للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(١٠)

كان آخر ما كتبته عن عملي مع الملك فيصل الخاص بالوحدة العربية أنني
أطلعته على البرنامج الذي وضعته لها فقبله كله، وجزم بقبول إخوته الثلاثة له،
وأن يكونوا إلبًا واحدًا على والدهم ليقبله، وأننا اتفقنا على عقد جلسات خاصة بيني
وبينه للمباحثة في وسيلة تنفيذه، وأن نكتم ذلك عن كل أحد (قال جلالته) حتى
إحسان بك الجابري أي رئيس أمنائه، على أن إحسان بك حلف لي يمين جمعية
الجامعة العربية في اليوم التالي لهذا الاتفاق (أي ٨ شوال سنة ١٣٣٨ الموافق ٦
يوليو (تموز) سنة ١٩٢٠) فصار عندي أمينًا على كل عمل يعمل للأمة العربية؛
ولكن هذا لا يبيح لي أن أفشي له ما هو خاص بالملك فيصل إلا بإذنه.
وأقول هنا: إن فيصلاً كان مخلصًا معي في السعي للوحدة العربية؛ لأنه أعقل
من والده وإخوته الذين اختبرهم ابن السعود ويئس من إخلاصهم ومن صدقهم كما
كتب لي في الملحق الذي كتبه بخطه ووضعه في كتابه، واطلع عليه فيصل كما
تقدم، ففهم منه أنه لا يصدقه هو أيضًا، فعذره ولم يرجع عن رأيه في السعي معي
للاتفاق معه قبل كل أحد.
ثم عرض في هذا الشهر (يوليو) ما شغلنا عن عقد هذه الجلسات وهو
تصدي فرنسة للعدوان على استقلال البلاد، وسلوك الملك فيصل ووزرائه مسلكًا
غير مرضي للمؤتمر العام، ولا لحزب الاستقلال الذي هو حزبه المعلن للاستقلال،
ولنصبه ملكًا للبلاد، وكان الشعب كله مع مؤتمره ومع الحزب والجمعية الوطنية،
ولهذا تحول عن الملك فيصل حتى يصح أن يقال إنه لم يبق معه إلا أفراد من
الموظفين الرسميين عنده، ومن المهتمين بالاتصال به لأجل المنافع الشخصية.
وقد بينت من قبل أنه لم يكن لي حظ من المكث في الشام وراء سعيي للاتفاق
معه على الوحدة العربية إلا إقناعه وإقناع حكومته بمشروع تنظيم قوى العشائر
السورية والقبائل العربية السورية للدفاع الوطني، وإن هذا لم يتم لي.
وقد كتبت في صفحة المفكرة الإجمالية لشهر يونيو (حزيران) أربع مسائل:
(الأولى) منها هذا نصها: لم أر في بالشام عملاً إصلاحيًّا قط لا في
الحكومة، ولا في الأهالي، فالحكومة ضعيفة يغلب على أفرادها ما طبعتهم عليه
الإدارة التركية من المداراة والجري على ما تعودوا، والخضوع للملك، وإن كان
كفيصل سهل القياد، ولو كان الوزراء على شيء من الابتكار وحب الإصلاح
لعملوا عملاً عظيمًا، واستعانوا عليه بفيصل.
والمسألة الثانية في وصف إرادة فيصل وإدارته، وحاله في حلمه وغضبه،
وسيرته مع الأمة والحكومة والحزب والجمعية ومعيشته الخاصة ونفقاته بين نفوذ
إحسان بك الجابري، وصفوت باشا العوا، وليس شرحها من مشرب المنار.
والمسألة الثالثة في وزارة هاشم بك الأتاسي الذي وصفته بالطيب القلب
الحيي، وذكرت مكانته عند الملك فيصل، وخصصت بالذكر من أعضاء وزارته
الدكتور شهبندر ويوسف العظمة العضوين الجديدين الذين كنا اقترحنا إدخالهما
في هذه الوزارة في جلساتنا الخاصة مع الملك فيصل لما نرجو فيهما من قوة
الشباب التي يعتدل بها ضعف الشيوخ، وجملة ما قلته فيها: إن الآمال قد خابت
فيها.
والمسألة الرابعة في الأستاذ الشيخ كامل قصاب رئيس الجمعية الوطنية الذي
كان في الشام أنشط عامل مستقل برأيه واثق بنفوذه، غير مبالٍ بمن يخالفه؛ ولكنه
أشد من فيصل في هذا؟
ومما كتبته من المذكرات الخاصة باختلال بطانة الملك فيصل وظهارته في
يوم السبت ١٠ يوليو ما نصه:
سرقة دفتر يومية خزينة البلاط:
علمت أن أمين صندوق البلاط الملكي (محمود الحلبي) سرق دفتر يومية
البلاط، وأن فيه قيودًا لما كان يبذله لإعانة العصابات وأمثال ذلك من النفقات
الجنونية، وأن صفوة باشا العوا ناظر الخزينة الخاصة أراد أن يحقق، وبدأ
باستنطاق من هنالك ليلة الجمعة السابقة التي سرق فيها الدفتر (أي ٢يوليو) ،
فحال إحسان بك الجابري رئيس الأمناء دون استمرار التحقيق، وفر الجاني ولم
يبحث عنه أحد، ولا يختلف اثنان في أنه أعطى الدفتر للفرنسيين.
وقد سرق مثل هذا الدفتر قبل الآن عندما كان صفوة باشا في مكة المكرمة كما
أخبرني هو نفسه. اهـ.
هذا ما كتبته بنصه في ٢٣ شوال ١٠ يوليو (١٩٢٠) والذي أتذكره أن
الدفتر سرق من جيب الملك فيصل، ولقد كان هذا الدفتر أكبر حجج الجنرال غورو
في إنذاره الطاغي المرهق الذي أنذر به الملك فيصلاً زحفه على الشام، وكنت
أسمع أخبار بذل فيصل المال للعصابات التي تخرج على السلطة الفرنسية وتقاتلها
في حدود لبنان وكذا على الإنكليز في حدود فلسطين، وأسمع أن بعض شبابنا من
أعضاء الجمعية والحزب كانوا من سماسرة هذه الأعمال الصبيانية، فلا أكلمه ولا
أكلم أحدًا منهم في شيء من ذلك لاعتقادي أنه من العبث.
ولهذا لم يكن عندي رجاء في شيء من أمر هذه الدولة إلا ما حاولته مع
فيصل من السعي للوحدة العربية من أمراء الجزيرة وزعمائها، وإقناع والده بذلك
قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف عليه كل شيء، وإلا مشرع توحيد العشائر والقبائل
الذي يئست منه قبل اليأس من هذا؟
ولو نفذوه لما كان استيلاء الجنرال غورو على دمشق بما علم الناس من
السهولة، بل لأمكن للبلاد أن تقاوم زمنًا طويلاً، كما علم بعد ذلك من الثورة التي
خسر الفرنسيس فيها ألوفًا كثيرة من القتلى، وملايين كثيرة من الفرنكات، ولكان
يرجى أن تدخل بالمطاولة في طور جديد ينتهي بخير مما انتهت به ثورة العراق.
على أن فيصلاً قد استفاد من أغلاطه الكثيرة في سورية فوائد عظيمة أفادته
في سياسة العراق فوائد جزيلة، وبلغني أنه كان يعترف بهذا، وسيعلم المطلع على
ما نجمله من خاتمته المؤسفة في دمشق شيئًا من مرونته العجيبة وصبره، وعجز
اليأس أن يطرق باب قلبه.