للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ


بحث الكلام في الاختلاف [*]

قد نوه الله سبحانه بالاختلاف في الدين وكرر ذلك في كتابه العزيز تكريرًا
كثيرًا؛ لعلمه سبحانه وتعالى بضرره في الدين، وكم كرر ذلك في بني إسرائيل
قائلاً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: ١٤)
ونحوها فكأنه يقول: أحذركم مثل فعلهم مدلين بالشبه وعدم تبين ذلك في دينكم،
فإنكم إن فعلتموه فعلتموه بعد قيام الحجة عليكم ولا يحملكم عليه إلا البغي لا
التدين وأن من أراد الله واتبع رضوانه؛ فإنه يهديه سبل السلام ويخرجه من
الظلمات إلى النور. فصدق الله تعالى ما وجدنا الخلاف إلا في محل قد تبين
الحق فيه، وأدلى المخالف للحق بشيء لا ينبغي الاستناد إليه، فهو إنما جعله
صورة والحامل الحقيقي البغي لنيل حظ دنيوي.
وقد يكون البلاء من النظر في شيء النظر فيه تكلف ما لا يعنى، وقد تمم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى عن مظان الخلاف وحذر منها كالجدل في
القدر. وقال الله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: ١٠١)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتركوني ما تركتكم) وكَمَّل الله سبحانه
على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق شيء يقربنا إلى الجنة إلا بينه لنا،
ولا شيء يقربنا إلى النار إلا بينه، وما عفا الله تعالى عنه وسكت عنه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فلا يريد الله سبحانه أن نبحث عنه بمجرد عقولنا القاصرة
فإنها إنما جعلت الدنيا في قدر محدود في علم الله سبحانه.
وجاءت الرسل بتتميم ما تتم به النعمة وتؤكد الحجة فما عدا ذلك فضول يخاف
ضرره ولا يرجى نفعه، وقد قام بمراد الله تعالى في ذلك خير القرون فكانوا
يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة ويصرحون بذلك وما فرط منهم تلافوه أشد التلافي،
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، كما كان من طلحة والزبير وعائشة
رضي الله عنهم. ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوة على أمراء الجور
أشد الصبر وأقبلوا على صلواتهم وصيامهم وجهادهم وسائر القرب يتواصون بالحق
والصبر والمرحمة، ويحاذرون شق عصا المسلمين وكل ما يجر على الخلاف وهو
المانع والله أعلم لسيوفهم الباترة، التي استولت على أبطال العرب والأكاسرة
والقياصرة، من أن تجتمع على الملك الجائر حتى يقعد مكانه عادلاً.
ثم مضوا الأمثل فالأمثل إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه
ورسوله ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله
ولم يتركهم يتخبطون، لكن النفوس طماحة والدعوى عريضة فتكلم بعض الناس
على ما سكت الله عنه وبحثوا في كلام الفلاسفة واختلطوا بهم في أيام الدولتين
وناظروهم فاحتاجوا إلى تحرير الجواب على شبههم ورأوا أن تلاوة القرآن التي
كانت جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجواب أصحابه رضي الله عنهم
لا تقنع الخصم ولا تنصفه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي
أمراء الأجناد أن يدعوا إلى إحدى ثلاث: الدخول في الإسلام، أو الجزية، أو
الحرب. لم يجعل منها أن تنتشر أخبارهم وصحفهم وحكمتهم وشبههم وفلسفتهم ثم
يناظرهم فقهاء الصحابة بهذا الاتصاف المولد بعد الصحابة هو الداهية الدهياء.
ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ومسألة خلق القرآن
والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم واتصل بذلك المناظرة عند الملوك
والأمراء وصارت عصبية، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين وما هو إلا إنهم
لما تعدوا طورهم ولم يقفوا على حدهم الذي وقفهم الله ورسوله صلى الله عليه وآله
وسلم عليه، تركهم الله وشأنهم ولبسهم شيعًا وأذاق بعضهم بأس بعض فكان خليفة
يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم، ويخلفه الآخر وينقض ما فعله الأول
وينكل هؤلاء ويوطيء شأن هؤلاء حتى استحكم الشر وصار الناس شيعًا، يولد
المولود في قوم فلا يسمع من الإنصاف شيئًا بل يجد شيعته مطبقين على أن مخالفهم
ليس على شيء وإنما هي فتنة وحادثة في الإسلام ويمدحون نفوسهم بكل خير
وينزهونها من كل شر ويعزون إلى المخالف نقيض ذلك.
ترى المعتزلة يقولون في كتبهم: كان الناس على دين واحد فحدث الجبر في
إمارة معاوية والمروانية ثم حدث القول بتكليف ما لا يطاق من فلان وقت فلان ثم
حدث القول بعدم خلق القرآن ثم حدث كذا من فلان في وقت كذا مع ذكر أسباب
وروايات، فيأتون على جميع مذاهب مخالفيهم أنها حوادث. تجد ذلك في حكاية الملل
والنحل وأفراد المقالات لا في كتاب ولا في ألف كتاب ثم تنظر كتب المتسمية بالسنية
يقولون: كان الناس جميعًا قبل حدوث القدرية على أن الله خالق أفعال العباد ليس
للعباد منها إلا النسبة المسماة بالكسب ومجمعون على كذا وكذا بجميع مذاهبهم كل
على ما يراه ويعتقده، ثم حدث رأي المعتزلة بأن العبد ممكن وحدث كذا وكذا إلى
آخر مذاهب المخالف، كذلك وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد
وأهل الحق، والفرقة الناجية، والمنزهون لله عن النقص، وغير ذلك. وتسمى
خصومها بالمجبرة القدرية المجوزة المشبهة الحشوية المرجئة وغير ذلك. والأشاعرة
وسلفهم مثل ابن كلاب والمحاسبي وغيرهم يسمون نفوسهم بأهل السنة ويسمون
المعتزلة المبتدعة القدرية، وقس على هذا.
