للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من الجزائر
جاءتنا الأسئلة الآتية من الجزائر وأحب مرسلها أن يرمز إلى اسمه بكلمة
(غويشم) قال بعد الثناء والسلام:
الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم
(س ٣٨) إنني أحببت أن أشرب من بحر علومكم فهم مسألة الفتن الواقعة
بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع علمهم لا شك بأفضلية بعضهم على
بعض وسبب قتل سيدنا عثمان - رضي الله عنه- وكيف نسلك طريق الاعتقاد في
ذلك تفصيلاً وتحقيقًا وتعميقًا وتدقيقًا؟ ومرادنا من استمداد هذا المرغوب من
حضرتكم الفخيمة لكونها نتيجة حضرة المغفور له مولانا الأستاذ الإمام الشيخ سيدنا
محمد عبده رضي الله عنه فنحصل على بعض أفكاره في المسألة رحمه الله
وأعزكم من بعده.
(ج) لا يمكن التفصيل والتحقيق المطلوب في هذه المسألة في جواب سؤال
وإنما يكون ذلك في مصنف خاص بها، ولو ذكر ذاكر خلاصة وجيزة لمصنف وضعه أو هيأه لصعب التسليم بها على من لم يطلع اطلاعه ولم يقتنع بمآخذه لتلك الخلاصة
وأحب لكم أن تقرءوا ما كتبه رفيق بك العظم في كتابه (أشهر مشاهير الإسلام)
وتعملوا رأيكم في ذلك وتراجعوا فيه كتب التاريخ حيث تجدون حاجة للمراجعة وما
يشتبه عليكم بعد ذلك فراجعونا لنبين لكم رأينا فيه. على أننا نذكر هنا شيئًا وجيزًا
ينير لكم طريق البحث.
أما علم الصحابة عليهم الرضوان بفضل بعضهم على بعض فهو على كونه
ضروريًّا في الجملة وكونه على غير ما يظن الجمهور في التفصيل لا يستلزم عدم
وقوع الخلاف فإن معاوية إذا كان يعلم أن عليًّا يفضله في العلم والتقوى فقد يعتقد أنه
هو يفضل عليًّا في السياسة والإدارة وقول العلماء (يوجد في المفضول ما لا يوجد
في الفاضل) معقول لا سبيل إلى إنكاره وهو مما لا يخفى على عاقل ويؤيده
استدراك التلميذ على الأستاذ والمبتدئ على المنتهي في مسائل يكون هو المصيب
فيها؛ ولأجل ذلك نبحث في كل ما قاله العلماء الراسخون وأئمة الفنون الواضعون
رجاء أن نعلم ما لم يعلموا أو نصيب بعض الأغراض التي أخطئوا كما قال الإمام
مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر:
يشير إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بعموم كلامه الصحابة فمن
دونهم من علماء التابعين وهو يعلم أن فيهم من لا يُعد ممن يفضله في فهم الشريعة
والوقوف على أحكامها. إذا فهمت هذا فلا تعجب لاختلاف الصحابة يوم السقيفة ولا
يوم اختيار أحد الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم ولا لاختلاف علي ومعاوية فإن
الصحابة لم يكونوا كالأشاعرة والماتريدية لهذا العهد مقلدين لشيوخهم بأن أفضلهم
فلان ففلان إلخ ولا ممن يقول إن الأفضل يجب أن يكون هو الخليفة. على أن
الأشاعرة وغيرهم يجوزون إمامة رجل مع وجود أفضل منه إذا كان المولَّى حائزًا
الشروط التي لابد منها للإمامة.
ثم اعلم أن كبار الصحابة كانوا يعلمون من مجموع ما جاء في الكتاب العزيز
عن الشورى ومن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياسته وأحكامه ومن
جعله الخلافة في قريش أن شكل الحكومة الإسلامية يجب أن يكون وسطًا بين ما
يسمى اليوم حكومة جمهورية وحكومة ملكية ووسطًا بين ما يسمى اليوم حكومة
الأشراف وحكومة الأفراد، أعني أن الذي فهموه كان وسطًا حقيقيًا بين ما ذكرت من
غير ملاحظة هذه الأطراف وكونه وسطًا بينها. فلهذا لم يجعلوها في آل البيت
خاصة بم إذ لو فعلوا ذلك لكانت من نوع حكومات الأشراف التي استعبدت الناس
وجعلت الملك إلهًا معبودًا ولا نستبعد أنهم كانوا يفطنون لهذا الأمر لا سيما مع علمك
بما أوتوه من نور البصيرة الذي أعشى شعاعه بصائر الفلاسفة والحكماء حتى هذا
العهد، وقد رأيت أن هذا الأمر وقع بالفعل من الفاطميين عندما جعلوا الخلافة تراثًا
فيهم لمكان نسبهم.
ومن هنا تعرف سبب تألب الناس على عثمان بعد أن قويت عصبية بني أمية
باستكثاره من استعمالهم حتى خيف أن يتحول وضع الخلافة عن الشرع ويصير حكم
أشراف يقوم بالعصبية. وعثمان لم يكن يقصد هذا ولكن الحوادث مهدت له بما كان
من لينه وحيائه وشره قومه وطمعهم فيه حتى أحس المسلمون بالخطر قبله وهو لا
يرى قومه في جواز استعمالهم إلا كسائر الناس. فارجع بعد هذا إلى ما قلناه في تقريظ
كتاب (أشهر مشاهير الإسلام) في الجزء الثالث عشر من منار هذه السنة.
وحسبك الآن هذه التنبيهات، وعليك بعد كثرة القراءة بمراجعتنا في المشكلات.
***
ثبوت رمضان بقول المنجم
(س ٣٩) ومنه: ثم أستفتيكم في مسألة ثبوت شهر رمضان بقول المنجم ولماذا قال خليل (لا بمنجم) .
(ج) راجع ص ٦٩٤ وما بعدها في المجلد السابع تجد القول في ذلك
مفصلاً تفصيلاً.
***
صلاة النساء في المساجد
(س ٤٠) ومنه: هل يجوز للمرأة أن تصلي في المسجد أم لا؟ لأن في
بلادنا رجالاً طغاة بمالهم وجاههم حرموا المساجد على النساء وأحلوا لهم العفرات ... (كذا) .
(ج) كان النساء على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصلين مع
الرجال في المسجد يقفن وراءهم،فصلاتهن في المسجد سنة متبعة ثابتة لم يختلف في
صحتها أحد من المسلمين، فتحريم ذلك على الإطلاق جهل فاضح. والأحاديث
القولية في ذلك كثيرة أشهرها حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن) رواه أحمد والشيخان
وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، ولكن ورد أن يخرجن غير متبرجات بزينة فقد
روى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات قالوا: ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات
لداعي الشهوة كالحلي والحلل وجميع ضروب الزينة. وروى مسلم في صحيحه
وأبو داود والنسائي في سننهما من حديثه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة) وأعم منه حديث
زينب امرأة ابن مسعود في صحيح مسلم (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا) .
نعم، ورد أيضًا أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد
فقد روى أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى
المساجد وبيوتهن خير لهن) وله شواهد. وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني في
الكبير من حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (خير مساجد
النساء قعر بيوتهن) وفي إسناد الحديث ابن لهيعة وهو ممن طُعن في روايتهم
ويجوز حمله على غير صلاة الجماعة. وفي الباب رأي عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا
لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها) رواه الشيخان، وعلى هذا
الرأي بنى المتأخرون منع النساء من المساجد، فهو اجتهاد لا يصح أن ينسخ
النص القطعي الصريح، ويحرم ما أحل الله ورسوله، نعم، إن علم أن
خروجهن إلى المسجد يكون سببًا للفتنة جاز- أو وجب - منع من يعلم أو يظن
الافتنان بهن فقط مع إزالة سبب الفتنة ولكن لا يصح أن يقال أن خروجهن إلى
المسجد وصلاتهن فيه محرمة عليهن ولا أن يجعل حكمًا عامًّا مطلقًا.
***
ذنوب الخطيب الذي يحث على الكسل والخرافات
(س ٤١) ومنه: كم هي ذنوب الخطيب الذي لا يأمر الناس إلا بالعجز
والكسل والموت والخرافات والتقليد وسيئ العادات؟ لا زلت بحرًا يستجلب دره،
ومزنًا يستوكف دره، والسلام.
(ج) هذا الخطيب شر خطباء الفتنة وذنوبه لا تحصى إلا إذا أمكن إحصاء
تأثيرها الضار في الأمة وأنى يحصى وهو من الأمور المعنوية التي لا تعرف
بالعد والحساب؟ فمن سيئات هؤلاء الخطباء وآفاتهم في الأمة أن كانوا علة من علل
فقرها وضعفها في دينها ودنياها وضياع ممالكها من أيديها، فهم أضر على المسلمين،
من الأعداء المحاربين، ومن دعاة الضلال الكافرين، ومثلهم كمثل الطبيب الجاهل
يقتل العليل، وليس هذا محل شرح سيئاتهم بالتفصيل، ولكن لا بد من التنبيه على
سيئة منها حادثة لم تكن من قبل وهي أن أبناء المسلمين الذين تعلموا العلوم
العصرية وعرفوا أحوال الأمم وسياستها، وتأثير آدابها في مدنيتها، وعزتها ولم
يقفوا على حقيقة الآداب الإسلامية، ولا غير ذلك من الأصول الدينية، يتوهمون
أن هؤلاء الخطباء ينطقون بلسان القرآن، ويبينون للناس لباب ما جاء به الدين
من الحكم والأحكام، ويستدلون على ذلك بإجازة العلماء ما يقولون وما يوردون في
كلامهم من الأحاديث وإن كانت موضوعة أو واهية، وما يرصعونه به من الآيات وإن
كانت لما ينهون عنه آمرة وعما يأمرون به ناهية، ولكن أنَّى للسامع المسكين، أن
يميز الغث من السمين، إذا كان لم يطلع على تفسير الكلام القديم، ولم يقرأ علم
الحديث الشريف، فلا جرم ينفر من الدين نفور الكاره له، المعتقد أن معارف البشر
أهدى منه، وإذا كان عارفًا بدينه فإنه ينفر من صلاة الجمعة وأعرف من المصلين
من يتحرى أن يدخل المسجد بعد فراغ الخطيب من خطبته، وحدثني الأستاذ الإمام
- رحمه الله تعالى - أن رجلاً من النابغين في العلوم العصرية كان كثير الخوض في
الدين والإنكار لبعض أصوله وفروعه فما زال به الأستاذ حتى أزال شبهاته وأقنعه
بأن يصلي فبدأ بصلاة الجمعة في الجامع الأزهر فسمع خطبة من الخطب المسئول
عنها فنفر، وقال: إن هذا شيء لا يصلح به أمر البشر، وما أنا بعائد إلى سماع هذه
الخطابة، انخداعًا بما للشيخ محمد عبده من الخلابة.
هذا وإن مقام الخطابة هو مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقام خلفائه
ونوابهم، وقد أهين هذا المقام في هذا العصر لاسيما في مصر فصار يعهد به كثيرًا
إلى أجهل الناس وأقلهم احترامًا في النفوس لأن الخطابة في نظر ديوان الأوقاف هنا
وظيفة رسمية تؤدى بعبارة تحفظ من ورقة فتلقى على المنبر أو تقرأ في الصحيفة
ككنس المسجد يقوم بها أي رجل، وفي نظر طلابها حرفة ينال بها الرزق. فهمّ
الديوان في الخطيب أن يكون قليل الأجرة لتتوفر أموال الأوقاف فيوضع ما يزيد
منها عن النفقات التي لا تفيد المسلمين في خزائنه أو خزائن البنك وقد اجتهد الأستاذ
الإمام - رحمه الله تعالى - في إحياء هذا الركن الإسلامي يجعل الخطابة خاصة
بالعلماء الأعلام، فوقفت السياسة في طريق مشروعه مدة حياته ولعلها تتنحى فينفذ
بعد موته.