للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخطبة الرئيسية في ندوة العلماء
بلكنهوء الهند
لصاحب المنار
(١)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. والصلاة والسلام على نبيه
ورسوله الذي أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. سيدنا محمد خاتم النبيين
وإمام المصلحين. وعلى آله وصحبه ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
ثم إنني بعد حمد الله وشكره عودًا على بدء، أشكر لهذه الجمعية المباركة -
جمعية ندوة العلماء - دعوتها إياي من مصر إلى الهند لحضور الاحتفال السنوي
العام الذي تقيمه في هذا العام. وأن جعلت دعوتها هذه مبنية على حسن ظنها بي
ورجائها الفائدة بحضوري ومشاركتي لأعضائها العلماء الأعلام.
أشكر هذه الجمعية بالقول كما شكرتها بالفعل بأن أجبت دعوتها ولبيت طلبها
في وقت أنا أشغل فيه ما كنت منذ وُجِدْت. فقد كنت مشتغلاً بتأسيس دار الدعوة
والإرشاد والنظر في كل ما يحتاج إليه التأسيس الحسي والمعنوي من حاجات البناء
والأثاث والماعون وأدوات التعليم والكتب واختيار المعلمين والمستخدمين وغير
ذلك.
جاءتني الدعوة وأنا على ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك، فوافقت ما كانت
تصبو إليه نفسي ويحن إليه قلبي من زيارة الديار الهندية واختبار حال التربية
والتعليم الإسلامي فيها. ولكن تعارض المانع والمقتضي بل كان هنالك موانع عديدة
كل واحد منها كان كافيًا للترجيح فكيف بها قد اجتمعت؟
مضت سنة الله في سجايا البشر وطباعهم في العمل الذي يندفعون إليه
بمقتضى فطرتهم أن يرجحوا المانع على المقتضي إذا كان كل منهما نظريًّا مناطه
الرأي والفكر، أو وجدانيًّا مناطه الشعور والهوى النفسي، وأما إذا كان أحدهما
وجدانيًّا أو يمده الوجدان والآخر ليس كذلك فإن الترجيح يكون في الغالب للوجداني
أو ما يمده ويؤيده الشعور الوجداني.
لهذا كانت تغالبني نفسي على إجابة الدعوة وترك إدارة مدرسة دار الدعوة
والإرشاد بعد فتحها وما عليّ من الدروس فيها، وترك إدارة المنار وأعماله واقتعاد
غارب الاغتراب، والنأي عن التلاميذ والمريدين والأصحاب، وإن لم أكن من
الذين يرضون لأنفسهم ترجيح مقتضى الشعور والميل على مقتضى المصلحة
والرأي، وإن كان من الشعور والهوى ما هو عين الحق والهدى بدليل حديث (لا
يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) فتحت مدرسة دار الدعوة والإرشاد
وهي منتهى رجائي في خدمة الإسلام، وغاية سعيي في إصلاح التربية والتعليم،
وأقر الله عيني برؤيتها والبدء بإلقاء الدروس فيها، ورأيتني مدعوًّا إلى مفارقتها في
أول العهد بوصالها والتمكن من التمتع بجمالها، فتجدد لي شعور ووجدان لم يكن
عندي في أيام السعي والنصب، وكنت كالعاشق الذي دعي إلى ترك معشوقه بعد
طول العناء في طلبه.
هكذا كانت تتنازعني الآراء المتعارضة وتتجاذبني أرواح الشعور المتناوحة.
حتى عرضت ذلك على إخواني أعضاء إدارة جماعة الدعوة والإرشاد، بعد أن
استشرت غيرهم من الأصدقاء ذوي الرشاد، فأجمعت كلمة الجماعة على أن أجيب
الدعوة، وأن أكون فيها سفيرًا عنهم ووافدًا من قِبَلهم، أحيِّي بلسانهم ندوة العلماء،
وجميع من ألقاه من مسلمي هذه الديار الفضلاء، وأعرض عليهم رأيي ورأي
الجماعة فيما ينبغي لنا وما يجب علينا من خدمة الإسلام وترقية شأن المسلمين، من
طريق التربية والتعليم.
فأنا أيها السادة الإخوان! - أخاطبكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جماعة
من إخوانكم المسلمين في مصر الذين يشاركونكم في مثل شعوركم الشريف،
وسعيكم الحميد. فكان إجماع الإخوان هو المرجح الأخير الذي عليه التعويل وها أنا
ذا بين أيديكم ألبيكم وأحييكم.
أيها الإخوة الكرام!
إذا كنت قد أضعت شيئًا من وقتكم بذكر كلمات من خبر رحلتي إليكم فإن لي
نية صالحة تتعلق بغرضين: أحدهما أن يكون شفيعًا لي بين يدي مذاكرتكم في أمر
التربية والتعليم بالإصغاء إلى ما أقول فإنه إذا لم يكن قول الخبير المدقق فهو قول
المحب المخلص. ومن كان هذا شأنه فهو جدير بأن يُتلقى ما يصيب فيه بالقبول
وما يخطئ فيه بالعفو والسماح، على أنني مشتغل بهذه المسألة منذ خمس عشرة
سنة بحثًا ومذاكرة ومناظرة وكتابة وخطابة وتعليمًا. وإن المقيم في مصر ليسهل
عليه أن يعرف من أحوال المسلمين في تربيتهم وتعليمهم وسائر شئونهم ما لا يسهل
على المقيم في قطر آخر، ولهذا قال بعض عقلاء الإفرنج: إن مصر هي الدماغ
المفكر للعالم الإسلامي.
والغرض الثاني من تلك الكلمات أن أبين لكم أنني لست أنا الذي أهتم وحدي
بزيارة بلادكم واختبار أحوالكم، بل يشاركني في ذلك جمهور المفكرين من إخواننا
المصريين وكذا غير المصريين من فضلاء المسلمين، وكل ما يحبه المرء ويهتم
به يدركه ويناله.
أيها الإخوة الكرام!
إن للإسلام عليكم وعلى سائر مسلمي بلادكم من حق إحياء علومه وآدابه
وأعماله مثلما له على مسلمي مصر من ذلك، فإنني علمت بالاختبار الطويل أنه لا
يوجد بلاد إسلامية فيها من حرية التربية والتعليم ويقظة الفكر وسعة الثروة مثل ما
في الهند ومصر، ويجب علينا شكر هذه النعمة باستعمالها والانتفاع بها.
إن إخواننا مسلمي التتار في روسية أيقاظ منتبهون وعندهم نهضة في التعليم
تذكر فتشكر، ولكن حكومتهم تضيق عليهم السبل، وتطارد الأساتذة المعلمين منهم،
وتعاقبهم على جريمة التعليم؟ ! بالنفي تارةً وبالسجن تارةً أخرى: كان الشيخ العالم
الجليل الصالح عالجان منذ ثلاث سنين عندنا في مصر منفيًّا من وطنه، مبعدًا عن
بلده؛ لأنه يعلم المسلمين وينبه أفكارهم في مدرسته الشهيرة في مدينة قزان، وقد
نفي أخوه ومساعده في التعليم معه أيضًا.
وإن الأخوين النجيبين عبد الله بوبي وعبيد الله بوبي قد أنشآ مدرسة في قرية
(بوبي) واجتهدا في أمرها ما استطاعا فألقت عليهما الحكومة الروسية القبض في
شتاء العام الماضي وألقتهما في غياهب السجن بقصد محاكمتهما في محكمة الجنايات
بقزان، وقد مضى العام بطوله ولم يُطلبا للمحاكمة ولكن رأينا في إحدى الجرائد
الإسلامية الروسية أنه ينتظر أن يحاكما في هذا الربيع والله أعلم، وقد نشرت
جريدة (نوفي فريميه) الروسية التي تصدر في بطرسبرج مقالات حثت فيها
الحكومة على منع التتار من السعي لتعليم مسلمي تركستان [*] ونبهتها إلى خطر
سياحتهم فيها لئلا ينبهوا الترك الغافلين [١] .
هذه إشارة إلى حال أقرب المسلمين الذين تحت سلطة دولة أوربية إليكم، وإن
حال مسلمي المغرب لشرٌّ من حالهم، فإن مسلمي التتار مجدُّون في أمر التربية
والتعليم، على مراقبة حكومتهم لهم وضغطها عليهم، وهم دائمًا يرسلون الوفود إلى
مصر وسورية والحجاز ليتعلموا ويتقنوا اللغة العربية ليكونوا معلمين إذا رجعوا
إلى بلادهم، ومنهم من يذهبون إلى الأستانة؛ لأجل تعلم الفنون العصرية،
والمراقبة على هؤلاء شديدة. أما مسلمو تونس والجزائر فلا يستطيعون أن يعملوا
مثل عملهم، فإن مراقبة فرنسة لهم أشد، وإحاطتها بهم أقوى وأعم، وقد اعترف
بعض المنصفين من الفرنسيين بهذا الضغط، وصرح بعضهم بأنهم يعتقدون أنهم
سينسخون الإسلام واللغة العربية من الغرب، ولكن أناسًا آخرين يرون أن حسن
معاملة المسلمين أنفع لهم ويسعون في إقناع حكومتهم بذلك ولما ينجحوا في سعيهم ,
ولا أحب أن أزيدكم مما أعلم في ذلك.
وأما مسلمو جاوه والملايو فحالهم أسوأ من جميع أحوال المسلمين , وقد
أحاطتهم هولندة بسور من الجهل لا يتسلقه أحد. وإن شئتم أن تعرفوا شيئًا مفصلاً
عنهم فإنني آتيكم برسالة مطبوعة باللغة الإنكليزية في ذلك فانقلوها إلى لغتكم
وانشروها في جرائدكم واعتبروا بها واشكروا نعمة الله عليكم وجدوا واجتهدوا في
تعميم التربية والتعليم بينكم أيها الإخوة الكرام!
إن الحكومة الإنكليزية أوسع الحكومات الاستعمارية حرية ويمكن لمن يكونون
في ظل حكمها أن يرقوا أنفسهم إذا سلكوا في ذلك طريق العقل والحكمة ولا يمكن
ذلك لكل من كان في ظل غيرها من الحكومات الاستعمارية، ورب ظل ذي ثلاث
شُعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، ومن العقل والحكمة أن يبتعد المشتغلون
بالإصلاح العلمي والتهذيبي عن السياسة سرًّا وجهرًا، فإن السياسة ما دخلت في
عمل إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام.
لو كان الذين تضطهدهم بعض الدول وتعاقبهم على التعليم يمزجون عملهم
بالسياسة لكنت أول من يعذرها. فإنا علمنا من قواعد علم الاجتماع المستنبطة من
التاريخ أن الدول لا تغفر أن تعارض أو تنازع في ملكها وسلطانها وقد تغفر ما دون
ذلك من الذنوب إذا وقع ممن يخلصون لسلطانها أو تأمنهم عليه فذلك في دين
السياسة كالشرك في الإسلام قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) .
قد عهد من بعض الدول المرتقية العدل والرحمة في القضاء والإدارة ولا توجد
دولة في الأرض تعتصم بالرحمة أو العدل في السياسة. وأعني من السياسة حفظ
الملك والسيادة، وما يتعلق بالتعدي على السلطة، ولكن الدولة العاقلة تزن الشدة في
ذلك والقسوة بميزان العقل والحكمة، والسياسة قد يكون لها عقل ولكن لا يكون لها
قلب.
كانت دول الإسلام في العصر الأول أعدل وأرحم ما عرف التاريخ من الدول
حتى في أثناء الفتوحات والحكومة العسكرية التي كانت ولا تزال تظهر القسوة
الشديدة وقد اعترف بذلك المنصفون من مؤرخي الإفرنج وعلماء التاريخ فيهم، قال
غوستاف لوبون الفيلسوف المؤرخ الفرنسي: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا
أرحم من العرب) فإذا كانت حكومة الخلفاء الراشدين لا يقاس عليها؛ لأنها خلافة
نبوة فهاتان الدولتان الأموية والعباسية كانتا أعدل دول الأرض في القديم والحديث
في القضاء وأوسعهن رحمة وجودًا وفضلاً على الرعية في الجملة ولكنهما استعملتا
الشدة والقسوة في التنكيل بمن نازعهما السلطة حتى إنهم كانوا يذبحون آل الرسول
عليه الصلاة والسلام ويقتلونهم أينما ثقفوا - من ظنوا أو توهموا أنه يسعى منهم إلى
الملك أو يُسعى له فيه، بل شهد التاريخ وروى لنا أن الأب كان يقتل ابنه والابن
يقتل أباه لأجل الملك.
أيها الإخوة الفضلاء!
إذا كانت حكومتكم تسمح لكم أن تربوا أولادكم على عقائد دينكم وآدابه
وفضائله وعباداته وأن تعلموهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم كما تشاءون لا تشترط
على جمعياتكم العلمية والدينية ولا على نظام مدارسكم إلا احترام سلطتها، وعدم
معارضتها في سيادتها، فقد أعذرت إليكم، وإذا قصرتم ولم تبذلوا كل طاقتكم في
تعميم التربية والتعليم فإنما إثمكم على أنفسكم، ولا لوم لكم إلا عليها، فكيف إذا
كانت حكومتكم هي التي تحثكم حتى على التعليم الأهلي، وتنشطكم حتى على
التعليم الديني، وقد فاجأني العجب وأخذ من نفسي كل ما أخذ عندما علمت أن
الحكومة الإنكليزية ترغِّب مسلمي الهند في تعلم اللغة العربية وتساعدهم على تعلمها،
وأنها خصصت مبالغ من المال لأجل تعليمها في بعض مدارسها، ومبالغ لإعانة
المدارس الأهلية على تعليمها، كمدرسة العلوم الإسلامية في عليكره وغيرها، كما
أعطت المسلمين أراضي غالية الأثمان في عدة مدن لبناء مدارسهم الأهلية فيها وهذه
ندوة العلماء جمعية دينية محضة ومن مقاصدها نشر الإسلام، وقد أعطتها الحكومة
أرضًا غالية الثمن لبناء مدرستها فيها وخصصت لها مبلغ ستة آلاف روبية إعانة
سنوية.
لا أطيل في تفصيل ما سمعته منكم أي من أهل بلادكم من أخبار هذه
المساعدات فإنكم أعرف بها مني وإنما أشير إليه لأذكركم بأن الحجة عليكم تكون
أنهض إذا أنتم قصرتم في التعليم، وإن الحكومات لا تنهض بالأمم إذا لم تنهض
الأمم بأنفسها، فعليكم أن تعتمدوا بعد الاستعانة بحول الله وقوته على جدكم
واجتهادكم وسعيكم {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) وقد أعجبني
جواب قاله لورد كرومر لبعض وجهاء المصريين إذ قال له ذلك الوجيه: إنك أيها
اللورد قد أصلحت المالية المصرية وجعلت خدمتك في مصر خالصة للحكومة ولم
تعمل للمسلمين شيئًا يرقيهم، فقال له اللورد: (إن الذي لا يرقي نفسه لا يرقيه
غيره، فيجب أن تعملوا لأنفسكم وإذا عملتم وطلبتم مني المساعدة فإنني أساعدكم) .
***
حاجتنا إلى إصلاح التربية والتعليم
إن حاجتنا معشر المسلمين إلى إصلاح التربية والتعليم قد صار من البديهيات
التي لا يماري فيها إلا الراسخون في الغباوة أو المسرفون في المكابرة، وقد اعترف
به كبار علماء الأزهر وهم أشهر علماء الإسلام وعلماء الآستانة ونفوذهم في المملكة
العثمانية لا يعلوه نفوذ، وقد عقدت في هذين السنتين لجان من الفريقين ومن رجال
الحكومة للنظر في ذلك ووضعوا للإصلاح قوانين وبرامج جديدة، واختاروا له كتبًا
لم تكن تقرأ فقرروها ورغبوا عن كتب كانت تقرأ فتركوها، ورأوا الحاجة شديدة
إلى علوم وفنون جديدة فزادوها وكذلك فعلتم أنتم أيضًا في ندوة العلماء ومكانكم من
علماء المسلمين مكانكم، وفضلكم فيه فضلكم، وكذلك علماء تونس قد بحثوا في هذا
الأمر منذ سنتين وأحدثوا عدة تغيرات في نظام التعليم، وبقي هنا وهنالك في كل
مكان من يرون أن ما جروا عليه واعتادوه هو غاية الكمال، التي لا تقبل الزيادة
بحال من الأحوال، ولكن أرقى الباحثين والمصلحين للنظام الماضي في تلك
الأقطار يرون أن ما وضع لإصلاح التعليم في الأزهر والأستانة ليس هو غاية
الكمال المطلوب، وإنما هو ضرب من التدريج في الإصلاح.
ليس هذا ببدع في أحوال البشر فقد عرف من سنة الله تعالى فيهم أنهم لا
يكادون يتفقون على شيء وأن الجمهور الأعظم منهم لا يتفقون على تغيير ما في
أحوالهم الاجتماعية إلا في الزمن الطويل، وأن التغيير الفجائي السريع لا يخلو من
خطر أو ضرر، فليتمسك من شاء بالنظام المألوف فلا يضر طلاب الإصلاح شيئًا
إذا كانوا يأخذونه بقوة، ويدعون إليه على بصيرة، وكان ذلك ناشئًا عن حياة جديدة
نفخ روحها في الأمة، فإن العاقبة لهم {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: ١٧) .
ليس موقفنا هذا موقف مناظرة، ولا مقامنا مقام الإدلاء بالحجة، وإنما هو
موقف تذكير للناسي، وحفز لهمة الآسي، وحسبنا من الذكرى فيه قول الله عز
وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وإننا
نحن المسلمين نعرف من تاريخنا ومن آثار سلفنا أننا كنا نحن الأئمة الوارثين،
والسادة المتبوعين، والحكام العادلين، والعلماء العاملين، والصلحاء المخلصين،
والأغنياء المنفقين، والصناع الماهرين، والزراع المعمرين، والتجار البارعين،
بل كنا فوق جميع الأمم في كل علم وعمل، حتى كاد العدد القليل منا لا يطئون
أرض قوم إلا ويجذبونهم بأزمة قلوبهم وعقولهم إلى اتباعهم في دينهم ولغتهم وآدابهم،
فهل نحن اليوم كذلك؟ ألسنا قد تدلينا بل هبطنا من سماء تلك العزة والرفعة
والسلطة وصرنا وراء الأمم، بعد أن كنا أئمة جميع الأمم؟ ألا نتفكر في ماضينا
وحاضرنا، ونعتبر بسبق كل أحد حتى الوثنيين لنا؟ أولئك الذين كانوا قبل إشراق
نور الإسلام على هذه الديار شرًّا مما ترون عليه عامتهم حتى الآن - عراة الأبدان،
يعبدون الجماد والحيوان، والأنهار والنيران، ويأكلون على ورق الأشجار، فهل
غيّر الله ما بنا إلا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا؟ كلا إنها سنته في خلقه: {وَلَن تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) .
نعم إن الله لم يغير ما بنا من نعمة ورفاهة وعزة وسيادة إلا بعد أن غيرنا ما
بأنفسنا من استقلال الرأي، وصحة الحكم، وحقائق العلم، ومكارم الأخلاق،
وعقائل الصفات، والاعتصام بحبل الله، والتآخي في الإيمان، وعمل الصالحات،
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وترجيح المصالح العامة على الأهواء الخاصة، وغير ذلك مما عده القرآن المجيد
من صفات المؤمنين، وقال فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: ١١٠) كذلك لا
يغير ما بنا الآن من الضعف والفقر، وسوء الحال والهوان على الناس، والتحاسد
والتباغض، والتعادي والتفرق، وغير ذلك مما نشكو منه، ولا نقلع عن أسبابه،
حتى نغير ما بأنفسنا، ونعود إلى الهداية التي كان عليها سلفنا ورحم الله الإمام مالكًا
حيث قال: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) وإنما يكون تغيير ما
بالأنفس بالتربية والتعليم.
فإن المراد من التغيير ما يترتب عليه تغيير العمل , وإنما الأعمال آثار
العلوم والأخلاق فمتى كان العلم بالحق والباطل وبالمصالح والمفاسد والمنافع
والمضار صحيحًا، والأخلاق فاضلة - كانت الأعمال كلها صالحة مؤدية إلى
رفعة الأفراد وكمالهم الديني والمدني، فلا بد لنا من إصلاح طريقة التربية والتهذيب،
وإصلاح طريقة التعليم معًا، ولو كان التعليم الذي جرينا عليه من عدة قرون يخرج
لنا رجالاً ينهضون بالأمة الإسلامية ويخرجونها من جُحْر الضبّ الذي نحن فيه
لظهرت آثارهم ولما بقينا في هذه المهانة بضع قرون وكأننا مصابون بالفالج أو داء
السكتة، ولكن ما هي التربية التي نرجو بها صلاح أخلاقنا وارتفاع
هممنا، والتعليم الذي ترتقي به عقولنا ونعرف به ما ينبغي لنا؟
أما تربية الصغار التي عليها المدار، فهي ليست عندنا في محل البحث
والتبيين، ولا في حيز العمل والتنفيذ، فأكثر المسلمين يتركون أولادهم سُدى يجري
كل منهم على ما عليه عشيرته وعشراؤه من هوى أو هدى، إلا أن بعض
المتفرنجين في بعض الأمصار الكبيرة منا قد فتنوا بالمربيات الإفرنجيات يلقون
إليهن بأفلاذ أكبادهم فيعلمن الذكور والإناث منهم لغاتهن، وينشِّئنَهم على عادات
أقوامهن. وأما تربية الكبار بالوعظ والإرشاد فقد وكل عند عامتنا إلى مشايخ الطرق
وأكثرهم من الدجالين الجاهلين يزيدونهم بدعًا وفسادًا وغرورًا وضلالاً.
وأما التعليم الديني فقد أشرنا إلى عقمه وسوء أساليبه والاختلاف في الحاجة
إلى إصلاحه والاشتغال بوضع القوانين والأنظمة والبرامج له، فهل هذا هو
الإصلاح المطلوب؟
التعليم صناعة من الصناعات ترتقي بارتقاء العمران كما يقول حكيمنا
الاجتماعي ابن خلدون، وقد جرى أوائلنا فيه على مقتضى العقل والاختبار بحسب
الحاجة التي كانت تظهر لهم وتليق بحالهم، فكان أول ما جروا عليه طريق الرواية
والتحديث والإملاء، كان أحدهم يحفظ ما يتلقاه أو يكتبه أو يجمع بين الحفظ
والكتابة، ثم جروا على طريق آخر من وجه آخر وهو طريق الاستنباط من
المحفوظ والمكتوب وبسط الدلائل والمقارنة والترجيح بينها، باستقلال الفكر،
واتباع ما يظهر أنه الراجح، ثم وضعت المصنفات في العلوم والفنون المختلفة فكان
ما كتبه الأولون مبسوطًا سهل العبارة كثير الشواهد والبينات.
ثم صار الناس يدرسون مصنفات من قبلهم فيشرحون ما غمض منها
ويستدركون على المصنف فيما قصر فيه، ويبينون غلطه فيما غلط فيه مؤيِّدين
أقوالهم بالدلائل والشواهد، ثم ضعفت الهمم وونت العزائم فصار الناس
يختصرون المصنفات فيذكرون أهم قواعدها ومسائلها بعبارة مختصرة خالية من
الدلائل والشواهد والأمثلة - إلا قليلاً - وتباروا في الاختصار والإيجاز فيه حتى
نقل عن بعضهم أنه كان يقرأ الشيء الذي كتبه بعد عهد بعيد أو قريب فلا يفهمه، ثم
حدثت عندهم طريقة شرح المختصرات ثم شرح الشرح ووضع الحواشي
والتقارير عليها، وجعل هذه الكتب كلها كتب تدريس تقرأ للطلاب يبدأ الأستاذ منها
بقراءة المتن فالشرح فالحاشية فالتقرير فيكون جل شغله في إشغالهم في عبارات
أولئك الكاتبين؛ لأجل حل رموز ذلك المتن المختصر وبيان المراد منه وما يرد
عليه وعلى تلك العبارات وما يجيب به عنها ولو بالتمحل وتحميل الألفاظ ما لا
تحمل.
هذه إشارة وجيزة إلى كيفيات إفادة العلم في الزمن الماضي بالتدريس
والتصنيف ومنه يعلم أنها كانت أطوارًا مختلفة أقربها إلى الصواب أقدمها، ولم
ينتقل المسلمون من طور منها إلى طور دفعة واحدة؛ لأنها لم تكن تحصل من قبل
إدارة عامة تضع لها القوانين والأنظمة والبرامج والجداول وتوزعها على جميع
المعلمين كما تفعل وزارات العلوم والمعارف في الدول المرتقبة في هذا العصر،
وإنما كان الانتقال من طور إلى طور يحصل بالتدريج. وقد كان في زمن العباسيين
شيء من النظام المعروف المتبع في المدارس الكبرى ولاسيما المدرسة النظامية
ببغداد وما كان على طرازها فيها وفي غيرها، ولم يرتق ذلك النظام ويدون ويعم؛
لأنه لما وجد كانت جراثيم الضعف والمرض الاجتماعي قد بدأ يظهر تأثيرها في
جسم الأمة؛ ولذلك قام بعض العلماء الأعلام يبحثون في طريقة التعليم وأساليبه
ويضعون القواعد له كما فعل أبو حامد الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين
وتلميذه أبو بكر العربي المغربي، ثم ابن خلدون، ثم الشيخ زكريا الأنصاري،
وكان ينبغي أن يقرأ فن التعليم بالتصنيف وتحقق مسائله وتحمل معاهد العلم الكبرى
على العمل حتى بما يظهر أنه الصواب، ولو بأمر الحكومة، إلى أن يظهر للعلماء
شيء من الخطأ فيه فيرجع عنه كما تنسخ نظارات المعارف في دول الحضارة الآن
كثيرًا من مواد قوانين التعليم ونظام المدارس إذا ظهر لها أنه ضار وأن غيره أنفع
منه وإنما لم يفعلوا؛ لأن الأمة كانت في طور التدلي والانحطاط، فكيف تهتدي إلى
أوثق أسباب النهوض والارتقاء؟ !
وقد بينت هذه المسألة في المقدمة التي وضعتها لكتاب أسرار البلاغة تصنيف
إمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجرجاني عند طبعه، وهذا الكتاب في البيان
وصِنْوه كتاب دلائل الإعجاز في المعاني هما خير مثل لما أشرنا إليه من تدلي
التصنيف والتعليم فإنهما على كونهما أول الكتب التي صارت بها البلاغة فنًّا مدونًا
ذا قواعد وقوانين كلية مقسمة إلى أبواب وفصول لا يزالان أفضل وأنفع مما صنف
بعدهما واستمد منهما ولا سيما الكتب المشهورة المتقنة الصنعة كالمفتاح للسكاكي
والمطول والمختصر للتفتازاني - اللذين فتن بدقة صنعتهما جميع علماء المسلمين
في بلاد العرب والعجم فجعلوهما من كتب التدريس فكان ذلك سبب موت البلاغة
العربية في جميع المدارس الإسلامية؛ ولذلك اجتهدنا مع شيخنا الأستاذ الإمام في
البحث عن نسخ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز في الحجاز والعراق والأستانة
وتصحيح ما ظفرنا به وطبعه، وقد قرأهما الأستاذ الإمام في الجامع الأزهر فاستفاد
منهما كثير من الطلاب وانتعشت البلاغة العربية العملية في الأزهر بل انبثت فيها
نسمة الحياة بعد أن طال عليها زمن الموت وقررتهما نظارة المعارف المصرية في
مدرسة دار العلوم وهي المدرسة التي يتخرج فيها مدرسو اللغة العربية، وقررتهما
إدارة معارف السودان أيضًا في مدرسة غوردون الكلية، ولو شئت أن أذكر الأمثلة
على تدلينا في التدريس والتصنيف في كل علم من العلوم الإسلامية لضاق وقت هذا
الاجتماع عنه وفاتكم ما تنتظرون سماعه من كثير من العلماء الأعلام.
إن ما أشرت إليه من التدلي في التصنيف والتعليم كان عامًّا شاملاً لجميع
البلاد الإسلامية ولا غَرْو فالمسلمون أمة واحدة وقد كان ارتقاؤها في العلوم
والأعمال من آثار هداية دينها , وتدليها فيهما من الانحراف عن صراط دينها ولكن
البلاد الأعجمية أصيبت بمرض آخر في تعليم الدين ووسائله وهو أن علماءها
صاروا يدرسون تلك العربية التي لا تصلح لتعليم العرب أنفسهم على الوجه المؤدي
إلى الغاية من اللغة والدين بالترجمة للطلاب فكان هذا مصابًا على مصاب. إذ
صار طالب العلم يشتري بالعشرات من سني عمره قواعد للغة لا يعرفها كما تعرف
اللغات فيعسر عليه أن يطبقها على جزئياتها وأن يصل بها إلى الغاية المقصودة من
اللغة وهي أن تكون ملكة له يقدر على التكلم والكتابة بها بغير تكلف ويفهم الكلام
البليغ منها بغير تردد ويتأثر به من غير تصنع فإن كان مقنعًا اقتنع وإن كان وعظًا
اتعظ وإن كان سارًّا سر وإن كان محزنًا حزن.
كان علماء العجم في القرون الإسلامية الأولى يشاركون إخوانهم المقيمين في
بلادهم كالشام ومصر وإفريقية والأندلس في التأليف والتصنيف والإنشاء والشعر
ويضربون معهم بكل سهم فكانوا أحسن مظهر لوحدة الإسلام وإنما كان ذلك لأنهم
كانوا يحذقون اللغة العربية بالعمل حتى تصير ملكة راسخة فيهم كرسوخها في
أبنائها ولما تضاءلت الهمم وضعفت العزائم وفشت بدعة تعليم العربية والدين ذهبت
تلك المزية وضعفت العلوم الدينية واللغوية وتراخت رابطة الوحدة الإسلامية وما
عاد ينبغ في بلاد الأعاجم في تحصيل تلك الكتب التي أشرنا إليها على قلة الغناء
فيها إلا أفراد يعدون على الأنامل، بل يمكنني أن أقول: إنهم من القلة بحيث لم
يصل إلينا من نثرهم ونظمهم شيء خال من لوثة العجمة، وقد كان السيد جمال
الدين الأفغاني الحكيم الكبير والمصلح العظيم هو الذي نفخ روح الإصلاح اللغوي
والعلمي في مصر وحمل تلاميذه من طلاب الأزهر على الكتابة والخطابة وأرشدهم
إلى طرقهما. وكان هو كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوَّهًا، حتى كان يخطب بالعربية عدة
ساعات بلا تلعثم ولكنه مع هذا كله ظل إلى آخر عمره يعرف الأعلام التي لا يجوز
تعريفها وتظهر العجمة في لهجته وبعض ألفاظه فلم يصقل لسانه بفصاحتهما كما
كان الزمخشري وأمثاله ممن قال فيهم ابن خلدون: إنهم ليسوا أعاجم إلا في النسب ,
وسبب ذلك أنه تعلم العربية تعلمًا فنيًّا في الكتب ثم اهتدى في الكبر بثاقب عقله
ونور بصيرته إلى الطريقة التي بها تطبع ملكة اللغة في النفس واللسان فهدى
تلاميذه من العرب بمصر إليها فكانوا أسلس منه عبارة وأنصع ديباجة وأسلم من
تكلف الصنعة.
(للخطبة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))