فترى الضعيف الرأي والدين بل القوي الذي لم يتداركه الله سبحانه بفضل
عناية وتوفيق يرى تطبيق من نشأ فيهم ولقنوه كتبهم وقد ملأت الأرض مع شحنها
بالتحذير من كتب المخالف والجلوس إلى المبتدع؛ فكما فعلته قريش فيملأ قلبه ويطرق
سمعه ذلك في كل ما كرر النظر والجم الغفير قد رأيت ما فعلوا، ومن يرد الله
هدايته يتهم هذا ويبعده عقله، لكن قليل ما هم إنما تراه يشيب على ما شب عليه،
ويمضي عمر المتدين بالقيام والصيام، وطالب العلم بالتصنيف والكلام على الخلاف
والوفاق، وربما يعرف المذاهب خيرًا من أهلها ويعلم أنه قد صار بينه وبين من لقنه
مراحل، ثم همه كله مصروف إلى ما نشأ عليه يثبته ويهدم مقابله، ما نجد خلاف
هذا إلا في الندرة من النادر من المباحث؛ ولذا تجده يقول في المبحث إذا أراد مخالفة
شيعته: الله يحب الإنصاف يتبجح بأنه قد أنصف، وهذه الكلمة دليل عدم الإنصاف
وأنه لو كان ديدنه الإنصاف كما يدعي لما استغرب هذه النادرة التي وقعت؛ لأنه
طول عمره بزعمه جار على الإنصاف فهذا مثل من قال: فرسي والحمد لله. وإنما
يفعلون ذلك فيما لا ينفر عنهم.
بلى قد تجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك
من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية؛ ولذا تجده ينتقل من مذهب برمته إلى آخر
برمته كما رووا أن ابن عبد الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته فقيل له: قال
الشافعي: الربيع أحق بمجلسي. فغضب وتمذهب لمالك وصنف كتابا سماه: الرد
على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنة. هكذا ذكر ابن السبكي. وقد
علم الله سبحانه والراسخون في العلم أن الحق لم يكن برمته عند فرقة والباطل عند
البواقي، وإن كان كل منهم يدعي ذلك، بل عند كل قوم حق وباطل لكن الحق والحمد
لله لا يخرج عن مجموعهم وما الحق كله إلا عند من بقي على ما كان عليه النبي صلى
الله عليه وسلم ولا بد له من الخطأ في اجتهاداته أيضًا في المسائل المعفوعن الخطأ
فيها لا في المهمات فالمفروض أنه وقف على ما وقفه عليه الله ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم فلا خطأ، وقل لي: من ذا الذي وقف على ما وقف، وقنع بما جاء عن الله
وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتمذهب ويؤثر الأسلاف على الكتاب
والسنة، ويترك هذا الداء الدوي ويتمسك بالإنصاف في ما يأتي ويذر؟ لا والله ما
أعرف أحدًا في هذه الكتب التي قد طبقت البسيطة إلا وقد تخبط وخلط، وتعسف
لمذهبه وما أنصف، ورد كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرف.
أما المتكلمون فهو صنيعهم وإن كان في تضاعيف كلامهم ما ينفع في الجملة
وصنعتهم بدعة، وما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا سنة، ولا يخلص من الخير
إلا الشيطان لعنه الله. ولكن هؤلاء المحدثون الذين يزعمون الثبوت على السنة
وينهون عن الكلام قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم؛ لأنهم قاعدون في
طريق الشريعة والمفسدة والحرب والفتك والحيات والعقارب والسموم والسباع في
الجادة أعظم ضررًا منها في ثنيات الطريق مع أنهم دائهم [١] جاء من الخوض في
الكلام وصاروا أشد عصبية من المتكلمين؛ لأن المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش
وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة واختراع التعليلات، بل يعدون ذلك
ظرافة وكمالاً فربما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو
ذلك كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر، ثم تشبثوا بالكسب، ثم تبين عواره
فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى، كما مضى. وليس ثبوت الاختيار
يختص بالمعتزلة حتى ينفر عنه إنما هو دين الله وحجته فمن حقق من المتأخرين هون
ما عظم سلفه ولانت عريكته، وأما المحدثون فإنما أخذوا شيئًا بأول رؤية ثم لم
ينفّروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ولكنه بدعة من أوله إلى آخره فما لهم دخلوا فيه، كان
دخولهم من غير نية لكن دس لهم الشيطان: أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم
هؤلاء؟ فلا اقتصروا على ما هم عليه، ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا
من الرد عليهم.