رحلت في العام الماضي - وهو العام الأول للدستور - إلى الديار السورية؛ لصلة الرحم التي قطعها الاستبداد عليّ إحدى عشرة سنة، ولاختبار حال البلاد، بعدما عاثت به فيها حكومة الاستبداد، وللوعظ والإرشاد، والحث على الاتفاق والاتحاد، وبيان مزايا الدستور وفوائده، وما يجب على الأمة من العمل للتقدم في عهده، وقد نشرت في المنار ملخص تلك الخطب والدروس فعرفها قراؤه. ورحلت في هذا العام - وهو العام الثاني للدستور إلى القسطنطينية عاصمة الدولة، لأسعى في أمرين عظيمين: أحدهما: وهو أجلهما خدمة للدين الإسلامي ولجميع المسلمين، وثانيهما: خدمة للدولة العلية من حيث هي حكومة الدستور القائم على أساس العدل والمساواة ولعنصري الأمة العثمانية الكبيرين. أما الأول: فهو إنشاء معهد ديني علمي في العاصمة للتربية الإسلامية الصحيحة الكاملة؛ بالتزام آداب الإسلام العالية، وأخلاقه الفاضلة، وعبادته المطهرة للأرواح من الفرائض والنوافل كالقيام والصيام، وكثرة ذكر الله - عز وجل - والجمع بين هذه التربية والتعليم الإسلامي الذي يكون وسيلة لسعادة الدنيا والآخرة، كالتفسير والحديث، والتوحيد وحكمة التشريع، والأخلاق والسيرة النبوية الشريفة وتاريخ الإسلام وأصول الفقه وفروعه، ووسائل ذلك من اللغة وفنونها؛ وكالفنون الرياضية والطبيعية والصحية والاقتصادية التي هي وسائل عمران الدنيا، وتقوية الملة والدولة. من منافع المعهد الإسلامي تعزيز دولة الخلافة وتأييدها؛ بجعل عاصمتها ينبوعًا للإسلام، وكعبة معنوية لطلاب علومه وآدابه. ومنها تخريج العلماء الذين يقدرون على الدفاع عن الدين على النحو الذي كان يدافع به الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده رحمه الله) مثل (رنان) و (هانوتو) ، وما أشد الحاجة إلى مثل هذا الدفاع في عهد الحرية والدستور، ومنها تخريج الدعاة إلى الخير والمرشدين للأمة الذين يقومون بما فرضه الله تعالى على المسلمين من الدعوة والإرشاد، وحرمه عليهم من التفرق في مثل قوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٤-١٠٥) وأقرب فوائد المرشدين إرسالهم إلى البلاد التي فشا فيها الجهل وكثرت المشاغب (كاليمن والعراق والأناضول) ؛ للوعظ والإرشاد الذي ينفر عن الشرور والفتن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرغب في البر والتعاون بين جميع أهل الوطن، والإخلاص للدولة العلية في السر والعلن، وتعليم أحكام الدين بأسلوب يكون في منتهى السهولة، مع مبادئ حفظ الصحة والثروة، فهؤلاء الوعاظ الذين يمكن تخريج طائفة منهم في مدة أربع سنين أو خمس سنين، هم الذين يطهرون البلاد بتأثير الدين من الثورات والقلاقل، ويؤلفون بين جميع الطوائف والعناصر، ويفعلون بالتصرف في القلوب والسرائر، ما يعجز عن بعضه من لا تأثير لهم إلا في الظواهر، كأصحاب الجرائد والحكام والعساكر. ليس الغرض الذي أسعى إليه أن تكون الحكومة العثمانية؛ هي التي تنشئ هذا المعهد الإسلامي، فإن الحكومات تعجز عن مثل هذه الأعمال، وان كانت قادرة على بذل المال واستخدام الرجال؛ لأن الحكام رسميون فأعمالهم كلها رسوم، لا يمس شيء منها سواد القلوب. ولأن ما تقوم به الحكومة تدخل فيه السياسة. والسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام، وإنما الغرض أن تقوم بهذا العمل جمعية من محبي الإصلاح العلماء الصلحاء، وأن تساعدهم الحكومة بما يمكن من الأوقاف الخيرية، وبغير ذلك كاستثناء طلاب العلم من الخدمة العسكرية، واتخاذ الوعاظ منهم بالمرتبات الشهرية. عرضت هذا المشروع على رئيس حكومتنا الصدر الأعظم حسين حلمي باشا، وعلى بعض أعضاء وزارته، وعلى بعض الكبراء والعلماء هنا ومنهم محمود شوكت باشا، وعلى بعض أعضاء مجلس الأمة العمومي من الأعيان والمبعوثين، وعلى أشهر رجال جمعية الاتحاد والترقي، فكلهم أظهروا الإعجاب والاعتراف بفوائده ومنافعه وشدة الحاجة إليه، وقال بعضهم: إنه فكر في مثله من قبل، وكذلك قال من ذاكرتهم فيه بمصر وسورية، وقد وعدت بالمساعدة الممكنة من كثيرين، وسأبين ذلك في وقته، إن شاء الله تعالى. وأما الأمر الثاني الذي سعيت إليه: فهو إزالة ما وقع أخيرًا من سوء التفاهم بين عنصري الدولة الأكبرين- العرب والترك - وقد شرحت هذا في مقال مطول مؤلف من ست نبذ أو فصول، نشرت في جريدة (إقدام) مترجمة بالتركية، فصادفت استحساناً عند فضلاء الترك، وسيراه قراء المنار مجموعًا في الجزأين الأخيرين ١١ و١٢. المشهور عندنا عن ساسة الترك أنهم يخافون، ويحذرون من قيام العرب بتكوين دولة عربية أو خلافة عربية في جزيرتهم، وأنَّ هذا الخوف قديم فيهم. ولكن، أليس قد مرت القرون ولم تظهر من زعمائهم الدعوة إلى ذلك، حتى في الأزمنة الأخيرة التي كاد اليأس من الدولة يستولي فيها عليهم؟ بلى! فأي حجة لهم على استمرار هذا الخوف والحذر، وبناء الأعمال عليه، وكثرة الكلام فيه؟ يقول بعضهم: إن هذا غير ممكن ولذلك لم يتشبثوا به، ولم يحاولوا تنفيذه، ونرد عليهم بأن العرب إذا كانوا يعلمون أن هذا غير ممكن، فكيف يريدونه والإرادة لا تتعلق بالمحال كما هو معلوم، وإذا كانوا لا يعلمونه، فلماذا لم يسعوا إليه سعيه؟ هذه وساوس وأوهام يجب أن لا تذكر، ولا يبنى عليها قول ولا عمل في هذا العصر؛ لئلا يصير الوهم حقيقة، وإن جميع من أعرف من عقلاء العرب متفقون معي على وجوب تدارك ما قوي الآن من سوء التفاهم، ولما جئت الآستانة رأيت كثيرًا من عقلاء الترك يميلون إلى هذا، ولكن العقلاء من الفريقين يرتابون في سياسة بعض الزعماء في العاصمة. بلغ من سوء ظن بعض ساسة الترك بالعرب ما أشرنا إلى بعضه في المقالات التي نشرناها هنا مترجمة بالتركية، ولا سيما مسألة الشام. وهناك أمور كثيرة لم نكتب فيها شيئًا؛ كاهتمام الكثيرين بحج الخديوي، وبما يتعجب المصريون من إدخاله في باب السياسة؛ كحضور عزت العابد دعوة الشيخ علي يوسف اليوم الأربعين لابنته الجديدة، وبلغ من سوء ظن العرب بالترك أن قال لي أكثر من واحد من أذكيائهم وأهل الرأي فيهم بمصر والآستانة: إن وزراء الدولة ورجال جمعية الاتحاد والترقي لا يقدرون مشروعيك الاصطلاحيين حق قدرهما، ولا يعرفون لك قيمة إخلاصك وغيرتك فيهما؛ لأنك عربي.. فلما رأيت من عناية بعض الوزراء ولا سيما رئيسهم الصدر الأعظم، وعناية كبراء رجال الجمعية ما رأيت وسمعت من الوعود المؤكدة منهم ما سمعت، ذكرت ذلك لبعض الظانين ظن السوء فقالوا: إن الأعمال بالخواتيم، وسترى هل أنت المخطئ أم نحن المصيبون، وإني لأرجو أن تطيش هذه الأوهام بما أنتظر من محاسن الأعمال، وعلى الله الاتكال في تصديق الآمال. *** صاحب جريدة وطن الهندية وتفسير القرآن جرى ذكر صاحبنا (مولوي محمد إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) الهندية في بعض المجالس، فرأيت القوم يسيئون به الظن، فذكرت لهم ما أعرف من فضله وغيرته على الإسلام ودولته وأهله، حتى إنني ذكرت للصدر الأعظم ولبعض الكبراء وأصحاب الجرائد أنه لم يدفعه إلى جمع تلك الأموال الكثيرة للسكة الحجازية إلا غيرته، وأنَّ من دلائل غيرته الدينية أنه كتب إليَّ قبل الدستور كتابًا قال فيه: إن هذا التفسير الذي تنشرونه في المنار هو أنفع ما كتب للمسلمين، وإنه لا شيء يرشدهم إلى ما يحييهم مثله، فأقترح عليكم أنْ تتركوا كل عمل، وتصرفوا همتكم إلى إتمامه، وأنا أرتب على نفسي مساعدة مالية أقدمها لكم في كل شهر إلى أنْ يتم التفسير. هذا معنى ما كتبه، فأجبته بأنني لا أقبل على خدمة الدين مالاً من أحد، وإنني أجتهد في إتمام التفسير ما استطعت. فكتب إلي ثانيًا يشكر لي ذلك، ويطلب الاشتراك بمائة نسخة من كل جزء يصدر من التفسير، يجلد ويوزع على المساجد في البلاد العربية؛ لأجل أنْ يرشد الخطباء والمدرسون الأمة به، ويطلب أيضًا أنْ يرسل إليه عدة نسخ من كل جزء؛ لأجل أنْ ينشرها في الهند ويبيعها لنا. وقد أرسل عدة حوالات مالية من ثمن النسخ التي اشترك فيها. ذكرت هذا للصدر الأعظم ولغيره فأعجبوا بفضل الرجل وغيرته، وترجح عندهم صدق قولي في إخلاصه فيما كتبه بشأن الانقلاب العثماني، وستريهم الأيام أكثر من ذلك متى ظهر للناس كلهم إصلاح الحكومة الدستورية للدولة العلية، مع محافظتها على الدين الذي يكفله مقام الخلافة الإسلامية على ما قرره القانون الأساسي. ((يتبع بمقال تالٍ))