للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: المغربي


علاقة الأحياء بالأموات [*]
نحن معشر المسلمين اليوم نزور أمواتنا زيارة غير شرعية، ونطلب منهم
ما لا يجوز طلبه إلا من الله، نعم إن هذا لا يفعله خاصتنا وعلماؤنا وأهل الفضل
فينا، ولكن يفعله عامة المسلمين الذين هم إخواننا من رجال ونساء، وهؤلاء العامة
هم ثلث الأمة الإسلامية على أقل تقدير، فهل يجوز لولاة أمورها وخاصة علماءها أن
يروا مائة مليون مسلم ومسلمة على غير الحق والهدى في هذه الزيارة ثم يهملوهم
من الوعظ والإرشاد؟
ألسنا نراهم يطلبون من الأموات أن ينفعوهم ويضروا غيرهم؟ ألا يطلبون
منهم العافية والرزق وأن يُشفى مريضهم ويقهر عدوهم ويرد ضائعهم مما لا يصح
طلبه إلا من الله تعالى؟ تقول: وهل يفعل المسلمون ذلك؟ أقول: نعم، زر السيد
البدوي في طنطا وأبا العباس المرسي في الإسكندرية، والجيلاني في بغداد،
وعبد السلام بن مشيش في مراكش تعلم صحة قولي.
مع أن السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يزورون الأموات ويدعون لهم
ولا يكلفونهم قط ما ليس من وظائفهم. وهذا نبينا وقرة أعيننا وبرد أكبادنا محمد
صلى الله عليه وسلم لم يطلب من جده إسماعيل ولا من جده الأكبر إبراهيم الخليل
مطلبًا ما. وإنما كان يطلب من الخالق الحي سبحانه وتعالى مباشرة من دون واسطة.
أفبعدما أدَّبنا ربنا بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) مقال لقائل؟
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فيقول (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ
) ثم يدعو الله وينصرف، وهكذا كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إن مطالب الإنسان قسمان: قسم من أمور الدنيا جعل الله البشر أنفسهم سببًا
في الحصول عليه فيطلب من البشر: كأن تحتاج إلى قرض فتطلبه من صديقك
الغني أو وظيفة فتطلبها من الوالي، وناظر الداخلية، أو زوجة فتطلبها من وليها
الشرعي في نظير مهر، فإذا لم تطلب هذه المطالب من أربابها، ولم تتوسل إليها
بأسبابها، وإنما تركت الأسباب جانبًا وطلبتها من الله فضلاً عن الأموات لم يقبل الله
ذلك منك؛ لأنك خالفت أمره ودابرت سننه التي بنى حركة الكائنات عليها.
وقسم من المطالب الدنيوية لم يجعل الله له أسبابًا تدخل تحت مقدور البشر، فهذه
المطالب إنما تطلب من الله مباشرة خالق الكل ومفيض الخير على الكل.
وهذه المطالب كتيسير أسباب الرزق والعافية والتوفيق للخير، وكممارسة
الفضائل، والصرف عن الشر ومقارفة الرذائل، وجعل عمرنا طويلاً، وحياتنا
طيبة، وتخفيف سكرات الموت، ودخول الجنة، وتبوأ أعلى درجاتها، وأن
يرزقني أولادًا ويجعلهم سعداء في الدارين، وأن يكف عنا شر الأشرار ... إلخ
فكل هذا مما لا يصلح طلبه إلا من الخالق الحي، فما المعنى لطلبه إذن من
المخلوق الميت المحتاج إلى رحمة من الله وإلى (دعوة) منك.
أصبح الناشئون اليوم بعد أن درسوا العلوم العصرية الفلسفية يشكون والعياذ
بالله تعالى في الخالق الذي:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فكيف يمكننا أن نقنعهم بعبادة ما لا يُعد ولا يحصى من الأولياء الأموات؟ لو
كان الأولياء محصورين في عدد مثلاً لهان الأمر وقلنا للمسلمين الزموا هؤلاء،
ولكن في كل قطر بل في كل بلد بل في كل قرية عدد كبير من هؤلاء الآلهة
الصغار؟ وعلى كل مسلم أن يعتقد فيهم كما يعتقد في خالقه تقريبًا.
والمسلمون اليوم محاطون بالأوربيين الأحرار في أفكارهم وآرائهم، بل إن
كثيرين من الأحرار غير الأوربيين يعيشون بيننا وبعضهم من إخواننا وأبنائنا
وأفلاذ أكبادنا فتكليفهم عبادة أولياء مخلوقين لا يدخلون تحت حصر وقولنا لهم: إن
هذا دين يرضاه الله، لنا تكليف لا يقبلونه وربما أدى الأمر أخيرًا إلى شكهم في الله
نفسه تعالى الله وتقدست صفاته وأسماؤه.
فلا جرم أنَّا إذا اجتهدنا في إثبات الألوهية على أسلوب مقنع نكون خدمنا ديننا
الإسلامي خدمة عظيمة، ولندع الآن تكليفهم عبادة الأولياء فقد كثروا وتراكموا،
والأثقال إذا تراكمت على ظهر الدابة بحيث لم تعد تقدر على حملها تساقطت بنفسها.
وأرى أن مزاعمنا في هؤلاء الأولياء الكثيرين زادت على طاقتنا فلم تعد تطيق
حملها ظهورنا.
لما كنت نزيل القطر المصري ذهبت من القاهرة إلى مدينة طنطا لزيارة
(السيد البدوي) رضي الله عنه، وقد رأيت من جماهير الزائرين ما أنكرته
واستبشعته، فرجعت إلى القاهرة، وكتبت في المؤيد مقالاً بهذا الموضوع منكرًا
محذرًا. وبعد أيام ذهبت إلى دار المرحوم (أحمد بك الحسيني) وكان عنده جماعة
من علماء الأزهر، فجرى ذكر زيارتي للبدوي وما كتبته في المُؤيد بشأنها فأيدني
قوم وخذلني آخرون، وكان أشدهم حملة عليّ وتقبيحًا لقولي أستاذ يقال له (الشيخ
مدوخ) وهو شيخ مبارك طيب القلب سليم النية، أحسن الله جزاءه، فقلت له:
ياحضرة (الشيخ مدوخ) إنما أريد فيما كتبته في المؤيد تصحيح عقائد إخواننا العامة
فلا يشركوا مع الله أحدًا ولا يصبح ديننا بسببهم مضغة في أفواه الإفرنج، فيقولوا عنا
إننا وثنيون ونعبد آلهة كثيرة فلا يعود يسهل علينا بعد ذلك نشر ديننا في العالم، بل
إن طعنهم فينا على هذه الصورة يغري بنا دولهم فيستولوا علينا ويمحونا من العالم
بداعي أننا فاسدون مفسدون. أنت وإخوانك العلماء تعرفون كيف تزورون الزيارة
الشرعية، ولكن لا تكونون ناجين من التبعة فتهملوا تعليم إخوانكم العامة المساكين
وأرشادهم، ألستم أنتم ورثة الأنبياء قد ورثتم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) في
تعليم أمته الدين؟ وأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لبث في مكة قبل الهجرة
نحو عشر سنوات يعلم الناس فقط أن لا يدعوا مع الله أحداً. فليقض كل واحد
منكم سنة واحدة على الأقل في تعليم المسلمين الزيارة الشرعية فلا يدعوا مع
الله أحدًا.
علموهم أن زيارة الأموات والأولياء لأجل الاتعاظ والاعتبار فيرجعوا عن
الشرور، ولأجل تذكر مناقب الولي العظيم فيقتدوا بها، هذا هو المقصود من زيارة
الميت في الشرع، فكيف ساغ لزائري قبر السيد البدوي أن يطلبوا منه ما لا يطلب
إلا من الله، ولعمري إن صنيعهم هذا لا يرضي الله ولا السيد البدوي نفسه.
فاغتاظ مولانا (الشيخ مدوخ) وقال بحدة: إني أخاف عليك يا هذا أن يبطش
بك السيد البدوي. فعجبت لقوله، وعجبت للحاضرين قائلاً: أصحيح أن السيد
يبطش بشخص لم يعمل إلا ما كان هو نفسه في حياته يعمله من وعظ العامة
وإرشادهم وحملهم على التمسك بآداب الدين وفضائل الإسلام؟ فتأثر الحاضرون من
قولي. ثم انفض المجلس وذهبت إلى بيتي، وأويت إلى فراشي ونفسي تهجس بما
كان من الحديث بيني وبين (الشيخ مدوخ) وقوله لي: إن السيد سوف يبطش بي.
ثم نمت فرأيت فيما يرى النائم كأني في دار السيد أحمد بك الحسيني وعنده خلق
كثيرون، وفي صدر المجلس شيخ جليل كأنما القمر يتلألأ في وجهه. قيل لي: إنه
السيد أحمد البدوي. فخطر ببالي للحال (الشيخ مدوخ) وأنه لا بد أن يكون حكي له
خبري معه، وكان الأمر كما قدرت، فإن السيد ما وقع نظره علي حتى تبسم وهز
رأسه كالمعاتب اللائم. فأسرعت إليه وانكببت على يديه أشمهما وأقبلهما. وجعلت
أحلف بالله وبجده صلى الله عليه وسلم [١] أني لم أتفوه بكلمة تمس مقامه الكريم
(وأن الشيخ مدوخ) بلغه خلاف الحقيقة، وأن حضرات علماء الأزهر الذين كانوا
حاضرين في المجلس مثل الشيخ بخيت والشيخ البيجرمي والشيخ سليمان العبد
يشهدون بصحه قولي، ثم قلت له بإخلاص واحترام: لا أظنك أيها السيد ترضي أن
ينزلك عامة المسلمين منزلة الرب إلهك، إنني يا سيدي أحبك ولكن أحب الحق
أكثر منك. وأحترمك ولكن أحترم ديني أشد من احترامي لك. أزور قبرك وأذكر
مناقبك وأتعظ بموتك، وأقرأ الفاتحة وأبعث بثوابها هدية إلى روحك الطاهرة [٢]
ولكن لا أطلب منك نفعًا في مقابل هذه الهدية التي أرسلتها إليك؛ لأن إعطاء الهدية
بمقابل مخالف للآداب الإسلامية، والسجايا العربية.
أنك يا سيدي لو سمعت من زائريك استغاثاتهم، وابتهالاتهم، وتكاليفهم لك
بتفريج كرباتهم وقضاء حاجاتهم، مقتّهم وعذرتني، إنهم يا سيدي يعتقدون في
أحجار قبرك وفي الأستار الملقاة على ضريحك تأثير الحب والبغض، والشفاء
والمرض، والغنى والفقر، والنفع والضر.
فتغير وجه السيد وجعل يلحظ (الشيخ مدوخ) شزرًا، فانبسطت أنا حينئذ
بعد الانقباض وتفتحت في الكلام فقلت: إن عبد الله بن سبأ اعتقد في جدك أمير
المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب أن فيه شائبة ألوهية فنفاه إلى مصر ثم إلى
المدائن، فما كنت أنت صانعًا في هؤلاء الذين يعتقدون فيك ما يعتقدون في الرب
معبودك؟ فقطّب السيد وزوى حاجبيه وقال: لو أطلقت يدي فيهم لنفذت عليهم
حكم الشرع، ثم التفت السيد رضي الله عنه إلى السادة العلماء وقال لهم عجبًا:
كيف تسربت هذه الضلالات إلى العامة وأنتم فيهم؟ ثم كيف تغافلتم عنهم حتى
خرجوا في الاعتقاد فينا وفي زيارتنا عن حدود السنة وآداب الشريعة؟ وكيف
تلاهيتم عنهم فجعلوا ينسبون إليّ من الأعمال ما لا يصح ويعملون في مولدي من
الآثام ما لا يجوز؟ لماذا لم تفهموهم أن طريقتنا نحن معاشر الأولياء هي الكتاب
والسنة، وأن الذي يرضينا منهم إنما هو العمل بأحكام الشريعة كما كنا نعمل في
حياتنا.
