للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


القرآن والعلم
(٤)

تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ
(هامان وزير فرعون)
قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} (القصص: ٣٨) ,
وقالوا: إن هامان كان وزيرًا لأحشويروش ملك فارس، وهو متأخر عن فرعون بسنين.
وهذه الشبهة من أضعف الشبهات، فإنه لا يبعد أنْ يكونَ لفرعون وزير يسمى
هامان , ثم سمي بهذا الاسم وزير آخر لملك الفرس , ومن عَرَفَ علاقة المصريين
بالأمم المجاورة لهم وتغلبهم على بلادهم تارة , وخضوعهم لهم تارة أخرى كما كان
يحصل بين ملوكهم وملوك فارس لا يتعجب من دخول بعض أسماء أهل مصر في
لغات الأمم الأخرى , ولا من دخول بعض أسماء من هؤلاء الأمم في لغة مصر
القديمة , على أننا لا نعرف جميع أصول ما ورد في الكتب المقدسة مِن الأسماء ,
ولا ندري جميع مصادرها، فيجوز أنْ يكونَ للفظ هامان أصل في اللغة المصرية
القديمة (الهيروغريفية) لا نعرفه. ولا يخفى أن ردّ الأعلام المنقولة من اللغات
بعضها إلى بعض عسير , وفي بعض الأحيان يكونُ متعذرًا. وخصوصًا مثل هذه
الأسماء القديمة الواردة في كتب الأمم المقدسة. فكم في كتب العهدين مِن أعلام لا
يعرف اشتقاقها إلا رَجْمًا بالغيب! وكم فيها مِن أسماء لأشخاص من أُمّم يسمون عند
أممهم بغيرها ولا يعرف سبب لهذا الاختلاف.
فإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لتلك الشبهة. فإن الشبهة لا تدحض حُجّة إلا إذا
بنيت على أساس ثابت مقطوع به. ومادامت الشبهة وَهْمِية أو ظنية , فلا يلتفت
إليها. ولا يعبأ بها في مقابلة الدلائل اليقينية.
* * *
المسألة الخامسة عشرة
(أموال قارون) [١]
قال الله تعالى في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ} (القصص: ٧٦) فقال قوم: إن ذلك غير معقول؛ لأن
وجود مال بهذه الكثرة غير معروف.
ونقول: أما إنْ كانَ ماله من الذهب والفضة فربما كان قولهم صحيحًا. وأما
إنْ كانَ من غير الذهب والفضة أو كان من جنس العروض لا من جنس النقد كان
ذلك جائزًا. فمن المحتمل أنه كان عنده مخازن عديدة تحتوي على غلال ومأكولات
وملبوسات ومفروشات ومصنوعات , وغيرها مما ادخره لنفسه أو للاتجار به،
وكان لهذه المخازن عدة أبواب ومفاتيح كثيرة تثقل العصبة أولي القوة وخصوصًا إذا
لاحظنا أن مفاتيح الأمم القديمة كانت كبيرة وضخمة. بحيث يصعب على الإنسان
حمل كثير منها.
على أن الأرجح أن لفظ (مفاتح) معناه الخزائن , وقياس واحده مَفْتَح بفتح
الميم. وبذلك قال ابن عباس والحسن.
وقد ورد بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ
هُوَ} (الأنعام: ٥٩) أي خزائن الغيب ومكنونات أسراره. خزائن أموال قارون
كانت ثقيلة. وهذا أمر مشاهد مثله الآن ومعروف كما في البلاد الأوربية والأمريكية
من النقود الذهبية وغيرها.
* * *
المسألة السادسةَ عَشْرَةَ
(الوضع اللغوي)

(استعمال لفظ القلب في القرآن)
توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة ,
ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول
معانيها , فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ
للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح. مثال ذلك قولهم: (فلان مجنون)
أي غير سليم العقل فلفظ (مجنون) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ , ولما كان هذا
الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون , وما كان من مادته فيمن
اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون ,
ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ
في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه (بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله)
في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى. ومثل ذلك لفظ
(عبقر) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن , ثم نسبوا إليه كل شيء
تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (الرحمن: ٧٦)
مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة. وكذلك لفظ (القلب) فإنه
في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه , ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون
أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء
بمحله على سبيل المجاز المرسل , ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت
الكلمتان (العقل والقلب) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك
الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة
أو غير صحيحة. ومن ذلك أيضًا قولهم: (غربت الشمس، أو طلعت) فإنه تعبير
يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو
عن حركة الأرض , فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع
اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم
وتعبيراتهم , ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير
صحيحة , ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري
عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه.
وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس
ومعرفتهم لها , ولذلك يقولون: (لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح) .
فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ
لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة , ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل
القرآن , فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم , وإن كانوا في وضعها
مخطئين , فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى
تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب.
وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران:
(١) أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة.
(٢) أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة , ويكون هذا الأمر
في الواقع ونفس الأمر غير صحيح. فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب،
وعبقري، ومجنون، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل. وإن كانت العرب
في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة. فإن ذلك معهود في
جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة؛ إِذْ لا داعي
يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة،
وإن كانت في أصل وضعها خطأً , فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات , ولَكانت
تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس، فمن أمثلة
ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West أي
جزائر الهند الغربية، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا (كريستوفر كولومبس)
لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند , فسماها بذلك وجرى الناس على هذه
التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ. ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض
الديدان الشريطية المعوية باسم Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة؛
لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة , ومع أنهم
الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة، ترى جميع العلماء يصرون على
هذا الاسم , وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً؛ لشيوعه بين الناس. وكذلك تسميتهم بعض
الأمراض العصبية (بالهستيريا) من لفظ Hystera اليوناني، ومعناه (الرحم)
لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم , ومع عِلْمِ الأطباء
بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به.
إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) , فمعنى القلوب في أول
الآية، العقول. وإنما لم يقل: (فتكون لهم عقول يعقلون بها) لِرَكَاكَةِ ذلك، ولم
يَقُلْ: (فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا
التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية؛ فلذا لم يهتم بها
ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة؛
لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [٢] وخلاصته , ولا جوهر للإنسان سوى روحه
فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها. وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه
العضو المعروف في صدر الإنسان , ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر؛
لعمى أبصارهم , بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها
حتى كأنها قلوب أموات، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل
فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى , أو تضعف وتنتظم , أو تختل إلى غير ذلك من
التغيرات التي تحصل لحركات القلب , وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى
درجة الإحساس عنده، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً؛ لأن القلوب هي دلائل
النفوس , ولذلك قيدها الله هنا بقوله: {فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) لمنع التجوز
في معنى القلوب، فكأنه تعالى يقول: إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم
وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها
تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون ,
أو رَأَوْا ما به يعتبرون، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في
أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا , ولولا القيد المذكور وهو قوله:
{الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما
حملت عليه في أولها , وكان المراد منها العقول في الموضعين، وبذلك تخفى الفائدة
من باقي الآية , ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها.
هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية
له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (النور: ٤٣) - أي الأعين - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: ٤٤) أي العقول , وكقول الشاعر:
لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا
* * *
المسألة السابعة عشرة
(التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة)
ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في
سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها , ولما
كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا
يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف , وهي:
(١) عدم القول بالنسخ في القرآن.
(٢) عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد.
(٣) كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً.
فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا في أول الإسلام يصلّون في
الليل إلى ثُلُثِهِ أو نصفه أو ثُلُثَيْهِ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك اتباعًا لأمر مِن الله لهم به
في غير القرآن كما كانوا يصلون إلى بيت المقدس في أول الإسلام مع أن الأمر
بذلك لم يرد في القرآن , وأمثال هذه الأوامر هي مما نسميه الأوامر الوقتية أو
القولية (غير الكتابية أو غير الرسمية) . وكانت هذه الصلاة الليلية من أكبر ما
يقوي الرابطةَ بين جماعة المؤمنين الأولى حينما كانوا قليلي العدد، فقراء، ضعفاء،
فكانت هذه الصلاة أعظم وسيلة لتثبيتهم واتحادهم وتضامنهم , وليزدادوا قوةً في
إيمانهم على قوتهم فيه، فلما جهر بالدعوة إلى الإسلام وبدأ الدين أنْ يكونَ أعمّ مما
كان وأخذ يدخل فيه أصناف مختلفة من الناس منهم ضعفاء الأجسام , ومنهم ذَوُو
الأعمال الدنيوية التجارية وغيرها، ومنهم مَن لم يكن عنده من الإيمان ما يحمله
على سهر الليل كما حمل أولئك المؤمنين الأولين - لما صار الأمر كذلك أنزل الله
سورة المزمل (٧٣) , وفيها يأمر الله نبيه بالاستمرار على قيام الليل ويوجبه عليه
دون غيره من المؤمنين، فناداه بقوله: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} (المزمل: ١-٢) الآيات، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وحده كما يدل
باقي السورة. والمراد بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} (المزمل: ٢) الأمر بالدوام
والاستمرار.
