للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسطول الفرنساوي
لمَّا علمنا بطواف هذا الأسطول بسواحل سوريا خطر لنا أن ذلك لغرض
سياسي، ثم جاءتنا الأنباء بزيارة أميره الأميرال فونيه للبطرك الماروني في جونيه
عُظمى حواضر البحر في لبنان، وما كان له من الحفاوة والإجلال من اللبنانين،
وإنه لما ألمّ الأسطول بحاضرة طرابلس الشام انحدر أهالي زغرتا نساء ورجالاً إليها،
وزاروا الأسطول جميعًا، ورحبوا بمن فيه أعجب ترحيب ... ولا بد أن يكون
هذا عن تواطؤ ومداولات، فقد مر على اللبنانين حين من الدهر، وهم إلى العثمانية
أقرب منهم إلى الفرنساوية ببركة سياسة طَيب الذكر رستم باشا ثم واصه باشا،
فاعتزازهم الآن واحتفالهم بالأسطول الحربي له شان نستلفت إليه دولة نعوم باشا ولا
بد أن يهتم له بقدر صدقة في خدمة دولته وسلطانه.
أول ماتبادر إلى الذهن في تعيين غرض فرنسا من هذه الحركة هو إيقاع
الدولة العلية في الوهم لتمنع الحملة العسكرية التي أرسلتها من طرابلس الغرب إلى
فزّان فوداي لتؤيد نفوذ الدولة في تلك البلاد حتى بحيرة شاد مما وقع في نفوذ فرنسا
بمقتضى معاهدتها الأخيرة مع إنكلترا، ثم جاءنا بريد أوروبا ببيان آخر، وهو أن
فرنسا وروسيا تريدان فتح باب المسألة المصرية وإخراج الإنكليز من مصر
مغتنمتين فرصة اشتغال إنكلترا بالحرب في أفريقيا، وإن فتح الباب ربما يكون
باحتلال الفرنساويين إحدى المواني السورية، ونحن نعلم أن فرنسا ما منعها ولا
يمنعها من التعدي على سوريا إلا الخوف من معارضة إنكلترا، ومع هذا نقول: إن
التعدي على سوريا هو فتح لباب المسألة الشرقية الكبرى، لا المصرية فقط، وإلا
فإن كان المراد إخراج الإنكليز من مصر كما قيل، فليكن العمل في مصر إما معنويًّا
وإما حسيًّا، وبموافقة السلطان صاحب مصر، هذا، ولعل ما باحت به الجرائد من
إظهار مولانا السلطان الأعظم الميل إلى الإنكليز في الحرب الحاضرة من دون سائر
ملوك أوروبا هو مبني على تنسم الغدر من فرنسا وروسيا، ولقد كان منع مولانا -
أيده الله- الأسطول من الدخول في مضيق الدردنيل من السياسة المثلى، ومن الناس
من يظن أن فرنسا وروسيا تحبان الاتفاق مع الدولة العلية في شأن مصر، وأن
اجتماع الأميرال فورنيه بجلالة السلطان، ثم سفره في باخرة السفير إلى روسيا
إنما هو لهذه المهمة، وكل هذا من التصورات التي يكشف حقيقتها المستقبل، والله بكل شيء عليم.
صدرت إرادة مولانا السلطان الأعظم بايصاء معمل كروب في ألمانيا بأن
يعمل له مائة وثمانية من الدافع السريعة الرمي، كالذي أهداه إليه إمبراطور ألمانيا
في العام الماضي، وأيضًا معمل كروب في فيلاد لفيا من الولايات المتحدة بسفينة
حربية من نوع الطراد ثمنها ستمائة ألف جنيه.
أقر مجلس الوكلاء على إعطاء امتياز سكة حديد بغداد لشركة سكة حديد
الأناضول الألمانية، وصدرت الإدارة السلطانية بإعطائها حق إنشاء خط من قونيه
إلى البصرة مارًّا في بغداد، وتكفلت الشركة بمده في ثماني سنين واشترطت
عليها الدولة أن تبتاعه منها متى شاءت.
التمس حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين سند من فضيلة شيخ الجامع الأزهر
أن يختار أربعة من أفاضل العلماء للوعظ والإرشاد في أربعة مساجد متفرقة من
مساجد القاهرة، على أن الجمعية تدفع لكل منهم ثمانين قرشًا في الشهر من صندوقها،
فأجاب ملتمسه مع الثناء والشكر، وعهد إلى أربعة من أكابر الشيوخ بذلك، فنثني
على جمعية (مكارم الأخلاق) أحسن الثناء على هذا السعي الحميد، وهنا نذكر أننا
كنا قد التمسنا في (المنار) من شيوخ الأزهر أن يشغلوا بمثل هذا العمل كل جوامع
المدينة لأنه أهم وأفضل ما يطلب منهم في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، فلم يُجب
طلبنا أحد، ولما علمنا أنهم أجابوا الدعوة المقرونة بقليل من المال تذكرنا ما قاله لنا
فيهم كثير من عقلاء المصريين غير مرة مما لا نذكره رعاية لحرمتهم، ونعذر من
يأخذ على عمله أجرًا من جمعية خيرية إذا كان محتاجًا إليه، ومع ذلك نقول أيضًا:
إن فيهم من يريد الآخرة، كما أن فيهم من يريد الدنيا، وإن النداء الأول ربما لم
يبلغ مريدي الآخرة، وربما يكون قد لبّى النداء بعضهم من حيث لا ندري، وعسى
أن ينبري مَن عساه يوجد فيهم من المخلصين الملتهبين غيرة على الأمة،
والدين فيزينون سائر المساجد بوعظهم وهديهم مراعين ماتمس إليه الحاجة مقدّمين
الأهم على المهم، والله الموفق.