ثم التفت السيد البدوي إلى شاب حسن الطلعة قاعد في طرف المجلس وقال له
قم يا بني فاقرأ على الحاضرين ما ألقيته عليك وعلى رفاقك المريدين في هذا
الصباح، فقلت لمن بجانبي ومن هذا الشاب؟ قال هو عبد العال أكبر تلامذة السيد
البدوي، فأخرج الشاب من جيبه كراسة فقلب فيها ثم قرأ بصوت جهوري ما يلي:
(يا عبد العال أشفق على اليتيم، واكس العريان، وأطعم الجيعان، وأكرم
الغريب والضيفان عسى أن تكون عند الله من المقبولين) .
(يا عبد العال: أحسنكم خلقًا أكثركم إيمانًا بالله تعالى، وإن الخلق السيئ يفسد
العمل الصالح كما يفسد الخل العسل) .
(يا عبد العال: هذه طريقتا مبنية على الكتاب والسنة، والصدق والصفا،
وحسن الوفا، وحمل الأذى، حفظ العهود) .
(يا عبد العال: لا تشمت بمصيبة أحد من خلق الله، ولا تنطق بغيبة ولا
نميمة ولا تؤذ من يؤذيك، واعف عمن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وأعط
من حرمك) .
(يا عبد العال: أتدري من هو الفقير الصادق؟ هو الذي لا يسأل أحدًا،
ويعمل بالكتاب والسنة) .
(يا عبد العال: إن شروط طريقتنا أن لا يكذب المتبع لها، ولا يأتي بفاحشة
وأن يكون غاضّ البصر عن محارم الله، طاهر الذيل عفيف النفس، خائفًا من الله
عاملاً بكتاب الله، ملازمًا للذكر، دائم الفكر) .
(يا عبد العال: من لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة في الدنيا، ولا في
الآخرة)
ثم سكت عبد العال وجلس، فالتفت السيد إلى الحاضرين، وقال هذه هي
طريقتنا يا قوم وهذه هي آدابنا وهذا ما نريد من أحبابنا ومريدينا أن يقولوه ويفعلوه،
فمن أين جاءوا في حقنا بهذه الغرائب والعجائب؟ وكيف أنزلونا منزلة الرب خالقنا؟
تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
عندها نهض (الشيخ مدوخ) وقال بتأثر وانفعال: يا أيها السيد إن المسلمين
الذين يزورونكم إنما يستشفعون بكم إلى ربكم ويتبركون تبركًا بلثم أحجار ضريحكم
ويدعون الله تعالى ثم ينصرفون وليس في فعلهم ما يخالف الشرع ولا آداب السنة
ولا هو مما يسمى عبادة.
فالتفت السيد إلي كأنه يستفهم مني عما قاله (الشيخ مدوخ) فقلت له يا سيدي
يمكنني أن أرد على الشيخ مدوخ بأن العامة الذين يزورون قبور الأنبياء والأولياء
نسمعهم بآذاننا يدعونهم بأسمائهم قائلين افعلوا كذا واصنعوا كذا.
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الدعاء عبادة) وفي رواية (الدعاء
مخ العبادة) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة يمكن أن نحتج بها على الشيخ مدوخ
ولكن هو أيضاً يمكنه أن يرد علينا مؤولا تلك الأحاديث، ومفرغًا لها في القالب
الذي يريده، فتحتدم بيننا نار الجدال على غير طائل وربما أدى الأمر أخيرًا إلى
المراء والمماحكة والمهاترة، وهذا لا يليق بمجلسك الكريم. فإن استحسنت ذهبنا
جميعًا إلى طنطا فنزور المقام الأحمدي ترى بعيني رأسك ما يفعله المسلمون حول
قبرك. فقال لقد أحسنت بالرأي أحسن الله إليك بالجنة، وصلنا إلى طنطا ودخلنا
المقام الأحمدي ومعنا (الشيخ مدوخ) فإذا رجل فلاح هرم متمسك بأستار القبر وهو
يبكي ويستغيث ويقول: يا سيدي ويناجي أحجار القبر بكلام غير مفهوم. فأشار إلي
السيد أن أسأله عن قصته فسألته فدفعني في صدري وقال اذهب عني يا شيخ.
فعدت إليه وتلطفت له في السؤال ففهمت منه أن جاره حرق بيدره وذبح بقرته فهو
يطلب من السيد إما الانتقام من الظالم أو التعويض عليه ببيدر آخر وبقرة أخرى.
فاربد وجه السيد عند سماع كلام الفلاح وسكت على مضض. ورأينا رجلاً آخر من
الزائرين يحك ظهره بقفص قبر السيد فقال: إنه وقع على ظهره وهو يسقي زرعه
بالشادوف فجاء يستشفي بقفص السيد.
وهناك امرأة تولول وتذرف الدموع الغزار وتهتف بالسيد. وتطلب منه أن
يهلك ضرتها ويجعل زوجها يطلقها ويحبها هي ويرزقها غلامًا ذكرًا من أهل الحياة
ورأينا رجلاً كهلاً ببنطلون أسود وجاكيت سوداء وطربوش يدعو بالقرب من السيد
ويلحّ إلحاحًا منكرًا. فإذا هو من موظفي الحكومة وقد أحالوه على المعاش فهو يطلب
أن ينظر السيد في حالة ومستقبل عياله. عندها ضاق صدر السيد البدوي، ولم يعد
يطيق الصبر على ما سمع من هذا اللغط والهذيان والتفت إلى (الشيخ مدوخ) قائلاً:
ما هذه المطالب؟ وما هذه التكاليف؟ وما هذه الزيارة التي تقول إنها شرعية؟
وهل نحن الأولياء المستغرقين في جلال ربنا فارغو القلب لقضاء كل هذه اللبانات
والحاجات؟ أليس الله الحي الذي بيده مفاتيح الخير والشر والنفع والضر بأقرب إلى
هؤلاء الشاكين من حبل الوريد؟ فسكت (الشيخ مدوخ) وعليه علائم الحيرة
والارتباك والخجل.
وبينما نحن نسمع كلام الشاكين ودعاء الملحين إذا برجل معمم آخذ بتلابيب
رجل آخر يظهر من قيافته أنه غريب وهما يتنازعان ويتدافعان فسأل السيد: ما
خبرهما؟ فقيل له: إن الأول المعمم مزور يعلم الناس الزيارة ويأخذ منهم أجرة،
وهذا الغريب يقول له: إنه يعرف آداب الزيارة فهو يريد أن يزور بنفسه من دون
معلم وأنه لا يستحل أن يؤدي دراهم تلقى في (صندوق الزيارة) الموضوع في
جانب المقام فقامت قيامة السيد (رضي الله عنه) وغضب غضبًا شديدًا وقال: يا
سبحان الله. كل هذا يجري على مراقدنا. وفوق رؤوسنا؟ إلى هذا الحد بلغ
الأمر بالمسلمين أن يتخذوا قبورنا حوانيت للتجارة وأجسامنا بضاعة للاستغلال؟
فوق اتخاذهم لها أوثانًا؟ نحن كنا في الحياة الدنيا نعادي المال ولا نجعل أجسامنا تتمتع
به أكلاً ولبسًا وادخارًا أفيجوز أن تُجعل أجسامنا عدوة المال شباكاً للمال،
ووسيلة من وسائل جمع الحطام؟
ثم تراءت لنا من بعيد صحيفة ملقاة في داخل القفص المعدني الذي فيه قبر
السيد فاقتربنا منه وتناولنا الصحيفة وإذا فيها قصيدة [٣] غراء بإمضاء مفتي مصر
الشيخ (بكري الصدفي) يشكو إلى السيد البدوي من شيخ الأزهر الشيخ عبد
الرحمن الشربيني ويستعديه عليه ويطلب منه أن يعجل في عزله من وظيفة مشيخة
الأزهر وهي مذيلة بإمضاء رافعها حضرة مفتي مصر المومأ إليه، وهذه هي القصيدة
مع مقدمتها:
(التجاء واستنجاد برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج
الأصفياء، الغوث الأوحد سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد دامت إمداداته، وعمت
في الدارين بركاته:
آمين آمين لا أرضي بواحدة ... ... حتى أضم إليها ألف آمينا
***
أيرضيك يا غوث الورى وإمامهم ... غبينة أهل الحق والحق ظاهر
تعدى لئيم القوم وأشتد بغيه ... وجاء بكل الحقد وهو يجاهر
أتى بالمعاصي معلنًا، وهو يدعي ... مكانة دين قيم، وهو فاجر
وساعده حزب على شكله سعوا ... بكل فساد أوضحته الكبائر
فضلوا جميعًا عن طريق رشادنا ... وأزهرنا منهم غدا وهو صاغر
فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي ... ونطلب دين الله، والله ناصر
وأنتم إمام الأولياء ولا مرا ... وأنت غياث الملتجى وهو حائر
إذا كان يا مولاي أزهر ديننا ... تدور عليه في الضلال الدوائر
فأين يكون الدين يا سيد الورى ... وأين يكون العدل والعدل عاطر؟
فها قد بسطنا بعض شأن نريده ... وثم أمور قد حوتها الضمائر
فمنها دخول في البقا وهداية ... لأقوم طرق الله وهي المفاخر
وصحة جسم للذين أحبهم ... كذلك لي في العز والعمر وافر
ونصر على الأعداء وجاه مؤبد ... وفوز مبين دائما يتقاطر
وتيسير ما أرجوه في كل مطلب ... وسكنى جنان الخلد حيث الأكابر
ورؤية خير الخلق جهرًا بسرعة ... فها قد مضى عمري وقل الناصر
فقل يا طويل الباع: ها قد أجبتكم ... بكل الذي ترجون والله جابر
وصل على المختار ربي مسلمًا ... كذا آله ما قام بالذكر ذاكر
... ... ... كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب الراجي سرعة الجواب
... ... ... ... ... ... بكري محمد عاشور الصدفي
فجعل السيد البدوي يقرأها وجميع بدنه يرتجف من التأثر والانفعال والتفت
إلى (الشيخ مدوخ) فلم يره لأنه كان قد تسلل لواذًا حين رأى الورقة ملقاة في داخل
القفص، وكأنه كان يعلم أن سماحة المفتي هو الذي أرسل من ألقاها ثمة، عندها ضاق
صدر السيد من هذه المناظر المحزنة، والأعمال الممقوتة فتنفس الصعداء وقال:
وأين ولاة أمور المسلمين وعلماء الإسلام العقلاء وذوو الغيرة على الدين؟ لماذا لا
يصلحون هذه الشؤون، ويجتهدون في تقويم اعوجاج العامة ويربون أولادهم تربية
إسلامية قبل أن يتلقحوا من آبائهم بلقاح هذه المنكرات والآثام؟ فما هذه الغفلة؟ وما
هذا الإهمال؟ فقلت يا سيدي: إن كثيرين من المسلمين لا سيما محبيك ومحبي
إخوانك، أهل الله المقربين ينتظرون منكم أنتم إصلاح أحوال الأمة الإسلامية
وجمع ما انتشر من أمرها.