والذي يدل على ذلك قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} (المزمل: ٢٠) الآية، فكأنه تعالى يقول: أنا أعلم ما تفعل ومطلع عليه , وإنما
أمري لك به هو لطلب الاستمرار عليه، وكذلك أعلم أنه يقومه {وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ} (المزمل: ٢٠) يعملون ما تعمل ولا يعلمون لك أمرًا في ذلك.
ثم قال تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} (المزمل: ٢٠) أيها المؤمنون
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (المزمل: ٢٠) بالترخيص لكم في ترك ما أمرتم به. وفي هذه
العبارة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، فإن المخاطبين هنا هم الطائفة الذين سبق
ذكرهم , ونكتة هذا الالتفات البلاغية هي إظهار عنايته بهم ورعايته تعالى لهم ,
وإقباله عليهم إكرامًا لهم على ما قاموا به من التهجد بالليل.
ولما بدأ أنْ يكونَ من المسلمين المرضى والمشتغلون بالتجارة وغيرها خفف
الله عنهم , وبين أن قيام الليل لم يَبْقَ فرضًا عليهم، فلهم فيه الخيار، لأن تكليفهم به
على سبيل الوجوب أصبح شاقًّا عليهم وخصوصًا لأنهم سيضطرون يومًا ما إلى
القتال دفاعًا عن أنفسهم في سبيل الله، فقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (المزمل: ٢٠) الآيات.
والخلاصة أن قيام الليل كان فَرَضَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على نفسه
وعلى أتباعه , ولم ينزل قرآن في ذلك , ولعله فعله بالاجتهاد أو بالوحي في غير
القرآن , ثم رفع الله تعالى ذلك عن المؤمنين بسورة المزمل، وألزم به النبي صلى
الله عليه وسلم دون سواه، فالنسخ ليس للقرآن وإنما هو لِمَا كان يفعله المؤمنون
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يدلك على أن قيام الليل صار خاصًّا
برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في موضع آخر: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَّكَ} (الإسراء: ٧٩) أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة
بك دون الأمة.
فمما تقدم تعلم:
(١) أن سورة المزمل لا نسخ فيها للقرآن.
(٢) ولا تناقض فيها بين آياتها.
(٣) وأن الأمر في أولها هو للدوام والاستمرار، وهو معهود في اللغة ,
كقولك لمن يأكل (كُلْ) . والذي دلنا على ذلك قوله فيها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} (المزمل: ٢٠) , إلخ.
(٤) وأن هذه السورة تفهم بدون احتياج لروايات الآحاد ومن كان خالي
الذهن لا يفهم منها سوى ما قلناه.
(٥) وأنه لا حاجةَ للقول بأن جُزْءَها الأول نزل أولاً، وأن جزءها الأخير
نزل بعد مُدَّةٍ. بل على تفسيرنا تكون آياتها ملتئمة مع بعضها كأنها نزلت دفعةً
واحدةً. فكل من يدعي أن في عبارات القرآن تناقضًا فإنما هو جاهل غبي بليد
الذهن.
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
* * *
المسألة الثامنة عشرة
(البعث الجسماني) [٣]
إذا مات الإنسان فدفن تفرقت أجزاء جسمه في الثرى، فإذا زرع الزارعون
في هذه الأرض تغذت الأشجار والنبات منها ومن أجزاء الإنسان التي دفنت فيها
وانحلت. فإذا أكل إنسان آخر من هذه الأشجار والنباتات أو من الحيوانات التي
تأكلها استحالت إلى جسمه ودخل في تركيبه بعض موادّ مما كانت في جسم الإنسان
الأول، ومن ذلك تعلم أن مادة الإنسان تشترك معه ومع غيره فلا يمكن إعادته بها
وإلا لَمَا أمكن إعادة من اشترك معه فيها.
