدمًا على غير الممتحن فيها، وذا حظ من الجوائز المالية التي كانت خصصت لمن
يبرز فيها , فأين هذا من القانون الجديد الذي يقضي حتى على من كان في آخر
سني الدراسة أن يمتحن في تلك العلوم كلها؟
ليس من يحملك على ما لا يستطاع حمله بالقسر، كمن يسوقك إلى صنع
المستطاع الهين بما في وسعه من أنواع الترغيب والتحبب، وهذا ما جعل الطلاب
يتلقون القانون القديم بالرغبة والجذل، وحملهم على النفور من الجديد بالكراهية
والسخط، وذلك أمر منتظر والمثل يقول (إن رمت أن تطاع فسل ما يستطاع) .
يقول المتفيهقون اللاغطون: إن نفور الأزهريين من النظام الجديد دليل على
جمودهم، وأنا أقول: إنه دليل على استقلالهم ونهضتهم، وحجة أولئك زعمهم أن
الأزهريين لم يرتضوه لأنفسهم؛ لأنه يحملهم على ممارسة العلوم الجديدة، وهم لا
يشاءون أن يضربوا بسهم فيها! ! وسلطاني أنهم رفضوه؛ لكونه مشوهًا مضطربًا
لا يمكن السير عليه، وقد مر على القارئ الإلماع إلى شيء من مساوئه. أما العلوم
الجديدة فإنهم عرفوها أيام كان كثيرون من واضعي النظام يحاربونها، ويرمون
مزاوليها بالتضليل والتكفير. فالرياضة والهندسة والهيئة والميقات وتقويم البلدان
والتاريخ كان يدرسها الأزهريون. ولكنها كانت تدرس لمن لم يتجاوزوا السنة
الرابعة الدراسية، لا كما قضى النظام الجديد بإرغام جميع الطلاب عليها! .
الغرض الأول من الأزهر تخريج الأخصائيين في علوم الشرع، ومن
الضروري أن يكون العالم الشرعي ذا إلمام بالعلوم الجديدة؛ لأن الجاهل بها في هذا
العصر هو والأعمى شرع. ولكن من الرعونة والبلاهة أن يراد من العالم الشرعي
أن يكون أخصائيًّا في الرياضة والطبيعة والهندسة وغير ذلك.
ألا إن الإصلاح الحقيقي لا يكون بزيادة العلوم ووضع القوانين، وإنما يكون
بالرجال الأكفاء الضليعين الذين يزِنون الأشياء بميزانها، ويضعون كل شيء في
موضعه، إذا كان لديهم المال الذي يقتضيه ذلك الإصلاح. وإن بين ظهرانينا
كثيرين من هؤلاء، وهم متخرجي الأزهر وموظفي الحكومة، فماذا على الحكومة
لو عهدت إلى هؤلاء إصلاح الأزهر - وهم القادرون وحدهم على ذلك - إذا كانت
تريد الإصلاح!
وأحسن ما تختم به هذه المقالة الثناء على الشيخ حسونة النواوي الذي ظهر
في استقلال فكره وكمال رجولته، ما ذكرنا بكلمة الأستاذ الإمام فيه (أنه أفضل من
يليق لمشيخة الأزهر) بل ما حمله على الاستقالة؛ لأنه لم يُجَب إلى مطالب
الأزهريين إذ سألها، فكان ضنينًا بكرامته أن تهان، وبإرادته أن تتلاعب بها
الأهواء، وهذا هو الرجل الفذ، أكثر الله فينا من أمثاله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا