غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر. سلام الله عليكم ورحمته، ولا زلتم في نعيم مقيم. سيدي: من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم، ومحاكمة ابن حجر فيما قاله، حتى يتبين الرشد من الغي. وهنا تجد أكثر الجامدين من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار؛ لكونه ينقل عن ابن تيمية، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه، حيث يقول: (عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله) . وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت. نعم، ربما أنه سبق لحضرتكم كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة (لأن مثل هذا مما لا يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة) . ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام، وكثير منهم لم يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر. فهل لسيدي نقل بعض أقوالهم؟ ولكم من الله جزيل الفضل، ومنا الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. س ... ... ... ... ... ... ... ... ... (دلي - سمطرا) (المنار) لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي. ويغلب على ظننا أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية، وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره، فأنكر ذلك عليه، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره ودست فيه ضلالات كثيرة، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس المفسدين؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه. ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية، بما لم يثنوا بمثله على أحد، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق، ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل. ويعز على الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم، بل مَن دون أئمتهم ممن يجلون من الميتين، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا! . ولذلك ترى أن سبب قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية؛ هو إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره على سيبويه وتخطئته له , فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه , ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم، كما سيأتي. وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له، منها (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. ومنها (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) أي: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما نصه: (ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست مائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في التفسير وأفتى ودرَّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين. وكان يتوقد ذكاء، وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب. انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي. قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: هو من أهل الاستقراء التام في نقده الرجال، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ ابن ناصر الدين: ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه في العلم. وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث (كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين) ، وفي حديث (كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) ، حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا، أقرَّ له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا؟ وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة. وقال حافظ الإسلام، الحبر النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه.ا. هـ. وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين المستوعبين: أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي. وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع به وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك , وقال أيضًا: رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. ذكره الحافظ المذكور. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي: وبالجملة كان - رحمه الله تعالى- من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لُجِّيٍّ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وآله وسلم. وما قاله في غاية الحسن، والحافظ المذكور ثقة حجة باتفاق، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله عنه الشيخ تقي الدين الحصني. نعم، كان يقول: يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك، فلم يتفرد به كما هو مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم. (فإن قلت) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ رتبة الاجتهاد، وأنى له بهذه المرتبة، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل! ! (قلت) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر، كما سيأتي، والحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى. وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه: ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا؛ بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا أفتى بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه - رحمه الله - من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر، بل من أطلق على من سماه بشيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك، فإنه شيخ الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبرئ منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه؛ أي كمسألة الزيارة والطلاق، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك، وكذا الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح، ويثني عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى - فيما كتبه على الكتاب المذكور: ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه، وللشيخ تقي الدين بن تيمية، وللشيخ شمس الدين أبى عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها، ولو كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له. نعم، وقد ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه، وانتصب للرد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلا منهما بتصنيف، وليس في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً (وكل أحد يؤخذ من قوله أو يترك إلا صاحب هذا القبر) [١] والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر ذلك تهورًا وعدوانًا - حاش لله - بل لعله لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إلى الآن بعد التروي والفحص على شيء يقتضي كفره ولا زندقته. وإنما وقفت على ما رده على أهل البدع والأهواء أو غير ذلك مما يظن به براءة الرجل، وعلى مرتبته في العلم والدين. وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا - وفي رواية - حق كبيرنا) وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر، ولم يكن ذلك فيه. انتهى قلت: وسنذكر- إن شاء الله تعالى - قريبًا ما يكون صريحًا في تنزيهه عما نسب إليه من التشبيه والتجسيم. وقال قاضي القضاة عبد الله التهفتي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي، فيما كتبه على الكتاب المذكور: إن الشيخ تقي الدين كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه وما اطلعنا عليه من كلام تلميذه ابن قيم الجوزية الذي صارت تصانيفه في الآفاق عالمًا متعنيًا، مقللاً من الدنيا، معرضًا عنها، متمكنًا من إقامة الأدلة على الخصوم وحافظًا للسنة، عارفًا بطرقها، عارفًا بالأصلَيْن: أصول الدين وأصول الفقه، قادرًا على الاستنباط في تخريج المعاني، لا يلومه (لعله لا تأخذه) في الله لومة لائم، على أهل البدع: المجسمة والحلولية والمعتزلة والروافض وغيرهم. (قال) فمن كان متصفًا بهذه الأوصاف كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، بأي معنًى أريد منه! ! ؟ (قال) : وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق وقضية من قام عليه شهوده، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان، وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطئ فيها مجتهد يثاب، لا يكفر ولا يفسق ... إلخ ما قال. وقال شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتب على الكتاب المذكور: وما هم أي المنكرون على ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلعمة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهيّ بن بيّ، وضل بن ضل، وضلال بن التلال. ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شمّ عرانين الأفاضل، ومن جمّ براهين الأماثل، (قال) : وهو الذابّ عن الدين، طعن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين، وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف ذلك؟ وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق. ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي الزيارة والطلاق، عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب، وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب. (قال) : ولا ريب أنه كان شيخًا لجماعة من علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كان كذلك، كيف لا يطلق عليه شيخ الإسلام؛ لأن من كان شيخًا للمسلمين يكون شيخًا للإسلام. وقال شيخ الإسلام البساطي المالكي: وأما قول من قال إنه - يعني ابن تيمية - كافر، وإن من قال في حقه إنه شيخ الإسلام كافر - فهذه مقالة تقشعر لسماعها الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين بها ويشمت، وينشرح بها أفئدة المخالفين وتسمت، ثم يقال: كيف لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي هذا في حقه، فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلمة المتناولة لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة؟ وهل يمكنك أن تدعي أن الكل اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه؟ وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببني الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل، ويقال له: لم قلت؟ وما وجه ذلك؟ فإن أتى بوجه لا يخرج به شرعًا عن العهدة بأن كان واهيًا، برح به تبريحًا يردع أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين.اهـ (قلت) : فتأمل - رعاك الله - كلام هؤلاء الأعلام في مدح هذا الإمام، فكيف ينسب إلى بدعة التجسيم، أو يعاب بشيء غير ذلك أو يلام! .
(المنار) هذا ما أورده الشيخ صفي الدين الحنفي البخاري في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه: (القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) ويليه فصل في عقيدته التي هي عقيدة سلف الأمة: أهل السنة والجماعة، رضي الله عنهم. وأما السيد نعمان خير الدين الآلوسي فقد جاء في كتابة: (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) بترجمة أوسع، وأكثر نقلاً عن كبار العلماء والحفاظ في الثناء عليه، والاعتراف له بمشيخة الإسلام. قال بعد ترجمة بليغة ملخصة من كلام طائفة من الحفاظ والمؤرخين ما نصه: قال الذهبي: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد. وترجمه في معجم شيوخه بترجمة طويلة منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال ميال، واستنبط منها أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، أتقن العربية أصولاً وفروعًا. ونظر في العقليات، وعرف أفعال المتكلمين ورد عليهم، ونبه على خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين وأُوذي في ذات الله من المخالفين، أخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيا به الشام بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة التتار، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام؛ أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت اهـ. وقال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة سبع مئة وأربع، راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه. فحُسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه اهـ. قيل: من جملة أسباب حبسه؛ خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة، فلقي عليه أعداؤه طريقًا من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك. وكتب الشيخ كمال الدين الزملكاني: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. (قلت) : ورأيت في نثر الدر الذائب في الأفراد والغرائب، من كتاب الأشباه والنظائر النحوية للإمام السيوطي- عليه الرحمة - ما نصه: جواب سؤال سائل عن (لو) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبدعين، ذي العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة، ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني أعلى اللهُ تعالى مناره، وشيّد من الدين أركانه: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنواره أربت على الفجر نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ: كمال الدين ابن الزملكاني: بسم الله الرحمن الرحيم نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلي قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الورع، إمام الأئمة، خير الأمة، مفتي الفِرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، ناصر السنة قامع البدعة: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته: الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الباهر البرهان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن، سألت - وفقك الله تعالى - عن معنى حرف (لو) ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه) على معناها المعروف، وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك، فأقول. اهـ بحروفه. ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقر المترجم على ترجمته، فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر [٢] . وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على أبناء جنسه، ولا رأت عيني مثل نفسه. وقال ابن الوردي في تاريخه، وقد عاصره ورآه: وكانت له خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. ولكن الإحاطة لله، تعالى. غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم إليه. وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة، نحوًا من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلد. وله الباع الطويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة. وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام (عليه) الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء , وصار بينه وبين معاصريه واقعات مصرية وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية واجتمع بالسلطان محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن، ولم يهبه، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف، أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه اهـ ملخصًا وأطال في ترجمته. وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي في حقه، بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فوالله ثم والله، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية: علمًا وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا وقيامًا، في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، أنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ. ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ ابن تيمية بعد اجتماعه به، كيف رأيته؟ قال: (رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها، ويترك ما شاء) فقيل له لم تتناظران؟ قال: (لأنه يحب الكلام وأحب السكوت) . وقال ابن مفلح في طبقاته: كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره، وزخارة بحره، وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له القاضي الحنفي ونصره، وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر بن المنجي؛ لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه على ذلك، فما أعجبه؛ لكونه بالغ في الحط على ابن عربي وتكفيره، فصار هو يحط على ابن تيمية، ويغري (به) بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الحريري انتصر للشيخ ابن تيمية، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها (إنه منذ ثلاثمائة ما رأى الناس مثله) اهـ. ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا أبو حيان المفسر، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي: لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر على محياه من سيما الأُلى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حبر تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تَقاذفُ من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيمٍ إذ مضت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر يشير بهذا إلى أنه المجدد , وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي , ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر (ويقال) : إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا، ما تفهمها أنت , فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في تفسيره البحر بكل سوء، وكذا في مختصره النهر اهـ. وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا علية بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات وتجنبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريق السلف الصالح، وأنه لم يتزوج حتى مات، وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت. وقد ذكر نبذة من اختباراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مائة وخمس وتسعين في طبقاته، وفصل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه. وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين سَحَر ليلة الاثنين، عاشر ذي القعدة الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا لم يعهد بدمشق مثله، وبكى الناس بكاء شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا. وحزر من حضر جنازته بمئتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا، وختمت له ختمات كثيرة، ورثي بقصائد بليغة. (المنار) بعد أن أورد المؤلف هنا مرثية الشيخ عمر بن الوردي، إحدى تلك المراثي التي يشنع فيها على من آذوه وحبسوه، قال: (قلت) : ومازال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله- تعالى- ويصبرون، وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السابقة يقتلون ويحرقون، ويُنْشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه، ولولا كراهة التطويل لذكرت من ذلك ما يطول، وقد سُمَّ أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي وسُمَّ الحسن وقتل الحسين وابن الزبير وصلب خبيب بن عدي. وقتل الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقتل زيد بن علي. وأما من ضرب من كبار العلماء فكثيرون منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج أربعمائة سوط ثم قتله، وسعيد بن المسيب ضربه عبد الملك بن مروان مائة سوط، وصب عليه جرة ماء في يوم شات، وألبس جبة صوف، وخبيب بن عبد الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط؛ وذلك أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً) فكان عمر إذا قيل (أبشر) قال: (كيف بخبيب على الطريق) وأبو عمرو بن العلاء ضربه بنو أمية خمسمائة سوط، والإمام موسى الكاظم سجنه هارون حتى مات، والإمام أبو حنيفة توفي في السجن بعد أن ضرب وقيل أوُجِرَ سمًّا، والإمام مالك بن أنس ضربه المنصور أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره، وكان مالك يقول لا يلزمه اليمين. والإمام أحمد امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس، وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء الأئمة أسوة. ولو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مللت - ملول، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد. (المنار) وعقد بعد هذا فصلاً في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين المتأخرين عليه. فنقل عن صوفي الفقهاء وفقيه الصوفية الشيخ إبراهيم الكوراني المدني الشافعي وعن علامة العراق الشيخ علي السويدي البغدادي الشافعي، وعن والده السيد محمد الآلوسي المفتي، وعن عالم بلد الله الحرام المنلا علي الهروي، وعن أمير العلماء وعالم الأمراء أبي الطيب حسن صديق خان الحسيني البخاري. ثم عقد فصولاً أخرى ذكر فيها كل ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي، وبيَّن الحق فيه، فليراجعه من شاء. فمن اشتبه في مسألة معينة من المسائل التي انتقدت على ابن تيمية، ولم يتمكن من مراجعتها في كتاب جلاء العينين، أو راجعها وبقي في نفسه شبهة منها، فله أن يسألنا عنها إن أحب. وإننا كنا نعتقد أن ابن تيمية وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، قبل أن نطلع على قول العلماء في ذلك، بل نعتقد أنه لا نظير له في علماء الإسلام قط إلا تلميذه ووارث علومه ابن قيم الجوزية، رحمهما الله تعالى ونفع المسلمين بعلومهما.