للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكتاب الموعود بنشره
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقين
وعلى آله وأصحابه أنصار دينه الأولين وعلى أتباعهم في مسالكهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأقول: لما كان عهدنا هذا - وهو أوائل القرن الرابع عشر- عهدًا
عم فيه الخلل والضعف جميعَ المسلمين، وكان من سنة الله في خلقه أن جعل لكل
شيء سببًا، فلا بد لهذا الخلل الطارئ والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر
القدر الخفي عن البشر فدعت الحمية بعض أفاضل العلماء والسراة والكتاب
السياسيين للبحث عن أسباب ذلك والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة
الإسلامية فأخذوا ينشرون آراءهم في ذلك في بعض الجرائد الإسلامية
الهندية والمصرية والسورية والتاتارية. وقد اطلعت على كثير من مقالاتهم
الغراء في هذا الموضوع الجليل واتبعت أثرهم بنشر ما لاح لي في جل هذا المشكل العظيم.
ثم بدا لي أن أسعى في توسيع هذا المسعى بعقد جمعية من سراة الإسلام في
مهد الهداية - أعني مكة المكرمة - فعقدت العزيمة متوكلاً على الله تعالى على إجراء
سياحة مباركة بزيارة أمهات البلاد العربية؛ لاستطلاع الأفكار وتهيئة الاجتماع في
موسم أداء فريضة الحج، فخرجت من وطني أحد مدن الفرات في أوائل محرم سنة
ست عشرة وثلاثمائة وألف وكلي ألسن تنشد:
دراك فمن يدنف لعمري يدفن ... وما نافع نوح متى قيل قد فني
دراك فإن الدين قد زال عزه ... وكان عزيزًا قبل ذا غير هين
فكان له أهل يوفون حقه ... بهدي وتلقين وحسن تلقن
إلام وأهل العلم أحلاس بيتهم ... أما صار فرضًا رأب هذا التوهن
هلموا إلى (أم القرى) وتآمروا ... ولا تقنطوا من روح رب مهيمن
فإن الذي شادته الأسياف قبلكم ... هو اليوم لا يحتاج إلا الألسن
فسلكت الطريق البحري من إسكندرون معرجًا على بيروت فدمشق ثم يافا
فالقدس، ثم جئت الإسكندرية فمصر، ثم من السويس يممت الحديدة فصنعاء فصُعُدًا
إلى البصرة ومنها رجعت إلى حائل إلى المدينة على مُنوِّرِها أفضل الصلاة والسلام
إلى مكة المكرمة، فوصلتها في أوائل ذي القعدة، فوجدت أكثر الذين أجابوا الدعوة
ممن كنت اجتمعت بهم من أفاضل البلاد الكبيرة المذكورة وسراتها قد سبقوني
بموافاتها، وما انتصف الشهر - وهو موعد التلاقي - إلا وقدم الباقون ما عدا
الأديب البيروتي الذي حرمنا القدر ملاقاته لسبب أنبأنا عنه فعذرناه.
وفي أثناء انتظارنا منتصف الشهر سعيت مع بعض الإخوان الوافدين في
تحري وتخيّر اثني عشر عضوًا أيضًا لأجل إضافتهم للجمعية، وهم من مراكش
وتونس والقسطنطينية وبغجة سراي وتفليس وتبريز وكابل وكشغر وقازان
وبكين ودهلي وكلكتة وليفربول.
وإذ كنت المباشر لهذه الدعوة بادرت واتخذت لي دارًا في حي متطرف في مكة
لعقد الاجتماعات بصورة خفية، ومع ذلك استأجرتها باسم بواب داغستاني روسي؛
لتكون مصونة من التعرض رعاية للاحتياط. وقد انعقد من منتصف الشهر إلى سلخه
اثنا عشر اجتماعًا غير اجتماع الوداع جرت فيها مذكرات مهمة صار ضبطها
وتسجيلها بكمال الدقة كما سيعلم من مطالعة هذا السجل المتضمن كيفية الاجتماعات مع جميع المفاوضات والمقررات غير ما آثرت الجمعية كتمه كما سيشار إليه.