قال: منا نحن؟ قلت نعم!
قال: منا نحن؟ قلت نعم!
قال: وكيف ذلك؟ قلت: إنهم يعتقدون أن الأبدال والأنجاب والأقطاب وسائر
أهل الله لهم مجالس باطنية، واجتماعات برزخية ينظرون فيها في أمور المسلمين
وما يطرأ عليهم من الحوادث فيذللون صعابها ويحلون مشكلاتها ثم أن أهل الظاهر
بعد ذلك - وهم الحكام والأمراء والسلاطين - ينفذون ما أبرمتم وقررتم في عالم
الغيب.
فبهت السيد لما سمع مني هذا الكلام وكاد يغشى عليه من شدة الغيظ والحنق،
ثم قال: ويحكم ومن أخبركم أننا ندبر أموركم ونعمل في مصالحكم ونحن في
مراقدنا؟ وأية سنة أو قرآن أو شريعة أتت بذلك؟ أما قال جدي المصطفى
صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له بخير) هذا هو عملنا الذي يصلح أن ينسب
إلينا بعد الموت بشهادة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم فكيف تنتظرون منا أن
نعمل في تدبير ممالككم، ونشتغل في قيادة جيوشكم؟
ثم نظر إلىَّ نظر المرتاب في قولي فقلت كلا أيها السيد لا تظنني مغاليًا. فإن
أهل مراكش كانوا يعتمدون في دفع الفرنسيس على روحانية سيدي
(عبد السلام بن مشيش) وأهل بخارى كانوا يثقون كل الوثوق بوليهم المعروف
بـ (منلا غوث الله) ومنه كانوا يستمدون المعونة في دفع غائلة الروس.
قال: ثم بعد ذلك صار ماذا؟ قلت: إن الروس تغلبوا على بخارى ودمجوها
في مستعمراتهم، أما مراكش فلا نعلم ماذا يكون من حالتها إلا بعد انقضاض
مؤتمر الجزيرة المنعقد في هذه الأيام من أجل النظر في مشكلتها وتحديد مناطق
نفوذ الدول الأفرنجية فيها. عندها سمعت السيد يتلو قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: ١١٨) ثم تنهد تنهدًا عميقًا وقال:
يا سبحان الله، إن أعظم حادثة طرأت على المسلمين في صدر الإسلام هي
حادثة الردة، وما سمعنا أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم
أجمعين انتظروا حل مشكلتها من حضرة نبينا المصطفى (صلى الله عليه وسلم)
وهو في قبره الشريف، ولم يطلبوا المدد والمعونة من شهداء بدر، ولا شهداء أحد
وهم أفضل الخلق أجمعين، بعد الأنبياء والعشرة المبشرين، وإنما رجع سيدنا أبو
بكر والصحابة في حل مشكلة الردة إلى الله الحي الباقي وإلى العمل بالقرآن
والشريعة فاتحدوا وأجمعوا أمرهم، ثم أقاموا حكم الله في المرتدين فانطفأت فتنتهم،
وانحلت مشكلتهم، وكذلك السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) لم ترجع
في وقعة الجمل وحل مشكلة الخلافة إلى زوجها (صلى الله عليه وسلم) ولا إلى
أبيها أبي بكر بعد موتهمها وهما أفضل الخلق أجمعين. وإنما رجعت إلى اجتهادها
وعزيمتها وشدة عصبية الجيش الذي معها، وكذلك سيدنا علي بن أبي طالب لم
يرجع فيما عرض له من الأمر إلا إلى القرآن والشريعة ومنعة المسلمين وحميتهم.
هذا ما كان يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يطرأ عليهم
من الخطب الجسيم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم لم أنشب أن استيقظت من نومي وعدت إلى أشغال يومي.
... ... ... ... ... ... ... ... دمشق الشام ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي