للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

طريقة إبراهيم الرشيدي
(س٢٠) من أحد المشتركين في سنغافوره:
نبعث بهذه الأسطر لحضرة فذلكة العلوم والمعارف، صاحب المنار الأغر لا
زال منار الدين به مشيدًا، وهو:
إنه نَجَمَ في هذه الأطراف طائفة تزعم أنها على طريقة الشيخ إبراهيم
الرشيدي , ويقيمون في المساجد أذكارًا بلفظ الجلالة برفع صوت جدًّا , ويشوشون
على من هناك من المصلين , ويلقبون أنفسهم بمجاذيب , وينشدون خلال ذلك
أشعارًا من كلام الصوفية لا يعرفون معناها. وفي يوم الجمعة في أثناء صلاتها
تحصل منهم زعقات هائلة بلفظ (الله الله) ويجيب بعضهم بعضًا بذلك بحيث إذا
زعق أحدهم؛ تلاه الباقون بهذه الزعقات الشديدة المزعجة لمن في المسجد في وقت
صلاتهم الجمعة, ويحصل للمصلين تشوش منهم , وإذا نُهوا عن ذلك أجابوا أن
الناهي لهم من فريق {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة: ٣٢) !
وبأنهم إنما يزعقون في حالة الغيبة مستندين إلى ما في كتب الصوفية من أن المريد
إذا غلب على قلبه ذكر الباطن وضاقت أنفاسه منه بما خرج على ظاهره فيزعق
بلفظ (الله) , وإذا قاموا للذكر ليلاً وارتفعت أصواتهم بذلك ربما سقط بعضهم
مغشيًا عليه ذكرًا كان أم أنثى , وذلك بعد أن يشير الخليفة عليهم بخرقة في يديه
ويقول لهم: (أشّ) ثم يخر أحدهم مغشيًا عليه فيفيق بعد ذلك ويقول: شاهدت في
غيبتي أحمد بن إدريس وشاهدت ... إلى ما لا نطيل بذِكره. فهل هذا مما عُهِدَ في
أحد القرون الثلاثة الممدوحة أو هو مما أمر به الشارع أو السلف الصالح؟ وهل
يجب على ولاة الأمور المنع من مثل هذا؛ إذ ولي الأمر هنا لم يُقْدِمْ على منعهم
ظنًّا منه أنه مطلوب شرعًا؟ ! وإذا نُشر في المنار حكم ذلك شرعًا فولي الأمر لا
يتأخر عن حملهم على ما يحكم به الأستاذ في المنار من المنع أو الإمرار , فأدركونا
بما فيه حياة الدين والدنيا، لا زلتم عمدة لنفع المسلمين والله يحفظكم لنا أفندم.
(ج) في هذا السؤال مسائل:
(أحدها) الذكر بأسماء الله تعالى مفردة كما عليه أهل الطريق في هذا
العصر كقولهم: الله الله.. حي حي.. أو بالضمير كقولهم: هو هو.. وهذا من
البدع التي حدثت بعد الصدر الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة العبودية ما نصه، بعد أن أورد ما ورد
في الحديث من أن (أفضل الذكر لا إله إلا الله) كما رواه الترمذي وغيره أو (لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما
رواه مالك في الموطأ:
(ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر
خاصة الخاصة المضمر فهم ضالون غالطون , واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله:
{.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: ٩١) من أبين غلط هؤلاء؛
فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام , وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى..} (الأنعام: ٩١) فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه
الاستفهام كما في نظائر ذلك يقال: مَن جاء؟ فتقول: زيد. وأما الاسم المفرد
مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا
أمر ولا نهي , ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعًا وإنما يعطيه قصورًا
مطلقًا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد
بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة , والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما
تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد،
وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: (أخاف أن أموت بين النفي والإثبات)
- حال لا يُقتدى فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء فيه، إذ لو مات
العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه؛ إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت (يعني المحتضر) لا إله إلا الله وقال:
(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن
الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من
ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المفرد المضمر أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى
إضلال الشيطان , فإن من قال: يا هو يا هو أو هو هو ونحو ذلك لم يكن الضمير
عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه , والقلب قد يهتدي وقد يضل. وقد صنف صاحب
الفصوص كتابًا سماه (الهو) ! وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: ٧) معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو (الهو) إلا الله ,
وقيل هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل , فقد
يظن ذلك من يظنه من هؤلاء (صوابًا) حتى قلت مرة لبعض من قال بشيء من
ذلك: لو كان هذا كما قلته لكُتبت: (وما يعلم تأويل هو) منفصلة.
ثم كثيرًا ما يذكره بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل (الله) بقوله
سبحانه: {.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام: ٩١) ، ويظن أن الله أمر نبيه بأن
يقول الاسم المفرد , وهذا غلط باتفاق أهل العلم؛ فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: ٩١) معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهذا جواب
لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: ٩١) : أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من
قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ..} (الأنعام: ٩١) [*] فقال: مَن أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى؟ ثم قال: قل: الله أنزله , ثم ذر هؤلاء المكذبين في
خوضهم يلعبون.
ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون
بالقول ما كان كلامًا ولا يحكون به ما كان قولاً ,فالقول لا يحكى به إلا كلام تام
جملة اسمية أو فعلية؛ ولهذا يكسرون (إن) إذا جاءت بعد القول؛ فالقول لا يحكى
به اسم , والله تعالى لم يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد , ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا
مجردًا , والاسم المفرد المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام ولا يؤمر به في
شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن
يقول: أشهد أن محمدًا (رسولَ) الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ ! ، هذا
الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟ ! .
وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:
٨) وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: ١) وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن
تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: ١٤-١٥) وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
العَظِيمِ} (الواقعة: ٧٤) .. ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا , بل في السنن أنه
لما نزل قول: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} (الواقعة: ٧٤) قال: (اجعلوها في
ركوعكم) ، ولما نزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: ١) قال:
(اجعلوها في سجودكم) [١] فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم ,
وفي السجود: سبحان ربي الأعلى , وفي الصحيح [٢] أنه كان يقول في ركوعه:
سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى , وهذا معنى: اجعلوها في
ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين..) إلخ ما أطال به رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية) التشويش على المصلين محظور عند جميع العلماء؛ سواء
كان بذكر أو تلاوة قرآن، أو قراءة علم أو بغير ذلك؛ فإن المساجد إنما تُبنَى للصلاة
فهي المقصودة بالذات , فيجب منع التشويش على المصلين، وإن كان بمشروع،
فكيف إذا كان بأمر غير مشروع مما يطلب منعه لذاته وإن لم يشوش على مصلٍّ؟
ولا أراني محتاجًا في هذه المسألة إلى نقل؛ لأنه لا ينازع فيه أحد , ومن أراد النقول
فليرجع إلى الجزء الأول من المجلد السادس، ومنه حديث أبي سعيد الخدري عند أبي
داود وأقوال الفقهاء في تقريظ كتاب إصابة السهام (٣٤: ٦) .
(المسألة الثالثة: المجاذيب) اعلم أن ما يسميه الصوفية بالجذب هو من
الأحوال التي لا يعرف منها أهل الطريق في هذا العصر إلا أنه ضرب من البله أو
التباله والخروج عن الآداب الشرعية والعرفية. الجذب في الحقيقة حال تطرأ على
الإنسان وهو متوجه إلى الله بالذكر والفكر فتأخذه عن نفسه وتبطل ميزان العقل في
الأقوال والأفعال , فهو فن من فنون الجنون يحدث في حالة مخصوصة وقد يحدث
من غير سبق الأعمال الاختيارية التي تؤدي إليه غالبًا إذا ما كان مَنْ يأتيها مستعدًا له , وهي الخلوة وكثرة الذكر فيه مع الجوع وقلة النوم لا سيما إذا كان الذكر
بالأسماء المفردة.
وهذا الفن من الجنون كغيره يكون متقطعًا يجيء نوبة بعد نوبة , ويكون
مطبقًا , ويكون قويًّا وضعيفًا، وصاحبه غير مكلف ما دام مأخوذًا عن عقله فإذا
كان يأتي بأقوال أو أفعال تشوش على المصلين وجب أن يمنع من دخول المسجد ,
وقد جاء في الحديث: (جَنِّبُوا مساجدنا - وفي رواية: مساجدكم - صبيانكم
ومجانينكم) .. إلخ رواه ابن ماجه من حديث واثلة، وكذلك ابن عدي والطبراني
والبيهقي وابن عساكر عنه وعن غيره. وإذا كان التشويش على المصلين بنحو رفع
الصوت كان مما يمنع منه العاقل فكيف يباح لغيره ممن يشوش بقاله وحاله؟ !
