اقتسمت فرنسة مع أسبانية مملكة المغرب الأقصى كما اقتسمت مع إنكلترة سورية والعراق. وقد قيَّض الله تعالى لأهل الريف الذي جُعِلَ حصة لأسبانية زعيمًا عظيمًا نظَّم لهم جيشًا من أنفسهم يقاتل به الأسبانيين؛ لإخراجهم من بلادهم فأتى في قتاله لهذه الدولة بما يكاد يكون من خوارق العادات التي أيَّد الله بها سلف هذه الأمة في صدر الإسلام، وما زلنا نمني النفس بالتنويه بجهاده منذ بطش البطشة الكبرى قبل ثلاث سنين حتى رأينا في هذه الأيام ما كفانا المؤنة من المقال الآتي (لسعادة الكاتب السياسي الكبير) الذي يغني وصفه عن تعيين شخصه، وحرف الإمضاء عن التصريح باسمه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المنار
من عادة الجرائد أن تكثر من لفظ (البطولة) تعرب بها كلمة Heroisme التي تدور كثيرًا في الكتابات الأوروبية، والناس مضطرة اليوم إلى تعريب كلماتهم وتقليد مناحيهم. أما أنا فكنت غير راغب في هذا الاستعمال؛ لأنني لا أكتفي من اللفظة بأن تأتي في معاجم اللغة، وأن لا تعد غلطًا، بل أحب أن أجدها في كلام العرب الأولين أو المخضرمين أو المولدين على الأقل، ولا أتذكر أنني عثرت بالبطولة - أي حالة من كان بطلاً - في غير متون اللغة. أما الآن فأريد أن أستعملها لهذا الأسد الزائر، والفحل الصائل، المسمى بمحمد بن عبد الكريم، المتولي كِبرَ تحرير قومه في شمالي مراكش، فأقول: بطل محمد بن عبد الكريم بطولة وبطالة فهو بطل، لا بل هو بطل الأبطال، وفذ الأفذاذ وعلم الأعلام، بل هو عندي أعظم مزية من مصطفى كمال، ومن جميع أبطال العصر الحاضر، البادي منهم والحاضر. وكل من ينظر في قضية الأمير محمد بن عبد الكريم ويتأمل فيها ويرى موقفه المدهش المحير للعقول في وجه إسبانية مع الفرق الشاسع والشقة الهائلة بين درجتي كل من إسبانية والمنطقة التي تقاتلها من شمالي المغرب - يحكم بأنه لو كان في الدنيا إنصاف لما كان أحد اليوم أولى من محمد بن عبد الكريم بأن يوضع في مقدمة أبطال العصر، ويكتب تاريخه، وتُدَوَّنُ سيرته، وتعرض صورته، ويرجح على فوش وهندنبرغ ومصطفى كمال ودانو نسيو ولنين ومسوليني وطبقتهم التي اختلط ذكرها بالتاريخ العام. إن فوش عندما أحرز النصر كان رأسًا على ١٥ مليون جندي من عساكر الحلفاء عدا جنود أميركا التي كان وصل منها إلى فرنسا مليونان ونصف مليون وبقي منها مثل هذا العدد في أميركا، وإن هندنبورغ كان قائدًا لستة ملايين ألماني هم أحسن جنود العالم بدون نزاع، وإن مصطفى كمال وإن صح أن يقال: إنه بعث تركية من قبرها، فإنه كان في تركية عساكر منظمة، وجنود مدربة، وضباط أركان حرب معدودين من الطبقة الأولى، وبقايا أسلحة، وآثار دولة مبنية من أصلها على الأسل، وجاءها لويد جورج بمعاهدة سيفر التي تجعل تركية أثرًا بعد عين، وزحف إليها اليونانيون يذبحون الرجال، ويهتكون الأعراض، فأتيحت لهمة مصطفى كمال أسباب عديدة تجمع حوله أمه باسلة مستبسلة كالأمة التركية. وإن سائر من ذكرنا من الرجال المعدودين في هذا العصر كانوا في حركاتهم متوكئين على أمم عظام، وأعداد لا تُحْصَى، وتشكيلات إدارية تامة، فاستوسق لهم من الأمور ما استوسق، وظهر من شأنهم ما ظهر. وأما محمد بن عبد الكريم فإن جئنا إلى عد أنصاره فإن الريف كله يبلغ جزءًا من سبعة من سلطنة المغرب، فإن كانت هذه السلطنة ثمانية ملايين فيكون الريف زائدًا قليلا على المليون، وإن كانت هذه السلطنة لا تنوف على أربعة ملايين أو خمسة كما جاء في بعض مؤلفات الفرنسيس الأخيرة؛ فيكون الريف نحو ثلثي المليون أي أكثر قليلاً من جبل لبنان وأقل شيئًا من فلسطين، ومع هذا فإن هذين الثلثين من المليون، أو فلنقل هذا المليون واقف في وجه دولة إسبانية التي عدة أهلها عشرون مليونًا بخلاف تركية مع اليونان؛ إذ تركية مع كل ما اقتطع منها بقيت ١٢ مليونًا، واليونان مع كل ما أضيف إليها لا تزيد على ٦ ملايين. فأنت ترى ما هنالك من الفرق، وزد عليه أنه لم يجتمع من جنود اليونان في وجه مصطفى كمال ما اجتمع من جنود الإسبانيول في وجه محمد عبد الكريم، فقد كان جيش اليونان المحارب لجيش أنقرة من ١٥٠ إلى ١٧٠ ألفًا حال كون الجيش الإسبانيولي الذي غزا الريف سنة ١٩٢١ بلغ عدده ٢٥٠ ألف مقاتل وباء بالخذلان كما هو معروف. والجيش الإسبانيولي الزاحف اليوم إلى الريف هو بحسب قول الجرائد الأوروبية مائة وستون ألف مقاتل. وإنه في كلتا المرتين تطوع في الجيش الإسبانيولي ألوف مؤلفة من أصناف الإفرنجة لا سيما من الإنكليز الذين لا يتركون فرصة يُظهرون فيها فرط محبتهم للإسلام إلا وَلَجُوهَا، وهذه المرة يقال: إن أكثر الإلحاح على الدولة الإسبانية في استئصال شأفة المقاومة من الريف واقع من دولة بريطانيا العظمى. ثم لا يخفى ما يوجد من الفرق بين زحف اليونان من بلادهم راكبين أثباج البحر الواسع وإيغالهم في بلاد الأناضول الطويلة العريضة التي تأكل الجيوش بمساوفهم وبين ركوب الإسبانيول بحرًا اسمه بحر الزقاق أو بوغاز جبل طارق عرضه ساعات قلائل، وكون الريف كله لا يساوي في الرقعة ولاية من ولايات الأناضول. لا نريد في هذه المقابلات والمقارنات تصغير شيء من مجادة العمل الذي قام به إخواننا الترك وأدهش الربع العامر بأسره، وترنحت له أعطاف الشرقيين عند من يقول بجامعة شرقية، وقرَّت به عيون المسلمين عند مَن يأخذ بجامعة إسلامية. إن الأتراك أشهر في الحروب من أن ينوه فيها الإنسان بقدرهم، وإن انتصارهم الأخير بعد أن نهكت قواهم الحروب المتتابعة بدون انقطاع ولا فتور منذ بضع عشرة سنة - أضاف صفحة جديدة على تاريخ مجدهم، وخلد مصطفى كمال ذكرًا لا تمحوه الأعصر بأنه هو المؤسس الأخير للدولة التركية. ولكننا نريد أن نثبت بهذه المقارنات أنه بالنسبة إلى قلة الوسائل وضيق الرقعة وفقد التشكيلات، ونزارة الأسلحة، وندورة الضباط، وانحصار الريف بين البحر من جهة والمنطقة الفرنسوية من أخرى، وصغر الريف من أصله، فإن فضل محمد بن عبد الكريم هو أعظم من فضل مصطفى كمال ومن فضل أعاظم قواد أوروبا؛ لأنه لو قام أي واحد من أولئك العظام مقام ابن عبد الكريم لعجز أن يأتي بشي مما أتاه. في تموز سنة ١٩٢١ استأصل الريفيون بقيادة هذا البطل الغشمشم ٢٥ ألف مقاتل