***
الاجتماع الأول
يوم الإثنين الخامس عشر ذي القعدة سنة ١٣١٦
في اليوم المذكور انتظمت الجمعية للمرة الأولى وأعضاؤها اثنان وعشرون
فاضلاً كلهم يحسنون العربية، فبعد أن عَرَّفت كلاًّ منهم بباقي إخوانه وتعارفوا
بالوجوه بادرتهم بتوزيع اثنين وعشرين قائمة - كن مهيئات قبلاً - مطبوعات بمطبعة
(الجلاتين) التي استعرتها من تاجر هندي في مكة لأجل طبع هذه القائمة وأمثالها
من أوراق الجمعية، محررًا في نسخ القائمة مختصر تراجم إخوان الجمعية جميعهم
ببيان الاسم والنسبة والمذهب والمزية المخصوصة، وموضحًا فيها أيضًا مفتاح
الرموز التي يحتاج الإخوان لاستعمالها.
وأعضاء الجمعية هم: السيد الفراتي، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل
الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي،
المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد
الإنكليزي، الموالي الرومي، الرياضي الكردي،المجتهد التبريزي، العارف
التاتاري، الخطيب الفازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي
الشيخ السندي، الإمام الصيني. ثم بادرت الإخوان جاهرًا بكلمة شعار الأخوة التي
يعرفونها مني من قبل وهي (لا نعبد إلا الله) مسترعيًا سمعهم وخاطبتهم بقولي:
من كان منكم يعاهد الله تعالى على الجهاد في إعلاء كلمة الله والأمانة لإخوان
التوحيد أعضاء هذه الجمعية المباركة فليجهر بقوله: (عليّ عهد الله بالجهاد والأمانة) ،
ومن كان لا يطيق العهد فليعتزلنا وما جال نظري فيهم إلا وسارع الذي عن يميني إلى
عقد العهد ثم الذي يليه ثم الذي يليه إلى آخرهم.
ثم التمست منهم أن ينتخبوا أحدهم رئيسًا يدير الجمعية ومذكراتها وآخر كاتبًا
يضبط المفاوضات ويسجل المقررات، فأجابني العلامة المصري أن معرفة الإخوان
بعضهم بعضًا جديدة العهد وأنك أشملهم معرفة بهم، فأنا أترك الانتخاب لك. وما أتم
رأيه هذا إلا وأجمع الكل على ذلك، فحينئذ أعلنت لهم أن أتخير للرئاسة الأستاذ المكي
وأتخير نفسي لخدمة الكتابة تفاديًا من إتعاب غيري في الخدمة التي يمكنني
القيام بها، واستأذنت الأفاضل الأعجام منهم بنوع من التصرف في تحرير بعض
ألفاظهم، فأظهر الجميع الرضا والتصويب. وصرح الأستاذ بالقبول مع الامتنان
من حسن ظنهم به واستولى على الجمعية السكون ترقبًا لما يقول الرئيس.
أما (الأستاذ الرئيس) فقطَّب جبينه مستجمعًا فكره ثم استهل فقال: الحمد لله
عالم السر والنجوى، الذي جمعنا على توحيده ودينه وأمرنا بالتعاون على التقوى،
والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ،
وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله انتصارًا لدينه لم يشغلهم عن إعزاز
الدين شاغل، وكان أمرهم شورى بينهم يسعى بذمتهم أدناهم، اللهم {إِيَّاكَ نَعْبُد} (الفاتحة: ٥) لا نخضع لغيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) لا ننتظر نفعًا
من سواك ولا نخشى ضرًّا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: ٦) الذي لا
خفيات ولا ثنيات فيه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٧) بنعمة الهداية
إلى التوحيد {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٧) بما أشركوا {وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٧) بعد ما اهتدوا، سبحانك ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من
أمرنا رشدًا.