(المسألة الرابعة: الزعقات) هذه الزعقات والصيحات عند الذكر أو التلاوة
ليست من الدين في شيء لم يأذن بها الله ولا رسوله ولم تعرف عن الصحابة لكن
من الناس من يكون رقيق الوجدان شديد التأثر بما يهم نفسه , فإذا كان عابدًا وسمع
آية إنذار أو موعظة مأثورة أو عبرة يغلبه وجدانه ويظهر عليه أثر الانفعال في
وجهه وربما صرخ وبكى! وإذا كان عاشقًا وسمع غناءً أو شعرًا يظهر عليه مثل
ذلك التأثر , وقد حكي عن بعض الصوفية الصادقين شيء من ذلك , فلما ذهب
التصوف وجاء هؤلاء المقلدون الأغبياء الجهلاء بأسرار النفوس، المحرومون من
الوجدان الرقيق، الذي يتأثر بالمعنى الدقيق - جعلوا كل همهم التقليد في الإشارات
والعبارات والكلمات كما بين ذلك حجة الإسلام وصاحب العوارف وغيرهما من
متصوفة القرون الوسطى فما بالك بأهل الطريق في عصرنا هذا. قال الإمام
الغَزالي في بيان أصناف المغترين من الأحياء:
(الصنف الثالث) المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرق
كثيرة (ففرقة منهم) وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي
والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم
وفي آدابهم ومراسهم واصطلاحاتهم، وفي أحوالهم الظاهرة من السماع والرقص
والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب
كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث إلى غير ذلك من
الشمائل والهيئات , فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيما ظنوا أنهم أيضًا صوفية
ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن
والظاهر من الآثام الخفية والجلية , وكل ذلك من أوائل منازل التصوف، ولو فرغوا
عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يحوموا قط حولها ,
ولم يسوموا أنفسهم شيئًا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ,
ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة , ويتحاسدون على النقير والقطمير , ويمزق
بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه وهؤلاء غرورهم ظاهر.
ثم ضرب لهم مثل العجوز تلبَس لباس الشجعان وتبرز إلى الميدان. ثم ذكر
فرقة المتشبهين بهم في الزي، وقال بعد ذلك:
(وفرقة أخرى) ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات
والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصال إلى القرب , ولا يعرف هذه الأمور
إلا بالأسامي والألفاظ إلا أنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن
ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين , فهو ينظر إلى الفقهاء والمفكرين والمحدثين
بعين الازدراء فضلاً عن العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته
ويلازمهم أيامًا معدودة ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن
الوحي ويخبر عن سر الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العُباد:
إنهم أجراء متعبون، ويقول في العلماء: إنهم بالحديث عن الله محجوبون،
ويدَّعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار
المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، ولم يُحكِم قط علمًا , ولم
يهذب خلقًا , ولم يرتب عملاً , ولم يراقب قلبًا سوى اتباع الهوى وتلقُّف الهذيان
وحفظه.
(ثم قال بعد ذكر الفرقة التي وقعت في الإباحة) :
(وفرقة أخرى) جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلبت الحلال
واشتغلت بتفقد القلوب , وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا
والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها
(فمنهم) من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم أنه واله بالله , ولعله قد تخيل في
الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل معرفته , ثم إنه لا يخلو عن
مقارفة ما يكره الله عز وجل , وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله تعالى وليس
يدري أن كل ذلك يناقض الحب.. إلخ ما ذكره في ذلك.
أقول:إذا تدبر السائل هذا القليل من كثير مما كتب أئمة هذا الشأن في ذلك
علم أن المسئول عنهم لم يبلغوا في التصوف بعدُ مَدَى هؤلاء الذين أثبت الإمام
الغزالي غرورهم. وليعلم أن الوجد وما يتبعه من مثل الزعقات ببعض الناس،
إنما يكون بعد الحب , والحب لا يكون إلا بعد المعرفة , والمعرفة بالله لا تكون إلا
بالعلم بما جاء في كتابه وما مضت به سنة نبيه مع الإذعان والعمل النفسي والبدني،
هذه هي طريقة الصوفية , ومن علامة الصادق فيها أن لا يدعيها ولا يدافع عن
نفسه إذا أنكر عليه لا سيما إذا كان الإنكار انتصارًا للدين وحماية للشرع فكل مدّعٍ
كذاب , فقد دخلنا في هذه الأمور وجربناها وكنا نذكر الذكر الباطن مع النقشبندية ,
ومنهم من كان يزعق وكدت أقلدهم ولكنني علمت أن كل ذلك من وسائل الشهرة
الباطلة , ولو شاء هؤلاء أن لا يزعقوا لما زعقوا وكم من تائب منهم قد اعترف بما
كان اقترف , والله الموفق.
(المسألة الخامسة: الغيبة ومشاهدة الأرواح) قد شرحنا حقيقة مسألة رؤية
الأرواح التي عدّوها من أعظم الكرامات في المجلد السادس فلا نعيدها , وإنما نقول:
إن المدعين كاذبون مراءون باغون للشهرة , وأن دعاويهم هذه - إن صحت -
لا تكون من الدين في شيء؛ إذ لم يرد بها كتاب ولا سنة , ومَنْ أكثر من تذكُّر ميت
وتخيله يوشك أن يتمثل له وليس ذلك بأمر كبير. ومن علامة كذب المدعي في
دعواه أن يكون في حضوره وغيبته وصحوه وسكرته تابعًا لإشارة من الخليفة يبديها أو
كلمة يقولها.
وجملة القول: إن ما حكيتم عن هذه الفرقة مما تصان عنه المساجد فإن
صدقوا في دعوى التصوف فعليهم أن يخضعوا لآداب الشرع ويصدقوا في الاتباع
من غير انتصار لأنفسهم , وإن أبوا كان على المستطيع أن يمنعهم من كل فعل في
المسجد يشوش على المصلين ويشغلهم عن الخشوع في الصلاة ولو استعان على
ذلك بقوة الحكومة , والله أعلم وأحكم.
***
غيبة العلماء والعالم الذي لا يعمل بعلمه
(س٢١) مستفيد من (سنغافوره)
ما يقول المنار المنير في رجل أطرى عالمًا بسعة اطلاعه وجودة مدركه
ونحو ذلك , فقال آخر حسدًا لذلك العالم وجهلاً منه بحقيقة العلم: دعني من علم
أولئك الناس الذين ظهروا اليوم وَفَسَّقَ وَكَذَّبَ ... إلى أن استشهد ببيت ابن رسلان:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عابد الوثن
فقال له المُطرِي: مهلاً فإنك تعلم أن الغيبة حرام، فالبيت يصدق عليك فإنك لم
تعمل بعلمك، فكيف الحكم في ذلك المغتاب؟ .. إلخ.
(ج) تحريم الغيبة معلوم من الدين بالضرورة؛ للنهي عنها في القرآن
وتبشيع حال أهلها , وغيبة العلماء أشد الغيبة ضررًا؛ لأنها تفضي إلى تنفير
الجاهلين عن الاستفادة منهم , وذلك صَدٌّ عن سبيل الله. ثم إن في قول ذلك الطاعن
في العلماء جراءة أخرى: وهي أن يحكم في أمر من علم الغيب ببيت من الشعر ,
وذلك من القول على الله تعالى بغير علم , وهو محرم بنص القرآن بل ذكر تحريمه
مقرونًا بتحريم الشرك بالله.
وقد قيل: إن لمعنى البيت أصلاً في الحديث لكن الطاعن لم يعرفه؛ إذ لو
عرفه لاحتج به لا بقول مَن لا حجة في كلامه. روى مسلم من حديث أبي هريرة
مرفوعًا: (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استُشهد فأُتي به فعرَّفه
نعمته فعرفها فقال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك
القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم , وقرأت القرآن ليقال:
هو قارئ. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع
الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: فما
عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ذلك. قال:
كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه ثم
ألقي في النار..) فمن هذا الحديث أخذ أن هؤلاء الثلاثة أول مَن يحاسَب ويعذَّب،
ولكن ما يدرينا أن الأولية بالنسبة إلى المسلمين لا إلى المشركين وعُباد الأوثان أو
أن أفعل ليس على بابه.
ثم إن الحديث في العالِم المرائي لا في تارك العمل بعلمه، فهذا الحكم غير
صواب، وإن اشتهر وتلقاه المقلدون بالقبول. وإذا جاز أن يُغتاب العالم الذي يتهم
بالرياء ويخاض في عرضه لأجل هذا الحديث جاز أيضًا أن يغتاب الشهيد والمحسن
المنفق في سبيل الله , وهؤلاء خيار الناس وخيرهم العالم المعلم فما معنى تحريم
الغيبة إذا جازت غيبتهم؟
الرياء أمر خفي لا يجوز أن نحكم به على عالم ولا جاهل، نعم إن مؤاخذة
العالم بتحريم الشيء إذا هو فعله أشد من مؤاخذة من يفعل الذنب جاهلاً بكونه ذنبًا
من حيث الجراءة على الله , ولكن المذنب الجاهل يؤاخَذ على الذنب وعلى الجهل
معًا، فإن الجهل ليس بعذر إلا ما يكون في دقائق الشبهات وخفيات الأحكام.
ومن الأحاديث التي تلوكها ألسنة كثير من العامة فتُجرِّئهم على إهانة العلماء
حديث: (ويل للجاهل مرة وويل للعالم ألف مرة) ولا أعرف له أصلاً , وما أراه
إلا من وضع المتأخرين , وقد روى سعيد بن منصور عن جبلة مرسلاً: (ويل لمن
لا يعلم ولو شاء لعلم، واحد من الويل , وويل لمن يعلم ولا يعمل، سبع من
الويل) وهو على إرساله لا يصح , وعباراته تدل على أنه ليس من كلام الرسول
صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث حذيفة: (ويل لمن لا
يعلم ولو شاء الله لعلمه , وويل لمن علم ثم لا يعمل) وهو ضعيف وإن كان معناه
صحيحًا.
***
اختيار مسجد للصلاة أو الصلاة بأجرة
(س٢٢) : ع. ع بسنغافوره:
سيدي: في (جوهر) الإسلامية مسجد يصلون فيه الجمعة فقط ويكون في
سائر الأيام مهجورًا لا يصلي فيه إلا خدمته. وفي شهر رمضان السنة الماضية
طلب أحد وزراء تلك البلاد من أهل البلد أن يصلوا فيه صلاة العشاء والتراويح ,
وجعل لكل مَن واظب على ذلك مدة الشهر كله ستة ريالات وللإمام ثلاثين ريالاً
فأجاب طلبه جم غفير من مدعي العلم , وأنكر هذه الصلاة واحد قال: إنها غير
صحيحة ولم يجوِّز أخذ الدراهم بل قال: إن هذا هو الشرك في العبادة. والحقير
من جملة الذين حضروا هذه الصلاة ولم آخذ الأجرة , وقد جعلني المنكر في جملة
من أشركوا فهل قوله صحيح أم لا؟ فاحكم - يا سيدي - فأنت الحكم الذي ترضى
حكومته والسلام.
(ج) إن من صلى لأجل أخذ الجُعْل بحيث لو لم يكن هناك جُعْل لما صلى
بالمرة؛ فلا شك أن صلاته غير صحيحة، وأخذه للمال عليها غير جائز. ومن سمى
ذلك شركًا في العبادة فقد أعطى هذه الصلاة أكثر من حقها؛ إذ لا شيء فيها لله في
الحقيقة، وإنما الشرك أن يقصد مع الله غيره فمن قصد بالصلاة الأمرين معًا -
الثواب والمال - فهو المشرك في هذه العبادة , ومثله من قصد مرضاة الوزير
والتقرب إليه. ومن لم يقصد المال ولم يأخذه ولا رياء الوزير أو مرضاته وإنما
صلى في ذلك المسجد بعد نداء الوزير بالجعل؛ لأن الجماعة قامت في المسجد
فصار قصده إليه كقصده إلى غيره فلا يعد مشركًا ولا مرائيًا ولا يكون آثمًا.
وقد اختلف العلماء فيمن يقصد بعمله الثواب والرياء معًا أيثاب على قصد
الثواب بقدره ويعاقب على قصد الرياء بقدره أم يستحق العقاب دون الثواب؟ قال
الغزالي بالأول محتجًا بقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًًا يَرَهُ} (الزلزلة: ٧-٨) وقال العز بن عبد السلام بالثاني محتجًا
بالأحاديث الصريحة في ذلك كحديث مسلم وابن ماجه: (قال الله تعالى: أنا أغنى
الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، إذا كان
يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة:
اقبلوا هذا وانفوا هذا. فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرًا فيقول: نعم لكن
كان لغيري ولا أقبل إلا ما ابتغي به وجهي) . أقول: وما ابتغي به غير وجهه
تعالى قسمان: ما ابتغي به المال , وما ابتغي به الجاه كما يستفاد من قوله تعالى:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} (الإِنسان: ٩) وفي
مسألة المسجد المسئول عنه دقيقة وهي أن الجزاء فيها على كون الصلاة فيه لا على
الصلاة نفسها فمن كان يصلي لوجه الله لا يريد جزاءًا ولا شكورًا على صلاته، ولو
لم يصلِّّ في ذلك المسجد لصلى في غيره قطعًا، ولكنه اختاره لأجل الجزاء الذي
ذكره الوزير كانت صلاته صحيحة خالصة لله , وينحصر السؤال في قصده إلى
المسجد وهو عبادة أخرى وقد علم حكم ذلك، والله أعلم.
***
النسيب الفاسق وإذهاب الرجس عن أهل البيت
(س٢٤) الشيخ عبد الله الحضري في سنغافوره:
ملخص السؤال أن رجلاً فاسقًا يدعي أنه من آل بيت الرسول صلى الله عليه
وسلم وقد ذكر من فسقه ما يتنزه المنار عن نشره وقال: إذا سلمنا بدعواه فما معنى
قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: ٣٣) .
(ج) اعلم أن بعض الناس قد تكلموا في هذه الآية بالرأي فزعموا أن المراد
بأهل البيت جميع ذرية فاطمة عليها السلام والرضوان ما تناسلوا , وأن إرادة الله
تعالى هي مشيئته المطلقة التي بها الخلق والتكوين، ومن ثم بحثوا في عصمة
الشرفاء أو حفظهم من الذنوب. فقال بعضهم: إن معاصيهم صورية لا حقيقية
فيجب تأويلها كالمعاصي التي نُسبت إلى بعض الأنبياء، وبهذا قال بعض الصوفية.
وبحث ابن حجر الفقيه في ذلك بأنه مخالف للمشاهدة , واختار هو حفظهم من الكفر
دون المعاصي , وقال: إنه يكاد يقطع بذلك. وقال بعضهم: إنها خاصة بعلي
وفاطمة وولديهما , ولهم في هذا روايات. وبعضهم أنها تشمل معهم بقية الأئمة
الاثني عشر فهم المعصومون.
والحق الذي لا محيد عنه إلا إلى الهوى، أن المراد بالبيت في الآية بيت
النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يسكنه وهو جنس , والمراد بأهله هو ونساؤه ,
وذكر ضمير الجمع المذكر تغليبًا للأشرف إيذانًا بأن العناية به ثم بهن تبعًا له أو
رعاية للفظ الأهل , والعرب تستعمله ومنه: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ..} (النمل: ٧) وقوله: (٢٩: ٢٨ {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا..} (طه: ١٠) ونحو هذه الآية قوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} (هود: ٧٣) والخطاب لامرأة إبراهيم عليه
السلام. هذا ما يقتضيه السياق ويتبرأ من كل ما يخالفه , فإن العبارة جاءت في آية
معطوفة على عدة آيات فيهن بالنص الذي لا يحتمل التأويل. والمراد بالإرادة فيها
ما يقصد ويراد من شرع تلك الأحكام الخاصة بهن لا إرادة الخلق والتكوين ابتداءً
فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} (الأحزاب: ٣٣) .. إلخ هو
كقوله عز وجل في آخر آية الوضوء والغسل والتيمم من سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: ٦) , وقوله بعد ذكر أحكام الصيام وما فيها من الرخصة: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) كل ذلك بيان لحكمته تعالى في
تلك الأحكام، وما فيها من الفائدة للأنام إذا هم عملوا بها , لا يفهم منها إرادة الخلق
والتكوين ابتداءً.
وقد سألني عن هذه الآية الأخيرة الشيخ التميمي مفتي الخليل عند زيارتي له
ببلده في عاشر المحرم سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف. قال رحمه الله: إن الله
تعالى نفى إرادة العسر بنا وأثبت إرادة اليسر , وما يريده الله تعالى لا بد من وقوعه
وما لا يريده يستحيل أن يقع , وإننا نرى العسر قد يقع كثيرًا فيذهب باليسر فأجبته
على البداهة بمثل ما تقدم آنفًا ولم أكن رأيته لأحد , وإنما هو بديهي في نفسه.
مَن فهم هذا - ولا تُحْمَل الآية سواه إلا بتحريفها عن موضعها - علم أن ما
ورد من الروايات في تخصيصها بفاطمة وعلي وولديهما مما يتبرأ منه سياق الآية؛
إذ يصير معنى الآيات يا نساء النبي لا تفعلن كذا ومن يفعل منكن كذا فجزاؤه
مضاعف ضعفين، يا نساء النبي افعلن كذا وكذا، إن الله لا يريد بهذه الأوامر
والنواهي إلا إذهاب الرجس عن علي وزوجته وولديه وتطهيرهم من كل ما يفضي إلى
اللائمة تطهيرًا كاملاً. وإن رواية تفضي إلى هذا مما يُقْطَع ببطلانها، وإن
صحح بعض المحدثين سندها , بل أقول: إنه لا معنى لإدخالهم في عموم الآية
فضلاً عن تخصيصها بهم ولا مزية في ذلك لهم , وهم غير مخاطَبين بتلك الأحكام
التي شرعت لأجل إذهاب الرجس بالعمل بها , وإنما كان يكون في ذلك مزية لو كانت
الإرادة للتكوين وكان الإخبار بها ابتدائيًا غير معلق بشيء.
أقول هذا وأنا علوي فاطمي حُسيني الأب حَسني الأم عالِم بالأخبار والآثار
الواردة في ذلك , وأفضِّل فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام على أزواجه
أمهات المؤمنين؛ لأنها بضعة منه، لكن كتاب الله فوق كل شيء , وحكمه فوق كل
حكم , وهو قد خص أزواج نبيه بأحكام فهُن بها ممتازات على بناته وعلى جميع
النساء أو الناس، وإن فضلهن بعض الناس بمزية أو مزايا أخرى كما يَفضُل أبو بكر
وعمر عائشة وحفصة.
وإنني لأعجب أشد العجب كيف عظم افتتان الناس بالرواية في الصدر الأول
وإن كانت مخالفة لصريح القرآن حتى قال من قال في هذه الآية: إنها خاصة بأهل
الكساء أو عامة لبني هاشم وبني المطلب لحديث الترمذي والحاكم في الأول ,
وحديث الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الثاني , ولا يصح
في ذلك شيء خلافًا للترمذي والحاكم. ولله در عكرمة إذ كان يقول: (من شاء
باهَلْتُه أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) وهو ما يرويه عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر.
وروى ابن جرير أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: ٣٣) نزل في نساء النبي
صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إلى شيء من الروايات في فهم الآية فإنها في
سياقها لا تحتمل غير ما قلنا كما هو ظاهر لكل قارئ له معرفة باللغة.
وقد علمت أن الآية لا تدل على عصمة أهل البيت , وإنما معناها أن الله
تعالى شرع لهن تلك الأحكام التي منها أن جزاءهن على الفاحشة وعلى الطاعة
يضاعَف ضعفين لأجل إذهاب الرجس عنهن وتطهيرهن تطهيرًا إذا هن امتثلن
وأطعن الله ورسوله , ولا معنى لوعيد المعصوم من الذنب بمضاعفة عذابه عليه.
فإذا فرضنا أن ذرية فاطمة داخلة في أهل البيت هنا لم يكن معنى ذلك أن يستحيل
عليهم الفسق فإذًا هم كغيرهم من البشر فيما يجوز عليهم ويمتنع وهو ما تؤيده
المشاهدة التي لا مكابرة فيها , فإن لم نقل بهذا كنا بين أمرين: تكذيب الحس أو
قذف الكثيرين من الشرفاء بأنهم أولاد زنا والأول جنون والثاني حرام!
***
العمل بالبيع والشراء وغيرهما بالعمولة العرفية
(س٢٥) السيد حسن بن علوي شهاب من علماء العرب بسنغافوره:
ما قول المنار فيما هو الجاري الآن بين المسلمين، يبعث أحدهم إلى الآخر
بعروض تجارة فيأمره ببيعها بقيمة الوقت هناك أو بدراهم ليشتري له بها عروض
تجارة , وكذلك الوصي يبيع مال موصيه , والوكيل يقبض لموكله غلة عقاره ويجري
كل منهم لنفسه معلومًا في مقابل عمله خمسًا في المائة أو أقل أو أكثر فهل ما يأخذونه
جائز لهم شرعًا؟ إن قلتم: لا؛ فواضح , وإن قلتم: نعم؛ فما وجه ذلك المأخوذ في
الشرع؟ لأنا نرى في الشرع أنهم يعملون مجانًا كما هو مقرر في عمله. أفيدونا بارك
الله فيكم ولكم، آمين.
(ج) قال الله تعالى في أول سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (المائدة: ١) فكل ما يتعاقد عليه المسلمون يجب عليهم الوفاء به إلا إذا
كان على معصية كالاستئجار على الزنا مثلاً , فإذا اتفق تاجران على أن يبيع
أحدهما أو كل منهما للآخر ما يرسله إليه من العروض ويشتري له بثمنه أو بمال
آخر عروضًا معينة بالجنس والنوع أو غير ذلك من أنواع التعيين كما هو المتعارَف
ويأخذ على المبيع والمشترى أجرًا يقدر بنسبة قيمته كخمسة في المائة كان هذا
الاتفاق عقدًا صحيحًا يجب الوفاء به؛ لأنه لم يحل حرامًا ولم يحرم حلالاً.
فإن قيل: إن هذه الأجرة مجهولة , ويشترط في الأجرة أن تكون معلومة
وغير متوقفة على العمل كما قال كثير من الفقهاء؛ نقول: بل هي معلومة معينة ,
فإن البائع والمشتري لغيره يعرف عند الاتفاق أجر عمله في الجملة وعند تعيين
الثمن قبل عقد البيع أو الشراء ما يستحقه بالتفصيل , وهذه الأجرة لا تتوقف على
العمل ككون أجرة الطحن من الطحين. على أننا نقول: إن ما يشترطه الفقهاء في
العقود مما لم يرد به نص عن الشارع , وإنما يعلل بالمصلحة يمكن أن تختلف فيه
المصلحة باختلاف الزمان والمكان. فعِلَل الفقهاء ليست دينًا يتعبد باتباعه سواء
قامت به المصلحة أو ترتبت عليه مفسدة , ولا شك أن التجارة قد دخلت في طور
يتعسر معه النجاح مع التزام جميع أقوال فقهاء أي مذهب من المذاهب. وإذا
تمسكنا بأصول الإباحة والبراءة والمحافظة على ما أحله الله وحرمه , ولم نزد في
عقولنا شروطًا ليست في كتاب الله تعالى فإنه يمكننا أن نسابق جميع الأمم في
الأعمال المالية وتنمية الثروة التي عليها مدار قوة الأمة وعزة الملة في هذا العصر.
فإن قيل ورد في حديث أبي سعيد عند الدارقطني والبيهقي: (نهى عن عَسْب
الفحل , وعن قفيز الطحان) وفسروا قفيز الطحان بطحن الحب بجزء منه مطحونًا.
واستنبطوا من ذلك أنه لا يجوز أن تكون الأجرة بعض المعمول بعد العمل كما
قال الأئمة الثلاثة دون أحمد، وفي حديثه عند أحمد وغيره: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره) ومنه أخذ الشافعي
وأبو حنيفة وجوب كون الأجرة معلومة خلافًا لمالك وأحمد فإنهما حكما العرف في
ذلك فما تقول في الشروط المأخوذة من هذين الحديثين؟
والجواب: أن أمثال هذه الروايات ينظر في سندها ثم في معناها وعلة الحكم
فيها. فأما حديث أبي سعيد الأول ففي إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان: لا
يعرف , وزاد الذهبي أن حديثه منكر , ووثقه مغلطاي وابن حبان، والجرح مقدم
على التعديل. ثم إن ما فسروا به قفيز الطحان غير متفق عليه بل قال بعضهم:
إنه قفيز كان يؤخذ زائدًا على الأجرة , وهذا هو المتبادر وهو المعهود في بلادنا ,
فنهى عنه؛ لأنه من الباطل الذي لا مقابل له في العمل , وإنما هو من قبيل ما يسمى
الآن بالبخشيش.
وأما حديثه الآخر فرجال أحمد في سنده رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي
راويه عن أبي سعيد لم يسمع من أبي سعيد كما قال في مجمع الزوائد وذكره أبو
داود في المراسيل والنسائي غير مرفوع , وفي بعض ألفاظه: (من استأجرته) فهو
على الخلاف في الاحتجاج بمثله لا ينافي أن يكون بيان الأجرة أو تسميتها بكونها
جزءًا من كذا جزءًا مما يبيعه أو يشتريه أو يحصله فإنه بذلك يكون على بصيرة
لا يتطرق إليها الغبن والغش. ولا نعرف حديثًا غير هذين الحديثين يمكن أن يستدل
به على تحريم أخذ كذا بالمائة مما يباع أو يشترى أو يحصل أجرة أو عمولة وهما لا
يدلان على ذلك. وللوصي حكمه فيما عوقد عليه.
نعم إذا جرى العرف بين التجار أو غيرهم بأن عمل كذا لا يؤخذ عليه شيء
وأراد من عمله أن يأخذ عليه أجرًا أو عمولة من غير عقد يستحق به ذلك ولا
عُرْف يجيزه له فإنه لا يجوز له أخذه , وإذا أخذه بدون علم صاحب المال كان
سارقًا. ولا أدري أهذا ما يريد السائل بقوله: (لا نرى أنهم إنما يعملون مجانًا) أم
يريد أنه يجب أن تكون هذه الأعمال مجانًا , وقد علمت ما نعتقد في الأمرين , والله
أعلم وأحكم.
***
تقبيل أيدي الشرفاء وغيرهم
(س ٢٧) مستفيد من سنغافوره:
ما يقول المنار المنير في تقبيل اليد؟ فإني أرى سادات اليمن وحضرموت
المنتسبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينكرون على مَن لم يقبل أيديهم ,
ويزعمون أنهم مستحقون لتقبيل اليد، فهل لهذا أصل في السنة؟ أفيدونا.
(ج) إن زعموا أن هذا حق شرعي لهم ثبت في السنة فمن ترك تقبيل
أيديهم يكون مخالفًا ومرتكبًا محرمًا أو مكروهًا - فقد زادوا في شريعة الله ما ليس
منها , وهذا من أعظم الكبائر. وإن كانوا يريدون أنه قد استحسن في الآداب العادية
أن تقبل أيديهم فصار ترك بعض الناس لذلك في بلاد جرت عادتها به لا يخلو من
إشعار بعدم الاحترام فالأمر سهل والسنة في التحية السلام والمصافحة. أقول هذا
وأنا أعلم بما قال النووي في ذلك , والسنة الصحيحة تعرف بعمل الناس في الصدر
الأول وبنقل ذلك , ولا يكتفى فيها بحديث الآحاد؛ إذ لا يمكن أن يشرع شيء لا
يعمل به أهل الصدر من الصحابة والتابعين , ولا يمكن أن يعمل المسلمون به
ويبقى مجهولاً لا يعرفه إلا الآحاد من المتأخرين. وقد قال صاحب المدخل عند ذكر
تقبيل اليد بدل المصافحة ما نصه: (وقد وقع إنكار العلماء لذلك فإن كان المقبل يده
عالمًا أو صالحًا أو هما معًا فأنكره مالك في المشهور عنه وأجازه غيره. وأما تقبيل
يد غير هذين فلا يعرف أحد يقول بجوازه لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أن يكون
المقبل يده ظالمًا أو بدعيًّا أو ممن يريد تقبيل يده ويختاره فهو الداء العضال الواقع
بالفاعل والمفعول به، وبمن أعجبه ذلك منهما؛ لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد.
نعوذ بالله من المخالفة وترك الامتثال. كل هذا سببه ترك السنة أو التهاون بشيء
منها) .
فأنت ترى أنه قد شدد في المسألة جدًّا؛ لأنه عدَّها بدعة دينية , وله الحق في
التشديد في ذلك إذا فعل التقبيل على أنه مطلوب شرعًا أو ترتب عليه مفسدة كإعانة
المبتدعين والظالمين على بدعتهم وظلمهم. وأما ما يفعل بمقتضى العادة - لا باسم
الدين - فهو مباح إلا إذا ترتبت عليه مفسدة , ومنها أن يعتقد أنه من الدين كما
يزعم سادة حضرموت!