إسبانيولي وأسروا ألوفًا وغنموا ١٧٠ مدفعًا وقيل ٣٠٠ مدفع و ٧٠ ألف بندقية وأعتادًا حربية لا تحصى وعددًا من الطيارات، وسبق لهذا العاجز - المعجب بمحمد بن عبد الكريم المتحسر على أن ليس في سورية مثله - مقالات متعددة عن تلك الطوائل التي طال بها والوقائع التي انتصر فيها، منها ما نشرناه (بالبيان) ومنها في (الصباح) الذي كان يطلع بفلسطين؛ لأن حرية المطبوعات ... في سورية لعهد محرري الأمم ... لم تكن تسمح بنشر شيء عن قوم يدافعون عن استقلالهم، ولو كانوا من أقصى البلاد عن سورية. وبعد هاتيك الهزيمة عوَّل الإسبانيول على سياسة التفريق والشقاق بين الريفيين، تلك السياسة التي طالما نجحت بها الدول المستعمرة، ونالت مآربها من الشرق من ثنايا منافسات الشرقيين بعضهم مع بعض، فعقد الإسبانيول الصلح مع الرسولي، وأعملوا الهمة في التضريب بين القبائل الريفية، وخدَّروا أعصاب كثيرين منها، وبذلوا المواعيد ومنوا الأماني، حتى خُيِّلَ لهم أن الحركة قد همدت، وأن حزب ابن عبد الكريم قد ضعف جدًّا عن ذي قبل، وأنهم إن صمدوا إليه وجدوه هذه المرة في قلة من قومه وقضوا منه وطرهم، فكان الأمر بعكس ما خالوا، وهو أنهم لما آنسوا منه رقة الجانب وطمعوا في أخذه بالقوة عاد هذا الأمير فاستفز قبائل الريف، وأوضح لهم الخطر فارتفعت الواعية، وامتدت الصارخة، واعصوصبت القبائل حول قائدها، وتأهبت للنضح عن ذمارها، وعاد الأمر كما بدأ، لا بل رأى محمد بن عبد الكريم أن يجعل الإسبانيول غداءه قبل أن يجعلوه عشاءهم، فجمر [١] للزحف على مواقعهم الأمامية بقرب مليلا، وناوشهم القتال منذ أوائل هذا الصيف، فدارت رحى الهيجاء، وحمي الوطيس وتباعث العرب والبربر على الموت في سبيل دينهم ووطنهم، فجفلوا الإسبانيول عن مراكزهم، وأفحشوا النكاية فيهم، ورأت إسبانية أن ابن عبد الكريم لا يزال ابن عبد الكريم من المَنََعَة في قومه، والحيطة من وراء أمره، والحمية على وطنه، والحفيظة لحقه، وأن الريفيين لم يبرحوا على عهدهم بالشهامة وإباء الضيم، والبصائر بالحرب، والغرام بالطعن والضرب، فسقط في يدها، وخابت آمالها، وجردت إلى الريف زحوفها، حتى بلغ عدد الفيلق [٢] الإسبانيولي المرابط الآن بالريف ١٦٠ ألفًا، وهي لم تنل وطرًا، ولا قضت حاجة، فثارت الخواطر في مادريد واضطربت الحكومة وادْلَهمَّ الخطبُ، وأبى الحزب العسكري إلا أن يتابع إرسال الإمداد إلى أن تستقيم عصاة الريف أو تنكسر، وذهب آخرون إلى أنه لا فائدة من غزو الريف إلا تراكم الخسائر في المال والرجال، وقدم اثنان من النظار استعفاءهما: أحدهما ناظر المالية الذي شكا من كون عجز الموازنة المالية هذه السنة بلغ ٩٠٠ مليون، فماذا يكون إن أصرت الحكومة على متابعة حرب الريف؟ هذه حالة إسبانية اليوم، وهذا هو الفري الذي فراه محمد بن عبد الكريم عوْدًا على بَدْءٍ، فأثبت أنه بطلها اليوم كما كان بطلها بالأمس، وسنرى أنه بطل السلم كما هو بطل الحرب، وأنه أصدر أوامر بالاتفاق مع أعضاء الحكومة الريفية التي هو رأسها بإنزال أشد العقاب إلى حد القتل بمن يعتدي على إسبانيولي أو أي أوروبي أو يخالف القوانين الحربية المرعية بين الدول المتمدينة. وقد نشر رجل سويسري من زوريخ منذ أيام رسالة تناقلتها كثير جرائد سويسرة كنا نود تعريبها ونشرها كلها نقلاً عن جريدة (فوي دافي) الصادرة بلوزان لكن طولها حال دون تعريبها برمتها، ومآلها: أن بعض الشبان من سويسرة قصدوا إسبانية للعمل وبينما هم يعملون ببرسلونة [٣] إذ أخذتهم حكومة إسبانية إلى الريف بحجة أنها تريد أن تستخدمهم في النقليات. وأن هنا عملاً بأجرة وهناك عملاً بأجرة فذهبوا مسيرين غير مخيرين، ولما صاروا إلى مليلا نظموهم في التابور وأرسلوهم إلى ميدان الحرب؛ خلافًا لما كانوا وعدوهم به، ولما كانوا من رعية سويسرة لا شأن لهم في حرب واقعة مع إسبانية فر منهم بضعة نفر فأدركهم الإسبانيول وحاكموهم محاكمة البلط (الفارين من العسكر) وحكموا عليهم بالقتل ونفذ فيهم الحكم رميًا بالرصاص مع أنهم لم يكونوا متطوعين في جند إسبانية وإنما سيقوا إلى الحرب جبرًا وقهرًا بعد أن خدعوا بقول الحكومة الإسبانية لهم أنهم يكونون في مليلا عَمَلَةً كما كانوا في برسلونة. قال هذا الرجل السويسري الزوريخي: فالتزمنا أن نشهد وقائع من أشد وأهول ما يتصور العقل كانت غالبًا خسائر الإسبانيول فيها أفدح من خسائر المغاربة، وذكر واقعة قال: إن الإسبانيول خسروا فيها وحدها أربعة آلاف مقاتل. وهو يحزر مجموع خسائر الإسبانيول بستين ألف مقاتل. ثم قال: إننا مللنا القتال ونحن لا ناقة لنا في الأمر ولا جمل ففررنا إلى جهة العرب فأخذونا إلى عبد الكريم فأمر بانتظامنا في الجيش، فبعد أن كنا نقاتل في صف الإسبانيول صرنا نقاتل الإسبانيول، وكنا في كلا الحالين مكرهين لا أبطالاً، فبعد أن شهدنا عدة وقائع لاحت لنا فرصة للفرار ففررنا أملاً بالوصول إلى ساحل البحر، ومنه نجد فُلْكًا يأخذنا إلى أوروبا فكانت وقعتنا بالقرب من قرية عربية فقبضوا علينا وساقونا إلى الأمير عبد الكريم فأيقنا في أنفسنا بالهلكة، وقلنا: يصيبنا هنا ما أصاب رفاقنا عند الإسبانيول، فلما وصلنا إلى الأمير كان منه أن قال لنا: نعم يحق لكم أن تفروا؛ لأنه طال عليكم الغياب عن أوطانكم، ولكن أخطأتم بأنكم لم تخبرونا بعزيمتكم حتى نؤدي إليكم نفقة الطريق، ثم نقد لنا [٣] مبلغًا يكفي نفقتنا وأرسلنا إلى جهة ركبنا منها البحر إلخ. ويذكر هذا السويسري بعد ذلك الفرق بين الإسبانيول والمغاربة مما هو ظاهر للعيان من سياق هذه القصة. إن الذي يربطنا بعبد الكريم وقومه ليس أنهم مسلمون فقط ولا أنهم معدودون من الأمم الشرقية، ولو كانوا من الغرب، بل لكوننا مقيدين وإياهم بسلسلة طويلة فهي متصلة الحلقات لا خرم فيها من أولها إلى آخرها، ومن المحال أن يفوز المغربي في الريف أو في أي مكان آخر بدون أن ينتشق أخوه المشرقي أرج الفرج، ولو على بُعْد ألوف من الفراسخ، وهذا أمر يعرفه الأوروبيون جيدًا؛ لذلك تجدهم متضامنين متكافلين في وجهنا مهما اشتدت الشحناء بينهم في بلدانهم. وهاك مثالاً وقع معنا نحن الوفد السوري: إنه لمعلوم كون فرنسا منافسة إسبانية في المغرب. وإسبانية لا تود