للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السياسة والساسة

ما السياسة ومن الساسة؟ السياسة من جملة علوم، أستاذها الفلك الدائر الذي
حضر في حلقته الأولون والآخرون، واستفاد من نظامه العلماء والجاهلون؛ فإن
ارتباط المسببات بالأسباب ما عرف بادئ بدء إلا بتعريف هذا الأستاذ الأعظم،
وليست السياسة إلا البحث عن أحوال العالم المجتمع وأسباب تغيرها، واتخاذ كل
طائفة أسباب السمو على غيرها بحسب اعتبارها، وما الساسة إلا علماء هذه
الأسباب وخطباء هذه المعاهد.
قلت: الفلك الدائر، ولعلي أغربت وأبعدت؛ ولكن ليس كل إغراب محرمًا في
شرع البيان، بل أنا لم أغرب ولم أبتدع؛ ولكنني اتبعت المثل السائر الذي شاع
ضربه وتصريفه في ارتفاع قوم وسقوط آخرين، ألم تسمعوهم يقولون: فلك دوَّار
يعلي وينزل.
الفلك لا يعلي ولا ينزل؛ ولكنه كناية عن النواميس والطبائع التي هو أبوها
الأقدم، لا تسل ما هو هذا الفلك الدائر، ولكن سل ما هي هذه النواميس والطبائع؟
هذه النواميس هي الأحكام الثابتة للكائنات في بساطتها وتركيبها، هذه الطبائع
هي المزايا الراسخة للموجودات على ما هي، هذه هي التي إن ظهرت تمجد آثارها
وإن بطنت تسبح أسرارها، هذه التي تجلت للإنسان فصار وحيدًا بين أقرانه
الحيوانات، وسلطانًا على عوالم الأرض، وما الإنسان لولا انكشافها له إلا كبعض
هذه الحيوانات السوائم، بل ما الحيوان لولا انكشاف شيء يسير منها له إلا كهذا
النبات النامي.
قف عند هذه النواميس إن شئت، واصعد إن شئت بعقلك إلى بارئها جل
جلاله، أسند الآثار إليها إن شئت، وأسند إن شئت لبارئها تعالى كماله، قل مثلاً:
النار محرقة أو المحرق بارئ النار سبحانه، وقل المطر تنزله الأسباب، أو تنزله
الملائكة بإذن البارئ ما أعظم سلطانه، لا نناقشك في هذا لأنا رأيناك لا تمد يدك
إلى النار خشية من إحراقها، ووجدناك تتناول الأغذية والأشربة رجاء إشباعها
وإروائها، ولم نرك تأكل وتشرب العبارات فلا تناقشنا أنت على تعبيرنا، بل إن
كان قريبًا وجب حقه عليك، وإن كان غريبًا فالأمر في تركه إليك، وإن استصعب
عليك أخذ المقصود من هذه النبذة، فدعها لغيرك وخذ أنت غيرها:
السياسة علم أحوال الأمم، علم أحوال الأمة الواحدة، علم أحوال النفس.
ليست هذه ثلاثة علوم متغايرة، بل ثلاث درجات متلاصقة، يطلق هذا الاسم على
كل واحدة منها، هن ثلاث درجات لا يرسخ العالم في واحدة منها إلا أن يحيط
نظره بالباقيتين، ويصح أن يقف في واحدة منها إذا تمكن فيها قدمه، ويكون معينًا
لمن وقف في غيرها.
من هذه الدرجات الثلاث يكون رقي الأمم على أيدي علمائها إلى مناط
السعادات، ويكون جلي المآرب دانيًا لها، والذين عدموا علماء لهذه الدرجات
واقفون في الدون، راضون بالهون يشرف عليهم الأعلون إشراف الطائر ذي
الأجنحة على الدواب الزواحف، ومتى شاءوا التقفوها غذاء وزقوا بها أفراخهم.
هذه هي السياسة وستُسألون أيها القوم ماذا أعددتم منها أمام المناظرين،
وستُحاسبون وقد أُحصيت أحوالكم، واستُمعت أقوالكم، وشوهدت فعالكم هل لكم
مواقف في هذه المعارج؟ هل اقتطفتم شيئًا على هذه المراقي؟ هل ساوت مناكبكم
مناكب أهل المواكب؟
السلامة كجنة فيها غرفات، والسياسة كسياج فيه أبواب: منها باب التربية
والتعليم، ومنها باب معرفة طبائع الأقاليم، ومنها باب معرفة الزمان وأهله،
واختبار حلوه ومره، وحزنه وسهله، ومنها باب معرفة ما كان في غابر الأزمان،
ومنها باب تأليف القلوب وجمع القبائل والشعوب، ومنها باب الحذر من الخصوم
وقهرهم بالمدافعة أو بالهجوم، ومنها باب المداراة والمداجاة، ومنها باب التحرش
والمفاجأة، ومنها باب التفقه في الحكم وهو باب الأبواب ولب اللباب، فأنتم
مسؤولون أي الأبواب معكم مفتاحها، وأي الغرفات معكم مصباحها، هل أنتم داخل
الأبواب أم خارجها؟ هل أنتم ضربتم السياج عليكم وغلَّقتم الأبواب؟ أم ضربوه
دونكم وصدكم الحُجاب؟
يسألونك لمن السياسة اليوم؟ السياسة لمن علت همتهم فجابوا من الأرض
البحر والبر، وعرفوا من الناس الفاجر والبر، ومن الطبائع النفع والضر، ...
السياسة لمن نفذت عزيمتهم فرضخ لسلطانهم اليم، واستكان لبعض تدبيرهم الجو،
وناجتهم الأرض دالة إياهم على غوامض أسرارها، وخفايا كنوزها، وخافتهم
النفوس فسكنت لأحكامهم، وترجتهم العقول فتعلقت بمعارفهم، السياسة لمن
يعرفون أسباب القوة ويعلمون التصرف بالضعيف.
أنا لم أمدح قومًا معينين؛ ولكني عرفت أوصاف الذين بيدهم مقاليد السياسة
العظمى، فمن وجد ما يعارض به كلامي فليفعل.
وأنا لم أنفِ بهذا كل معرفة وخير عن قوم معينين؛ ولكني أبين ولا حرج
فأقول: إنا أيها المسلمون اعتدنا أن نستهزئ بالأسباب كثيرًا، وبهذا خسرنا ما
خسرنا.
فبيْنا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقَة نَتَنَصَّفُ
أفليس من استهزائنا بالأسباب استهزاؤنا بالأفراد الذين يريدون إصلاحًا؟
وهل الذين نهضوا بالأمم الأخرى إلا أفراد أمثالهم؟ ومن ظن أن هنالك سببًا
لخسراننا غير استهزائنا بالأسباب فليقل، فأية سياسة لنا إذا كنا نستهزئ بالأسباب؟
هذا ما عندي والسلام على النظام العام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
تتبعها مقالة
((يتبع بمقال تالٍ))