وبعد: فيا أيها السادة الكرام، كل منا يعلم سبب اجتماعنا هذا من مفاوضات
أخينا السيد الفراتي الذي أجبنا دعوته لهذه الجمعية شاكرين سعيه. ولذلك لا أرى
لزومًا للبحث عن السبب، كما لا أجد حاجة لتنشيط همتكم، وتأجيج نار حميتكم؛
لأننا كلنا في هذا العناء سواء، ولكن أذكركم بخلاصة تاريخ هذه المسألة فأقول: إن
مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عز هذا الدين المبين كل هذه
القرون المتوالية إلا متانة الأساس مع انحطاط سائر الأمم عن المسلمين في كل
الشؤون إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنورة للمدارك فَرَقَت قوتها
فنشرت نفوذها على أكثر البلاد والعباد من المسلمين وغيرهم ولم يزل المسلمون في
سُباتهم إلى أن استولى عليهم الشلل على كل أطراف جسم الممالك الإسلامية وقرب
الخطر من القلب - أعني: (جزيرة العرب) - فتنبهت أفكار من رزقهم الله بصيرة
بالعواقب، ووفقهم لنيل أجر المجاهدين فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة والمباحث
المنذرة، فكثر المتنبهون، وتحركت الخواطر لكنها حركة متحيرة الوُجهة ضائعة القوة، فعسى الله أن يرشد جمعيتنا للتوصل إلى توحيد هذه الوجهة وجمع هذه القوة.
وبتدقيق النظر في النشريات والمقالات التي جادت بها أقلام الفضلاء في هذا
الموضوع نرى كلها دائرة على أربعة مقاصد ابتدائية:
(الأول) منها بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها بوصف عام وصفًا
بديعًا يفيد التأثر ويدعو إلى التدبر، على أن ذلك لا يلبث إلا عشية أو ضحاها.
(والثاني) بيان أن سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل، بيان إجمال
وتلميح، مع أن المقام يقتضي عدم الاحتشام من التفصيل والتشريح.
(والثالث) إنذار الأمة بسوء العاقبة المحدقة بها إنذارًا هائلاً تطير منه
النفوس مع أن الحال الواقع لا تغني فيه النذر.
(والرابع) توجيه اللوم والتبعة على الأمراء أو العلماء أو على الأمة كلها
لتقاعدهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة، مع أن الاتفاق وهم متشاكسون
متعذر لا متعسر.
فهذه المقاصد القولية قد استوفت حقها من أنواع بدائع الأساليب، وآنَ أوان
استثمارها وذلك لا يتم إذا لم يشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصًا دقيقًا
سياسيًا، فالبحث أولاً عن مراكز المرض ثم جراثيمه ليتعين بعد ذلك الدواء الشافي
الأسهل وجودًا والأضمن نتيجة، وبالتنقيب ثانيًا عن تدبير إدخاله في جسم الأمة
بحكمة تصرع العناد والوهم، وتتغلب على مقاومة أعضاء الذوق والشم.
ثم أظنكم أيها السادة تستحسنون الاكتتام الذي اختاره أكثر هؤلاء الكتاب
الأفاضل؛ لأن لذلك محسنات بل موجبات شتَّى ينبغي أن تستعملها جمعيتنا أيضًا
فلنحرص كلنا على الاكتتام؛ لأن من موجباته التزام كل منا المشرب العمري، أعني
القول الصريح في النصيحة للدين بدون رياء ولا استحياء ولا مراعاة ذوق عامة أو
عتاة؛ لأن حياء المريض مهلكة، وكتم الأمر المستفيض سخافة، والدين النصيحة،
ولا حياء في الدين.
ومن موجبات الاكتتام أيضًا أن كل ما يتخالج الفكر في موضوع مسألتنا
معروف عند الأكثرين ولكن بصورة مشتتة، والناس فيه على أقسام: فصنف العلماء
إما جبناء يهابون الخوض فيه، وإما مراءون مداجون يأبون أن تخالف أقوالهم
أحوالهم، وباقي الناس يأنفون أن يذعنوا لنصح ناصح صادع غير معصوم، ولذلك
كان القول من غير معرفة القائل أرعى للسمع وأقرب للقبول والقناعة وأدعى
للإجماع.
ثم أظنكم أيها الإخوان تستصوبون أن نترك جانبًا اختلاف المذاهب التي نحن
متبعوها تقليدًا، فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها، وأن نعتمد ما نعلم من
الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع؛ وذلك لكيلا نتفرق في الآراء، وليكون ما
نقرره مقبولاً عند جميع أهل القبلة؛ إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد، ولا
تستنكف الأمة أن ترجع إليه وتجتمع عليه في بعض أمهات المسائل؛ لأن في ذلك
التساوي بين المذاهب، فلا يثقل على أحد نبذ تقليد أحد الأئمة في مسألة تخالف
المتبادر من نص الكتاب العزيز أو تباين صريح السنة الثابتة في مدونات الصدر
الأول.
ولا يكبرن هذا الرأي على البعض منكم فما هو برأي حادث بين المسلمين. بل
جميع أهل جزيرة العرب ما عدا أخلاط الحرمين على هذا الرأي، ولا يخفى عليكم
أن أهل الجزيرة وهم من سبعة ملايين إلى ثمانية كلهم من المسلمين السلفيين عقيدة
الحنابلة , أو الزيدية أو الشافعية مذهبًا وقد نشأ الدين فيهم وبلغتهم فهم أهله وحملته
وحافظوه وحماته وقلما خالطوا الأغيار أو وجدت فيهم دواعي الغرباء والتفنن في
الدين لأجل الفخار ولا يعظمن على البعض منكم أيضًا أنه كيف يسوغ لأحدنا أن
يثق بفهمه وتحقيقه مع بعد العهد ويترك تقليد من يعرف أنه أفضل منه وأجمع عملاً
وأكثر إحاطة واحتياطًا. ولا أظن أن فينا من ليس في نفسه إشكال عظيم لوجود
اختلافات واضطرابات مهمة بينهم ما بين نفي وإثبات حتى في كثير من الأمور
التعبدية الفعلية التي مأخذها المشاهدة المتكررة ألوف مرات مثل: هل كان النبي
عليه الصلاة والسلام ثم جمهور أصحابه عليهم الرضوان يصلون وِتر العشاء
بتسليمة أم بتسليمتين، وهل كانوا يقنتون في الوتر أم في الصبح، وهل كان
المؤتمون يقرؤون أم ينصتون، وهل كانوا يرفعون الأيدي عند تكبيرات الانتقال أم
لا يرفعون، وهل يعقدون الأيدي أم يرسلونها. فإذا كان الأئمة والعلماء الأقدمون
هذا شأنهم في التباين والتخالف في تحقيق كيفية عبادة فعلية هي عماد الدين، أعنى:
الصلاة التي هي من المشهودات المتكررات وتؤدى بالجموع والجماهير؛ فكيف
يكون شأنهم في الأحكام التي تستند إلى قول أو فعل أو سكوت صدر عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات فقط ورواها فرد أو أفراد.
فعلى هذا لا أرى من مانع أن نترك النقول المتخالفة خصوصًا منها المتعلق
بالبعض القليل من الأصول ونجتمع على الرجوع إلى ما نفهمه من النصوص أو ما
يتحقق عندنا حسب طاقتنا أنه جرى عليه السلف، وبذلك تتحد وجهتنا ويتسنى لنا
الاتفاق على تقرير ما نقرره، ويقوى الأمل في قبول الأمة منا ما ندعوها إليه.
وإني أسلفكم أيها السادات أنه يبقى أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم
أسباب الضعف والفتور كيلا نيأس من رَوح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من
قال: إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل
الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع. فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان
واليابان وغيرها كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم
الأدبية للحياة السياسية.
بل ليس بيننا ولا سيما عرب الجزيرة منا وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة
فرق سوى في العلم والأخلاق العالية على أن مدة حضانة العلم عشرون عامًا فقط
ومدة حضانة الأخلاق أربعون سنة، فعلينا أن نثق بعناية الله الذي لا يعبد سواه
وبهذا الدين المبين الذي نشر لواء عزه على العالمين ولم يزل بالنظر لوضعه الإلهي
دينًا حنيفًا متينًا محكمًا مكينًا لا يفصله ولا يقاربه دين من الأديان في الحكمة والنظام
ورسوخ البنيان، ثم أيقنوا أيها الإخوان أن الأمر ميسور، وأن ظواهر الأسباب
ودلائل الأقدار مبشرة بأن الزمان قد استدار ونشأ في الإسلام أنجاب أحرار وحكماء
أبرار يعد واحدهم بألف وجمعهم بألف ألف، فقوة جمعية منتظمة من هؤلاء النبلاء
كافية لأن تخرق طبل حزب الشيطان وتسترعي، سمع الأمة مهما كانت في رقاد
عميق وتقودها إلى النشاط، وإن كانت في فتور مستحكم عتيق.
على أن محض انعقاد جمعيتنا هذه لمن أعظم تلك المبشرات خصوصًا إذا وفقها
الله تعالى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة؛ لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها
الثبات على مشروعها عمرًا طويلا يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد وتأتي بأعمالها
كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد، وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن يد الله مع
الجماعة، وهذا هو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب وهذا هو
سر نشأة الأمم الغربية وهذا سر النجاح في كل الأعمال المهمة لأن سنة الله في خلقه
أن كل أمر كليًّا كان أو جزئيًّا لا يحصل إلا بقوة وزمان متناسبين مع أهميته، وأن كل
أمر يحصل بقوة قليلة في زمان طويل يكون أحكم وأرسخ وأطول عمرًا مما إذا حصل
بمزيد قوة في زمان قصير، وكلنا يعلم أن مسألتنا أعظم من أن يفي بها عمر إنسان
ينقطع أو مسلك سلطان لا يطرد شأو قوة عصبية حضرية حمقاء تفور سريعًا وتغور
سريعًا.
وإذا تفكرنا أن مبدأ أعظم الأعداد اثنان؛ فكذلك مبدأ الجمعيات شخصان ثم
تتزايد حتى تكمل وتتقلب أشكالاً حتى ترسخ، فعلى هذا لا يبعد أن يتم لنا انعقاد
جمعية منتظمة تنعقد الآمال بناصيتها. ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن
الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلاً، ولا سيما إذا كانت
فقيرة ولم تكن كغالب (الأكاديميات) ؛ أي: المجامع العلمية تحت حماية رسمية بل
الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب.
هذا وإن شرقنا مشرق العظائم، والزمان أبو العجائب وما على الله بعزيز أن
يتم لنا انتظام جمعية يكون لها صوت جهوري إذا نادى مؤذنها: (حي على الفلاح) في
رأس الرجاء يبلغ أقصى الصين صداه.
ومن المأمول أن تكون الحكومات الإسلامية راضية بهذه الجمعية حلمية لها
ولو بعد حين؛ لأن وظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة، وترقى
بها في معارج المعارف متباعدة عن كل صبغة سياسية، وسنعود لبحث الجمعية
فيما بعد.
ولنبدأ الآن بتشخيص داء الفتور المستولي على الأمة تشخيصًا سياسيًّا مدققًا
فأرجوكم أيها السادات أن يعمل كل منكم فكره الثاقب فيما هو سبب الفتور ليبين
رأيه وما يفتح الله به عليه في اجتماعاتنا التي نواليها كل يوم ما عدا يومي الثلاثاء
والجمعة من بعد طلوع الشمس بقراءة ضبط المذكرات التي جرت في الاجتماع
السابق ثم نشرع بالمفاوضات، وإني أختم اجتماعنا اليوم ببرنامج المسائل الأساسية
التي تدور عليها جمعيتنا وينبغي لكل منا أن يفتكر فيها ويدرسها وهي عشر مسائل:
(١) موضع الداء (٢) أعراض الداء (٣) جراثيم الداء (٤) ما هو
الداء (٥) ما هي وسائل استعمال الداء (٦) ما هي الإسلامية (٧) كيف يكون
التدين بالإسلامية (٨) ما هو الشرك الخفي (٩) كيف تقاوم البدع (١٠) تحرير
قانون لتأسيس جمعية تعليمية.
ولما انتهى خطاب الرئيس وانتهت الجلسة قال السيد الفراتي: أرى أن يقيد
كل منا هذه المسائل العشر في جانب من ورقة التراجم لأجل التذكرة ففعلوا. ثم
دعاهم إلى الطعام فأجابوا، وكان حديثهم على المائدة استقصاء أخبار المهتدين في
ليفربول من السعيد الإنكليزي. وبعد أن طعموا عرض عليهم الشاي والقهوة
والشراب المثلوج فاختار كلٌّ ما أَلِفَ وأحب، ثم انصرفوا أزواجًا وفُرادى مجيبين
دعوة خير الدعاة؛ إذ كان قد دنا وقت الصلاة.
((يتبع بمقال تالٍ))