فرنسا، وأكثر الخلاف بينهما على مسألة طنجة، فذهب مرة أحد زملائنا أعضاء الوفد السوري لمقابلة المندوب الأسباني في جمعية الأمم نظير غيره من مندوبي الدول الذين قابلناهم وشرحنا لهم قصة سورية، إلا أنني لم أكن والحمد لله حاضرًا هذه المرة مقابلة المندوب الإسبانيولي بل كان الرصيف وحده، فما كاد يفتح له حديث الاستقلال وحق سورية في الاستقلال إلا وجد المندوب الإسباني نفر وانتثر وقال له: (نحن لا نساعد أبدًا أممًا أمثالكم على الاستقلال ويكفينا ما عندنا من مسألة الريف) وصادف أن رصيفنا لم يكن يريد إغضابه ظنًّا بأن مرضاته ربما تفيد شيئًا، وأنه هو أيضًا ممن يعتقد المصانعة وكتمان الضمير في السياسة، فأخذ يبرهن له على أهلية سورية للاستقلال، ويؤكد له وجود قسم كبير فيها من المسيحيين. وشرع الإسبانيولي يرد عليه بأن المسيحيين في سورية هم فئة قليلة فأجابه رفيقنا لا بل عندنا مسيحيون نحو الثلث. وأخيرًا فصل السياسي الأسباني الخطاب بأنهم هم أي الأوروبيين لا يجدر بهم أن يساعدوا أمة شرقية على الاستقلال، ولو كان فيها مسيحيون، وأتى بهذا الجواب المقشر بدون أدنى محاباة ولا محاياة، فلينظر إذًا الشرقي وليتأمل. هذه قضية لم نأخذ منها النتيجة عقلاً، بل أخذناها نقلاً بل شفهيًّا من فم مندوب إسبانية في جمعية الأمم. يكره هؤلاء استقلالنا بالشام؛ لئلا تشتد بقوتنا نحن عزائم أهل الريف، ولو كان الأسبان أضداد الفرنسيس، أبعد هذا شك في وجود التضامن بينهم ووجوب التضامن لا بيننا وبين كل أمة إسلامية فقط بل كل أمة شرقية بل كل أمة مظلومة مسلمة أو غير مسلمة؟ إذًا فليحي محمد بن عبد الكريم؛ لأن قضيته هي قضيتنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... البيان - (ش)
(المنار) إن فيما ختم به مقاله أمير الكُتَّاب، لموعظة وذكرى لأولي الألباب، ومن العجب العجاب أن أهل الشرق كافة، والمسلمين منهم خاصة والإفريقيين منهم على الأخص. لم يحفلوا بأمر هؤلاء الريفيين على إعجابهم ببسالتهم، وعلمهم بقلة الوسائل التي بأيديهم، ولو كنا أحياء كالإفرنج الذين يتعاونون على استعبادنا، ويتكافل المتنازعون منهم فيما بينهم في كل ما يقضون به علينا - لكنا أجدر بإرسال المتطوعين إلى الريفيين، من الإنكليز بالتطوع مع الأسبانيين، وإننا نرى نهضة شعبنا المصري قد دخلت في كل طور من أطوار حياة الأمم إلا طور الجهاد بالنفس، والتمرن على فنون الحرب، أفلم يكن يجدر بهم أن يغتنموا مثل هذه الفرص - حرب طرابلس وحرب الريف - فيرسلوا حملات المتطوعين من شبانهم التي دلتنا الثورة الأخيرة على شجاعتهم فيها وعدم مبالاتهم بالرصاص في أثنائها، وأن يجدوا من ضباطهم الذين في (الاستيداع) مَن يقود حملتهم ويدربها؟ بلى، والله ثم بلى. فإن كان هذا طورًا جديدًا لَمَّا يُتَح لهم فما بال أغنيائهم الذين حمد العالم لهم بذلهم المساعدة للدولة العثمانية في حروبها ولا سيما حرب طرابلس الغرب وحرب الأناضول - لا يمدون أيديهم السخية لمساعدة هؤلاء المنكوبين حتى إن جمعية الهلال الأحمر لم تُبَالِ بهم، كأنها لا تشعر بوجودهم؟