ومِن جهة أخرى قد ثبت أن جسم الإنسان دائمًا في تبدل وتغير، فإذا أعيد
بجميع مادته التي كان بها في الدنيا كان جسمًا عظيمًا كبيرًا جدًّا وهو خلاف المنتظر
والمألوف.
هذان الاعتراضان هما أكبر ما يقال للتشكيك في البعث الجسماني , ونجيب
عنهما بأن المسلم لا يجب أن يعتقد أن جميع ما دخل في جسمه من المواد في الدنيا
لا بُدَّ من إعادتها، ولا أنه لا بُدَّ من إعادته بجسمه الدنيوي لا بغيره، بل الواجب
عليه أن يعتقد بأن البعث رُوحَاني جسماني، وأن جسمه قد يكون فيه شيء من المادة
التي كانت له في الدنيا، وقد لا يكون فيه شيء من ذلك، فإن مادته الدنيوية إذا
دخلت في غيره فأعيد بها فلا يمكن إعادته هو أيضًا بها وهو أمر بديهي لا يحتاج
لِقِيلَ وقَالَ، فإن الإنسان لا يتوقف تحقق وجوده على هذه المادة التي هي لجوهره
وروحه كالثوب للبدن؛ ولذلك ترى أنه في الدنيا يتبدل ويتغير مع أن حقيقته هي
هي، فالمعول على روحه لا على مادته، ولذلك قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ} (النساء: ٥٦) وهو صريح في أن
المعول عليه هو نفوسهم وأرواحهم لا أجسامهم المتبدلة المتغيرة , ولا ينافي ذلك قوله
تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} (القيامة: ٣) فإن الألف واللام
في الإنسان هي للجنس، والمعنى: أيظن الإنسانُ أنْ لَنْ يجمعَ اللهُ عظامَ الجنس
البشري يومَ القيامة , ويخلق منها الأشخاص؟ فهو ليس نصًّا في أن كل مادة لأي
فرد إذا كانت مما دخل في غيره , وأُعِيد بها فلا بُدَّ من إعادته هو أيضًا بها، بل إن
الله سيعيد أجسام البشر من المواد التي كانوا بها في الدنيا ولا يمنع ذلك من إضافة
جزء من مادة جديدة عليها، وكذلك لا يستلزم أن كل مادة دخلت في جسم في هذه
الدنيا لا بُدَّ أن ترجع إليه في الآخرة , وإلاَّ لَلَزم أنْ يكونَ للمادة الواحدة عدة محال
تقوم بها , وهو محال وليس في عبارات القرآن ما يؤدي إليه , بل غاية ما يفهم منه
أن الله سيركب أجسام البشر من المواد التي ركبت منها في الدنيا، فإن لم تكف فلا
مانع من إضافة مادة جديدة عليها ثم إنه سيعيد المواد إلى أصحابها الذين كانوا بها في
الدنيا بقدر الإمكان , فإذا كانت مما تداخل في عدة أشخاص اكتفى بإعادتها إلى
شخص واحد منهم. فإن الغرض إعادة الأرواح إلى أي جسم لا إلى جسم معين كما
يدل عليه قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} (النساء: ٥٦) كما تقدم ولا ينافي ذلك
أيضًا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: ٧٨-٧٩) , فإننا
لا ننكر أن الله سيُحيي عظام البشر الرميمة , ولا ننكر أنه عالم بجميع أنواع الخلق
وطرقه، وأنه عالم بجميع الأشخاص الذين دخلت في أجسامهم أي مادة معينة، فهو
تعالى سيحيي الميت ويرد كل مادة إلى صاحبها الذي يعلمه. ولا يخرج في ذلك عن
الممكنات , فإنه لا يأتي المستحيلات ولم يقل القرآن: إنه سيأتي شيئًا مستحيلاً.
أمّا شهادةُ أعضاء الإنسان التي كانت له في الدنيا عليه في الآخرة كما جاء به
القرآن الشريف فهي ليست مستحيلةً، فإن مادة هذه الأعضاء التي اقترف بها الآثام
في الدنيا يجوز عقلاً أن تنطق بذلك , وتشهد به عليه سواء كانت معادة في جسمه أو
في جسم غيره. فكأن مادة هذه الأعضاء ستقوم بالشهادة على جميع الأشخاص الذين
اقترفوا بها الآثام في الدنيا، وإن كانت هذه المادة قائمة بشخص واحد منهم يوم
القيامة [٤] . ومن لا يضع عقله في دائرة الأمور الضيقة أمكنه التسليم بذلك، فإنه
من المعقول أن تشهد المادة بجميع ما عملته في الأشخاص المختلفة؛ فيعذب الله
نفوسهم على ما عملته , وهي قائمة في أي مادّة كانت.
وهناك طريق آخر في الرَّدِّ على هذه الشبهة. وهذا الطريق هو ما جرى عليه
قدماء علماء الكلام. وتقريره أننا نشاهد أن جسم الإنسان هو دائمًا في تبدّل وتغيّر؛
فتراه أولاً صغيرًا , ثم يكبر شيئًا فشيئًا , وينتقل من سمن إلى نحافة , ومن نحافة
إلى سمن , وفي جميع هذه الأطوار والأحوال ذات الشخص وحقيقته واحدة لا تتبدل
ولا تتغير , فالشخص الصغير هو هو بعينه الكبير، والنحيف هو السمين وبالعكس؛
إِذْ لا بُدَّ أنْ يكونَ في جسم الإنسان شيئان: مادة أصلية؛ ومادة فرعية. فالمادة
الأصلية هي التي تبقى فيه مِن أول نشأته إلى آخر حياته , لا تتبدل ولا تتغير،
وهي التي بها تتحقق شخصيته وفيها تنتقل الأمراض الوراثية والاستعدادات
والأخلاق والصفات من الآباء إلى الأبناء. ولا ينافي ذلك ما ثبت في علم
الفسيولوجيا الآن من التغيرات الكيماوية الحيوية التي تحصل في خلايا الأجسام
الحية , فإننا لا يمكننا أن نثبت باليقين أن جميع الذرات التي تتركب منها الخلايا
الحية تتبدل وتتغير إِذْ يجوز أنْ يكونَ التبدل والتغير حاصلاً لبعض الذّرّات دون
البعض , ولِمَا انْضَمّ إليها من المواد الغذائية أي أن كل خلية فيها جزء ثابت
وجزء متغير. وعليه فالغالب أن بعض مادة الإنسان تكونَ ثابتةً مِن أول حياته
إلى آخرها , ولا يمنع ذلك مِن انضمام أجزاء أخرى إليها تصير ثابتة مثلها , ولها
من الخواص ما لها وهذه الأجزاء تأتي إليها من طريق الغذاء ومجموع هذه المادة
الثابتة هي ما نسميه (المادة الأصلية) , وأما المادة الفرعية فهي التي تتبدل وتتغير
ولا عِبْرَةَ بها في تحقق شخص الإنسان.
فإذا مات شخص وانحل جسمه فتغذت به النباتات فالحيوانات حفظ الإله القدير
العليم المادةَ الأصلية له من أنْ تكونَ مادة أصلية لشخص آخر , وإنْ كانَ يجوز أن
تدخل في جسم الآخر وتصير مادة فرعية له لا يتوقف عليها تحقق شخصه، وأما
المادة الفرعية فقد تصير للثاني مادة أصلية بانضمامها إلى أجزائه الثابتة , واكتسابها
خواص منها إنْ كانَ الشخص في طَوْر النمو. وعليه فالمادة الأصلية لكل شخص
تبقى له وحده إلى يوم القيامة، وإن كانت تدخل في غيره على أنها فرعية له.
وبذلك يكون البعث الجسماني ممكنًا؛ لأن هذا الغرض جائز ولا يوجد في العلم
الطبيعي ولا العقل ما يثبت استحالته.
والفرق بين هذا الطريق والطريق الأول أننا في الأول نسلم تغير وتبدل جميع
مادة الإنسان، وأما في الثاني فنقول: إن التغير والتبدل حاصل لبعض مادة الإنسان
دون البعض. والطريق الأول أقرب إلى ظاهر نواميس الوجود , والثاني أقرب إلى
ظاهر الآيات القرآنية الشريفة. وكِلاَ الطريقين معقول ولا يوجد في العلوم الطبيعية
شيء مقطوع به ينافيهما. ولا في آيات الكتاب ما لا يلتئم معهما والله أعلم.
إلى هنا أمسك بالقلم عن الجولان في ميدان الطُّرُوس، فقد زالت الشبهات،
وتجلت آيات الكتاب بجمالها كالعروس، وحصحص الحق، وظهر الصدق، فقطع
ألسنة الكاذبين، وبهر عقول الناظرين، وإن في هذا الكتاب لآيات للمؤمنين، وإنه
لَتَنْزِيل رَبّ العالمين، وليعلمنّ نبأه بعد حين.
* * *
الخاتمة
(في ذكر آيات علمية من القرآن)
قلنا: إن القرآن الشريف لم يَأْتِ لتعليم الناس شيئًا من العلوم الطبيعية، ولكن
مع ذلك لم تخلُ آياتُه مِن التعبيرات الدقيقة العلمية , ولا مِن الإشارة إلى حقائق
كثيرة من المسائل الطبيعية , مما يدل على أنه تنزيل العليم الحكيم، فإن هذه
المسائل ما كانت معروفة لأحد في زمنه، ولا يمكن لعربي أُمِّيٍّ في ذلك الوقت أن
يقف عليها لولا وَحْيُ الله. ولنذكر هنا شيئًا من هذه الآيات المشتملة على التعبيرات
الدقيقة والمسائل العلمية الطبيعية.
(١) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: ٥٧) , وقال أيضًا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: ٤٣-٤٤) وفيه إشارة إلى أن البرق يتولد من السحاب
وقوله: {مِن جِبَالٍ فِيهَا} (النور: ٤٣) هو تشبيه لِقِطَعِ السحاب العظيمة بالجبال
لما بينهما من التشابه في الشكل وعدم الانتظام وعِظَم الحَجْم كما شبه أمواج الماء
بالجبال في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} (هود: ٤٢) .
(٢) [٥] قال تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: ٨٨) , وهو صريح
في حركة الأرض. وليس ذلك في شأن القيامة، فإن قوله: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: ٨٨) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة. وقال أيضًا:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: ١-٤) وهو أيضًا يشير إلى حركة الأرض.
(٣) [٦] قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: ٣٠) وهو
صريح في أن الأرض والكواكب كانت شيئًا واحدًا ثم انفصل بعضها عن بعض،
وهو كقول العلماء الطبيعيين إنها كلها أجزاء انفصلت عن الشمس وكانت ملتهبة
فصارت تبرد شيئًا فشيئًا وإلى ذلك يشير القرآن بقوله أيضًا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) أي وهي ذات دخان لالتهاب أجزائها ولكون أكثرها في الحالة
الغازيّة.
(٤) قال الله تعالى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: ٣) وهو صريح في أن الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وهو أمر لم
يعرف إلا مِن عهد قريب. والقرآن نفسه هو الذي فسر الزوجين بذلك في آية أخرى
بقوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (النجم: ٤٥) .
(٥) قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: ٢٢) أي
ملقحات للأشجار.
(٦) قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا
آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (الإسراء: ١٢) وهو يشير إلى أن القمر وهو {آيَةَ النَّهَارِ} (الإسراء: ١٢)
مظلم لذاته.
(٧) قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: ٣٧-٤٠) .
(٨) [٧] قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ} (الزمر: ٢١) الآية.
فقل لي بأبيك؛ أيُّ عربيٍّ أُمِّيٍّ يعْرِف هذه المسائل أو تخطر له على بال ,
وخصوصًا في تلك الأزمان التي كان فيها أعلم العلماء في أرقى البلاد يجهل بعض
هذه الحقائق المذكورة في القرآن كدوران الأرض، وكون جميع السيارات منفصلة
عن أصل واحد، وأنها كانت دُخَانًا. وأنّ الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وأن
الرياح هي التي تلقحها إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبيعية. وكلها
دلائل على أن هذا الكتاب ليس مِن صُنْع البشر بل هو تنزيل مِن الله العليم الحكيم.
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي