للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(حفلة وداع البستاني)
وصلت إلى القاهرة ظهر يوم الإثنين لستّ أو سبع خَلَوْن من شوال، فأخبرني
من لقيني من أصدقائي السوريين أنهم سيجتمعون بعد المغرب في فندق كونتننتال؛
للاحتفال بوداع صديقنا سليمان أفندي البستاني مبعوث بيروت؛ وأنه يحسن أن
أحضر الاحتفال إن لم يمنعني مانع؛ فأجبت وجئت المكان متأخرًا، وكان رفيق بك
العظم واقفًا يتكلم في مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك ويعهد إلى البستاني
بتلافي ذلك؛ عسى أن يُرتق الفتق قبل اتساعه.
لم أسمع كلام الخطيب كله ولكني أعرف رأيه وحرصه على الاتحاد العثماني
فقد قضينا السنين الطوال في العمل لذلك سرًّا وجهرًا، والبستاني يعرف لنا ذلك
حتى قال لي في الآستانة وكنا نتكلم في هذه المسألة: إنني لا أعرف أحدًا من
إخواننا السوريين أو قال العرب موافقًا لرأيي مثلك ومثل رفيق بك أو قال
غيركما.
ثم قام يعقوب أفندي صروف فرد على رفيق بك بعد الاعتراف له بما اشتهر
به من الغيرة على الدولة والإخلاص لها، وقال: إنه لا يوجد شيء من سوء الظن
بين الترك والعرب، وإن الترك يفضلون العرب على أنفسهم، وإن القابضين على
زمام الأحكام يعملون بالإخلاص التام؛ لتوحيد العناصر، ومتى وجد الإخلاص لا
يضر الخطأ إن وجد، وإن سبب عدم نيل العرب لنصيبهم من الوظائف؛ هو عدم
تمرنهم وتدربهم على أعمال الحكومة وإدارتها كالترك.
ثم قام البستاني فأثنى على رفيق بك وغيرته وإخلاصه، وذكر أن سوء
التفاهم الواقع بين العنصرين سببه عدم الاطلاع على حقيقة الحال في الدولة، فأكثر
المناصب العسكرية في أيدي العرب وذكر منهم محمود شوكت ناظر الحربية، ومحمد
هادي باشا قائد الفيلق الثالث، وسامي باشا قائد حملة حوران، قال:
والعسكرية هي كل شيء الآن، ثم ذكر الشريف حيدر بك ناظر الأوقاف ووالي
البصرة الجديد، وأن عمال الحكومة من الترك ببيروت لا يزيدون على سبعة في
المائة، وأن الترك يشتغلون لخدمة لغتنا أكثر منا، والحكومة تعد مشروعًا لجعل
تعلم العربية إجباريًّا في المملكة، ومن البراهين على ترقيتها للغة العربية مساعدتها
لمشروع السيد رشيد رضا صاحب المنار، فإنه اقترح إنشاء مدرسة كلية عربية في
العاصمة، فتلقت الحكومة مشروعه بالقبول وقررت مساعدته عليه بالمال.
قال البستاني: هذا كما قال هو وغيره من البعوثين مثله في بيروت والشام،
ولم يكن عالمًا بأنني جئت من الآستانة، وأنني في المجلس أسمع لأنني جئت في
أثناء الخطابة، فلم يرني إلا من جلست بالقرب منهم، فقيل له: ها هو ذا السيد
رشيد فحياني، واستشهدني فأرجأت شهادتي إلى أن يتم كلامه، وبعد أن أتمه قامت
فتاة سورية عذراء فوقفت تحت العلم العثماني المحبوب وحيته بخطاب منثور مؤثر
صفقت له أيدي الحاضرين في هذه الحفلة، ورقصت له قلوبهم.
ثم قمت فقلت كلامًا حاصله أن العثمانيين الحاضرين في هذه الحفلة هم من
أرقى العثمانيين إن لم يكونوا أرقاهم في علومهم وأفكارهم، وأنهم مستمسكون
بعثمانيتهم، متحدون تحت علمهم الذي تهتف له ألسنتهم وقلوبهم، ويحييه حتى
العذارى منهم. قلت: فقد سمعتم ما فاهت به هذه العذراء العربية العثمانية في
تحية العلم العثماني بالكلام الفصيح البليغ الصادر عن وجدان، يتدفق غيرة وحمية
وإخلاصًا لا يوجد أرقى منه في نساء الآستانة نفسها، على أن نساء الآستانة أرقى
من نساء سائر الولايات العثمانية تربية وتعليمًا، ولكن لدينا في النساء السوريات من
هن في الذروة التي لا تعلوها ذروة أخرى في الآستانة ولا في غيرها من هذه
المملكة.
إن المرتقين من الأمة يجب أن يعرفوا كل شيء من أحوالها، فإذًا يجب أن
يعرف هذا الجمع أن ما نعبر عنه بسوء التفاهم بين العرب والترك واقع حتمًا، وأن
رفيق بك مصيب فيما خاطب به مبعوثنا العاقل المتروي من وجوب السعي في
تدارك ذلك وتلافيه، وكيف نكابر أنفسنا وننكر أمرًا لهجت به الجرائد في العاصمة
والولايات ومصر، وتناوله خيال الشعراء، وعرفه العامة والخاصة، وشكا منه
العقلاء، حتى قال أحد كبراء الحكومة في العاصمة لأحد مبعوثي العرب: إننا
وصلنا بسياسة الأطفال إلى درجة من سوء التفاهم، صار يخيل إليَّ فيها إذا رأيتك
مقبلاً لمعانقتي أنك واثب عليّ لتفتك بي، وأنت يخيل إليك مثل هذا.
المسألة وصلت إلى العامة، فإذا تغلغلت فيها صعب نزعها؛ لذلك كان من
حرص رفيق بك مخاطبة سليمان أفندي بما خاطبه به؛ لعلمه بأنه على رأيه في ذلك
وإنني قد بذلت جهدي في الآستانة لتلافي خطر هذه المسألة، وكلمت فيها أولياء
الأمور الصدر الأعظم وغيره (وأشرت إلى ذلك أيضًا في نبذة الرحلة في هذا
الجزء) ، والبستاني كان يسعى مثل هذا السعي، وجرى الحديث بيننا ثمة في ذلك
غير مرة، فإذا كان يقول لكم ههنا كما كان يقول في سورية: إنه لا خلاف ولا
تغاير , وما ثمَّ إلا الاتحاد والتآزر، فما ذاك إلا أنه يجري على ما تعود من الدعوة
إلى الوفاق، فهو يريد أن يسكب الماء البارد على هذه القلوب الحرى ليبرد حرارتها،
ولكنه كان يخاطب إخوتنا الترك في العاصمة بغير ما خاطبكم به، كان ينكر
عليهم كل ما يبلغه من الأمور التي تحرك العصبية الجنسية والتنافر بين العنصرين،
فهو يقول في كل مكان ما ينبغي أن يقوله مثله من دعاة الوفاق والائتلاف، فأنا
أشكر له ذلك، وأفاخر به أنه عربي سوري.
ثم بينت لهم رأيي وما وصل إليه سعيي في هذه المسألة، وهو ما تقدم في نبذة
الرحلة من هذا الجزء، وما بينت من قبل في مقالات (العرب والترك) وغيرها
من المقالات التي نشرتها في الآستانة، وملخصها أن الترك والعرب إخوة في
الإسلام وفي المصلحة العثمانية، لا يستطيع أن يفرق بينهما أحد، فهما كالعنصرين
المكونين للماء أو الهواء، وإن ما كان من سوء التفاهم فسببه أفراد من المتفرنجين
في العاصمة، فهناك ولدت هذه المسألة، ومن هناك دبت ودرجت وهناك تتلافى.
ثم ذكرت أيضًا ما وصل إليه مشروع العلم والإرشاد (وتقدم بيانه في نبذة
الرحلة فلا نعيده) ، ولكن زدت أن نظام المدرسة (دار العلم والإرشاد) مبني على
أن العلم كله بالعربية، وأن التركية إلزامية فيها، وأن بعض أعضاء الجمعية
يقترحون أن تعلم بعض الفنون التركية، والنظام الداخلي لها لما تصدق عليه
الجمعية.
بعد هذا قام البستاني فتكلم كلامًا وجيزًا لم ينقض فيه شيئًا من كلامي، ولكنه
صرح بأن أحسن ما قلته هو أن سوء التفاهم جاء في بعض الأفراد، فلا يجوز أن
ينسب إلى الترك أنفسهم، وأنه يعلم أن رفيق بك مخلص فيما اقترحه، وأنه هو
أعلم الناس بغيرته وإخلاصه، قال: إلا السيد رشيدًا، فلا أدعي أنني أعلم منه بذلك.
ثم تكلم خليل أفندي مطران فأيد رفيق بك، وذكر فضل العرب ومكانتهم
وحقوقهم، وقال وَليّ الدين بك يَكَن كلمة وجيزة في وجوب مزج العنصرين،
وجعل العرب تركًا والترك عربًا، وهذا ما كان صرح به حقي باشا الصدر الأعظم،
ثم انفضت الحفلة والجميع متفقون على وجوب إزالة الخلاف، فلله درُّ العرب ما
أشد إخلاصهم.
وقد بلغني بعد أيام أنه نشر في جريدة العلم مقالة لكاتب مجهول في تخطئة
رفيق بك وتخطئتي فيما قلناه، وأن من ضرره أنه يحرك سائر العناصر العثمانية
على المطالبة بحقوقهم؛ إذا رأوا العرب يطالبون بحقوقهم، وأن الذي حمل رفيق
بك على هذا الكلام هو طمعه في الوظائف، بل زعم الكاتب أنه طلب لنفسه وظيفة
فلم ينلها، فقام ينتقم لنفسه ويخدم الإنكليز بمقاومة الدولة وتهديدها، واستدل بكلام
البستاني على خطئه.
لم أر ما كتبه هذا الأرعن المفتات، ولكن رأيت لرفيق بك ردًّا عليه وعلى
العلم في الأهرام ومثله لا يردّ عليه؛ لأنه سيئ النية بدليل كذبه في دعواه، أن
رفيقًا طلب وظيفة، والبستاني يعلم كما نعلم أن رفيقًا لو عرضت عليه الصدارة لما
قبلها؛ لأن صحته تمنعه من العمل حتى إنه لم يقبل أن يكون مبعوثًا؛ ولأنه (أي
الكاتب) جاهل بحال الدولة، لا يدري ماذا طلبت العناصر الأخرى من الدولة بحق
الدستور وبغير حقه أيضًا، ولا يدري أن هذه العناصر لا تنتظر الكلام الذي دار في
حفلة وداع البستاني لتبني مطالبها عليه بل لا تعلم به، وإن نشر في الجرائد
المصرية، وأن كلامه هو لا يصل إليها ولا إلى أولي الأمر في الآستانة، فهو تملق
ضائع، ونحن لم نطالب بحقوق العرب في الاحتفال، وإنما طالبنا بوجوب الاتفاق؛
ولذلك لم نتعرض لبيان الحقائق فيما قاله البستاني وغيره، بل كتبنا في المنار من
قبل أنه لا يضرنا أن تكون أكثر الوظائف في الترك، وإنما يضر أن تكون في غير
الأكفاء.
* * *
(عباس أفندي البابي البهائي)
البهائية فرقة من البابية، رئيسها الآن عباس أفندي بن ميزرا حسين علي
الملقب بالبهاء أو بهاء الدين دفين عكا، وهم آخر طوائف الباطنية يعبدون البهاء
عبادة حقيقية، ويدينون بألوهيته وربوبيته، ولهم شريعة خاصة بهم، وكان عباس
أفندي محجورًا عليه في عكا، فلما صارت الحكومة العثمانية دستورية تسنى له أن
يخرج من عكا، وقد جاء الإسكندرية في هذا الشهر، وكتب مدير المؤيد نبذة عنه،
وصفه فيها بالعالم المجتهد، وبالتضلع من العلوم الشرعية، والإحاطة بتاريخ
الإسلام، وقال: إن أتباعه يعدون بالملايين وأنهم (يحترمونه إلى حد العبادة
والتقديس، حتى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا) ، ثم قال مدير المؤيد: (ولكن كل
من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الاطلاع، حلو الحديث، جذابًا للنفوس والأرواح،
يميل بكليته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب
(وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني، تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة
فروق التعصب للدين أو الجنس أو الوطن أو لمرفق آخر من مرافق الحياة
الدنيوية) .
أقول: إن عباس أفندي رجل عظيم سياسي جذاب الحديث، يخاطب كل أحد
بما يرى أنه يرضيه ويعجبه، وكان منذ ثلاثين سنة يجيء بيروت فيصلي الصلوات
الخمس مع المسلمين، وكذلك كان يعامل المسلمين في عكا، يجتمع بالعالم السني
فيوهمه أن فرقتهم لم يكن همها من الإصلاح إلا إزالة تعصب الشيعة وتقريبهم من
أهل السنة، والتوفيق بين الطائفتين كما سمعت ذلك عنه من شيخنا الشيخ حسين
الجسر (رحمه الله) ، وهو في الحقيقة زعيم دين جديد في بعض تعاليمه ومسائله،
وإن كان مبنيًّا على أصول الباطنية الذين منهم الإسماعيلية والقرامطة والدروز
والنصيرية، وهم يدعون المسلمين إلى دينهم بدعوى أنهم منهم، ويريدون أن
يجعلوهم على بصيرة في دينهم: أي وثنيين يعبدون البشر فيالله من هذا الارتقاء
والتقدم بالرجوع إلى الوراء، وكذلك يدعون النصارى بتسليم ألوهية المسيح وادعاء
أنه هو البهاء، وقد جعل قدماؤهم للدعوة أصولاً وأساليب حكيمة بيّنها المقريزي؛
وغيره من المؤرخين كالتشكيك في آيات القرآن وتأويلها بما تتبرأ منه اللغة والدين
كتأويل البهائية السموات السبع بالأديان، واختصام الملأ الأعلى باختصام أولاد
البهاء عباس وإخوته، وتفسير {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ
الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: ٢١٠) بظهور البهاء وأتباعه، فهو إلههم وأتباعه
ملائكته، وعندهم أن القيامة قد قامت بظهور الباب والبهاء.
ولما كان ما ذكره المؤيد عن عظيم القوم يوهم أنه من علماء الإسلام المجتهدين
في الدين كالأئمة الأربعة مثلاً، وأن سياسته كسياسة الماسون، وكان هذا مما يسهل
عليه نشر دعوته في مصر ويحمل من يغتر بظاهر كلام المؤيد على الثقة به، رأيت
أنه يجب عليّ أن أنبه الناس إلى الحق الذي أعتقده بعد الاختبار الطويل، وما قرأته
وسمعته عن هؤلاء القوم، وما قرأته في كتبهم، وما جرى لي من المناظرة
والمحاورة مع داعيتهم بمصر ميرزا أبي الفضل.
أقول: إن عباس أفندي ليس إمامًا من أئمة المسلمين المجتهدين، وللمؤيد أن
يقول: إنه عنى بالمجتهد معناه اللغوي لا الأصولي، بل لا يعد من علماء المسلمين
لأن قومه ليسوا منهم، ولكن لا ننكر أنه مطلع على تاريخ المسلمين وعلومهم،
واجتماع مدير المؤيد به مرتين لا يكفي للحكم بإحاطته بالتاريخ، وتضلعه من العلوم
الشرعية، وقوله: إن أتباعه يعدون بالملايين غير مُسلَّم أيضًا، وطالما سمعناهم
يدَّعون ذلك؛ لأنه مما يجذب الناس إليهم، بل يجعلون هذا دليلاً على أحقية دينهم،
وقد سبق لي كلام معهم في ذلك، والمؤيد أخذ ذلك عنهم بالتسليم.
وأما مسألة وحدة الإنسان، فإنما يعنون بها دعوة الناس إلى دينهم المبني على
عبادة البشر وتقديسهم، حتى قال داعيتهم أبو الفضل في أحد الملاهي العامة بمصر
في البهاء: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن
العزيز الجبار المتكبر) ، فتلونا نحن فاصلة الآية {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور: ٤٣) ، والمسلمون يدعون إلى اتحاد البشر واتفاقهم على عبادة الله وتقديسه
وحده، وجعلهم أخوة في الإسلام، لا يفرق بينهم تعصب لدين ولا جنس ولا وطن
ولا غير ذلك، والنصارى يدعون أيضًا إلى وحدة الإنسان في النصرانية، وعبادة
المسيح عبد الله ورسوله (عليه السلام) ، فبماذا امتاز البهائية.
ألا فليعلم الناس أن هؤلاء الباطنية قد قصدوا في وضع تعاليمهم الأولى محو
الإسلام، وإزالة سلطانه من الأرض، وضعها بعض مجوس الفرس لمَّا فتح
المسلمون بلادهم وأزالوا ملكهم، واستعانوا عليها بالشيعة وهو حزب سياسي يرى
أن الحكومة يجب أن تكون (أرستقراطية) للأشراف من آل بيت النبي (صلى الله
عليه وسلم) ، فصاروا يبثون دعوتهم في هذا الحزب بحمله على الغلو في بُغْض
عمر بن الخطاب الذي فتح بلادهم، وأبي بكر وجمهور الصحابة الذين كانوا أقرب
إلى القول بحكومة الشعب (الديمقراطية) وقد وجد هذان الحزبان في الإسلام، ووجد
فيهم حزب الفوضوية أيضًا وهم الخوارج، كما وجد ذلك عند غيرهم؛ لأن وجود
هذه الأحزاب السياسية طبيعي في البشر، وكذلك خَلْقُ الغلُوِّ طبيعي في البشر؛
ولذلك نجح الباطنية في دعوة غلاة الشيعة إلى تكفير جماهير الصحابة، ورميهم
بكتمان بعض القرآن، ولم يدروا أن ذلك يعدّ طعنًا في أئمة آل البيت الذين
يتعصبون لهم؛ لأن رئيسهم عليًّا كرم الله وجهه كان يحفظ القرآن كله، فلماذا لم
يظهر المكتوم؟ إنهم يجيبون عن هذا بما لا يقبله ذو عقل مستقل كالتقية، وما كان
عليّ بالجبان فيخاف في إظاهر أساس دينه أحدًا، على أنه كان يمكنه أن يبث ذلك
سرًّا في آل بيته وشيعته، وغرض الباطنية إخراج الشيعة من الإسلام، كما كانوا
يريدون إخراج غيرهم، ولكنهم خابوا ولا يزالون خائبين، وللمسلمين من الشيعة
وغيرهم السلطان والبرهان الغالب عليهم، ولمَّا ظهر غلاة المتصوفة توسل الباطنية
بهم إلى مقصدهم أيضًا، فأضلوا كثيرًا من الناس، ولكن الإسلام ظل غالبًا على
أمره في الصوفية أيضًا إلا من كان أو صار من الباطنية، وسنزيد هذه المسألة بيانًا،
وعسى أن ينشر مدير المؤيد هذا في جريدته؛ ليزيل الإيهام الذي علق بالأذهان
من كلامه، ولا يعقل أن يكون مقصودًا له؛ لأن آحاد العامة المتهاونين في الدين لا
يمهدون السبيل لدعوة دين وُضِعَ لمحو دينهم، فكيف يفعل ذلك مثل مدير المؤيد؛
وهو من يعدّ من خواص المسلمين في علمه وسياسته.
ومن أراد أن يعرف تاريخ هؤلاء البابية وشيئًا من التفصيل في دينهم،
فيطالع كتاب مفتاح الأبواب تأليف الدكتور محمد مهدي خان، وثمنه خمسة عشر
قرشًا صحيحًا، ويوجد في مكتبة المنار وغيرها.

* * *
(أمير مكة المكرمة الشريف حسين)
سعيه المشكور في نَجْد
علمت منذ أشهر وأنا في الآستانة أن الأمير سافر من الطائف إلى نجد في
عسكر لَجِب من العرب الخاضعين له، وأن قصده من ذلك منع أمير نجد عبد
العزيز بن سعود من أخذ الزكاة من قبائل عتيبة التابعة للشريف والاعتداء عليهم؛
لأن أمير مكة هو الذي كان يأخذ زكاتهم، ثم عقد الصلح بين ابن سعود وابن
الرشيد، وبلغنا أن والي الحجاز عرض يومئذ على الشريف أن يأخذ معه ما شاء
من العسكر فأبى، وكان ذلك حكمة منه تدلّ على بُعْد نظره وسَعَة علمه بأخلاق
العرب وطباعهم، وقد ظهر أثر ذلك، فإنه أدرك ما أراد، ولم يسفك دمًا، ولا زاد
القبائل خلافًا وعدوانًا فيما بينها وبعدًا عن الدولة وتنكرًا منها وسوء ظن بها، كما
كانت تفعل بعثات الدولة العسكرية، بل أصلح إصلاحًا لم يُسْبق إلى مثله، فدل
عمله على فساد رأي الذين يريدون إلغاء إمارة مكة دفعة واحدة، ورأي الذين يرون
أن تلغى سلطة الشريف أولاً ثم تلغى وظيفته، ولا خير في هذه الرأي للدولة ولا
في ذاك بالأَوْلى، وأن محاولة سياسة عرب الجزيرة ولاسيما الحجاز وإدارتهم
بالقوانين التي تنفذ في أوربة العثمانية، تعدّ ضربًا من الجنون والاعتماد في
إخضاعهم لها بالقوة فن آخر من الجنون أشد مما قبله خطأ وخطرًا.
قرأنا في الجرائد أن الشريف فاز وأفلح فيما أراد، ونحن نعلم أن عبد العزيز
ابن سعود كان قد استعد للقتال؛ لما سمع بزحف الشريف على نجد؛ ظنًّا منه أنه
زحف بعسكر نظامي للقتال وإخضاعه بالقوة القاهرة، حتى إنه كتب في أواخر
شعبان إلى سليمان بن جبري وجماعته أهل القوعية، يأمرهم بالنفير العام، قال في
كتابه: (ولا يتبرصن منكم أحد، وترى أعرفكم عرقكم رطب لهل فزع، لكن والله
ما يذكر أحد متخلف تكون عقوبة الله عليه، الله الله في العجلة لغاية ما يكون)
ولكنه لم يذكر السبب ولا اسم الشريف، ثم علم ابن سعود أن نية الشريف صالحة
ومطلبه حق، وأن القبائل الموالية له تحارب معه كل أحد إلا الشريف، وأنه قد انضم
إلى عسكر الشريف ألفا خيال عربي من القبائل التي مر بها في طريقه إلى نجد،
فعلم أن الخير له في السمع والطاعة، ثم إن الشريف أسر أخاه (سعدًا) فعظم عليه
ذلك، ولولا ثقته بوفاء الشريف لتهوّر وأقدم على الحرب بمن معه، فإنه ما نكر
عرب الجزيرة من رجال الدولة وقواد عسكرها إلا عدم الوفاء، والوفاء هو الخلق
الذي كانت تدين به في جاهليتها وزاده الإسلام تأكيدًا عندها.
لو شاء الشريف لدخل نجدًا، وأسر أميرها عبد العزيز بن سعود آل فيصل أو
قتله إن لم يفر هاربًا، ولكنه لحكمته وسياسته العالية لم يفعل، وقد خضع ابن سعود
له وأجابه إلى كل ما طلبه، وأرسل إليه أخاه عبد العزيز عبد الله آل سعود بهديته
النفيسة؛ وهي (الصقلاوية والمحمداني وكحيلان) وهي أكرم الخيل العربية في
نجد، وجاءنا من أخبار الحجاز ونجد أنه قد تم الاتفاق بينهما على الأمور الآتية:
كتب بها ابن سعود (تعهدًا) أمضاه وختمه، وأرسله إلى الشريف وهي:
١- عدم التعرض لعتيبة كافة بحال من الأحوال؛ من تنزيل أو ترحيل أو كل
ما يحسب، ويعدّ من التعرض عليهم من زكاة أو خلافه.
٢- عدم أخذ الباج (المكس) منهم بأي صورة كانت من أي قرية أمدوها،
وإذا وقع منهم ما يخالف يخبر عنه.
٣- طاعة أمير مكة في كل ما يأمر به، حسبما تقضيه حقوق ومنافع الدولة
العلية.
٤- القصيم وهو بريدة وتوابعها على خيرة أهله إن جاءت مضبطة منهم؛
بأنهم يختارون إمارة الأمير عبد العزيز بن سعود صاحب هذا التعهد، يبقون تحت
يده ويدفعون ثلاثة آلاف مجيدي سنويًّا باسم الخزينة العامرة السلطانية بمكة المكرمة،
وإن لم يجئ منهم مضبطة يُعَّين أميرهم برضاهم، ويدفعون المبلغ المذكور على
كل حال. وموعد المضبطة يمتد إلى آخر شوال.
هذا ما تقرر وتعهد بإنفاذه ابن سعود، وكتب وأمضاه وختمه وأشهد على نفسه
فيه كبار قومه؛ وهم محمد بن عبد الرحمن السعود وسعد بن عبد الرحمن السعود
وسعيد بن عبد الرحمن السعود، والشيخ عبد الله عبد اللطيف ومحمد بن سعود بن
عيسى وعبد الله بن إبراهيم العسكر. وإمضاء ابن سعود هكذا (خادم الدولة والملة
والوطن أمير نجد ورئيس عشائرها عبد العزيز السعود) .
وقد أطلق الشريف سراح أخيه سعد، فعاد معززًا مكرمًا يثني أطيب الثناء
على عناية الأمير الشريف به، ووضع الشريف محمد بن هندي شيخ قبائل عتيبة
وكيلاً له في نجد، وكذلك خضع ابن الرشيد، وأرسل الهدايا إلى الشريف، ودان
لأمره في عدم التعرض لعتيبة وفي الكفّ عن محاربة ابن سعود، ويقال: إن ابن
السعود وابن الرشيد كليهما عزما على التشرف بزيارة الشريف، وإنهما ربما
حضرا في الموسم.
أليس هذا الاتفاق والسلام خيرًا مما كان في عهد الاستبداد المشئوم من إغراء
ابن الرشيد بابن سعود، وإيقاع العداوة والبغضاء بين القبائل؟ أليس من العجب أن
يوجد في الدولة الآن من يظن أن اتباع خطوات عبد الحميد في هذه السياسة
السوءى هو الذي يحفظ سلطة الدولة، أليس أعجب منه أن يتوهم آخرون أن
السياسة والإدارة يجب أن تكون بالقهر والشدة والبأس والقوة لا بالعدل والحكمة، ألا
يعتبر رجالنا بإدارة الإنكليز في السودان، وكيف استمالوا إليهم العرب والزنوج؟
حتى إن فرنسة أرسلت وفدًا إلى السودان ليتعلم كيفية الإدارة فيه؛ لعل فرنسة تتبعها
في إفريقية، ألا يعتبرون بسياسة إنكلترا فيما جاور عدن من بلاد اليمن؟ لو عرف
هذا ذلك الضابط الذي خطب في (ديكي جامع) بعد صلاة أول جمعة من رمضان
خطبة استحسن فيها إلغاء إمارة مكة، لَمَا فاه بكلمة في ذلك؛ فعسى أن يترك هو
وأمثاله السياسة، فالأُمة محتاجة إليهم فيما تعلموه من فن الحرب والدفاع، وحسْبها
سياسة طلعت بك وإخوانه.
فعلى كل عثماني أن يشكر الشريف الحكيم أمير مكة المكرمة عمله السلمي
وإدارته المثلى، وعسى أن تشكره له الحكومة الدستورية بإناطة إصلاح جميع
عرب الجزيرة بحكمته وتفويضها إلى رأيه، فقد عمل لها بغير إهراق دم ولا إنفاق
درهم ما عجزت عن مثله حكومة الاستبداد؛ بسفك الدماء وخسارة الأموال في
السنين الطوال.
ومن أخبار الحجاز أن قبائل غامد وزهران (في حدود اليمن) الذين كانوا قد
انحرفوا عن الشريف ووالوا الإدريسي، قد ندموا على ما كان منهم، وطردوا وكيل
الإدريسي الذي كان عندهم، وتبرءوا منه، وأرسلوا (مرابيطهم) إلى الشريف
بالطاعة والانقياد، وأما قبائل حرب فهم في خوف ووجل، وينتظر أن يلْقُوا إلى
الأمير الشريف السلم؛ لئلا ينكل بهم تنكيلاً، فنسأل الله تعالى أن يوفقهم لما فيه
حقن الدماء وسعادة البلاد المقدسة في ظل الدولة الدستورية أيدها الله تعالى.
* * *
(الإصلاح في حكومتنا الدستورية)
يسائلني الناس مشافهة ومكاتبة عما عملته الحكومة الدستورية من الإصلاح
والفرق بينها وبين الحكومة الاستبدادية الغابرة، فأما الفرق فهو مثل الصبح ظاهر
وهل يماري في الصبح إلا الأعمى أو المكابر، كنا في آخر عهد الاستبداد على شفا
جرف من الخطر، يتربص بنا الهلاك نفسًا بعد نفس، وقد قال: لي صديق لي من
ضباط أركان الحرب في الآستانة: لو أن البلغار حاربتنا عقب الانقلاب، لدخلت
علينا العاصمة من الطاق والباب، والآن نقدر أن نحارب البلغار واليونان
والصرب والجبل الأسود في وقت واحد، ونرجو بحسَب ما تفيده قواعد فن
الحرب أن نكون الغالبين. فأبشر قراء المنار بأن الإصلاح الذي وُفقنا له في جيشنا
عظيم، ويليه الإصلاح في البحرية، فالهمة المبذولة فيه عالية، ولكن فتك عبد
الحميد في البحرية كان أشد من فتكه في سائرالنظارات، فنحتاج إلى زمن طويل
لإصلاحها كما يجب. على أن المدرعتين اللتين اشتريناهما من ألمانية قد جعلتا لنا
قيمة بحرية عظيمة عند جارتنا في البحرين الأبيض والأسود (اليونان وروسية) ،
وأن سائر النظارات موجهة وجوهها إلى الإصلاح، ولكن ليس عندنا من رجال
الإدارة مثلما عندنا من رجال الحرب، فلا بد من الانتظار والأمل، وعندي أن
مجلس الأمة لم يأت بأقل مما كان ينتظر منه وهو في بدايته، والرجاء في الانتخاب
الآتي أكبر، ولعنا نشرح ما سمعناه واستفدناه في الآستانة من آراء الوزراء والكبراء
والأعيان، ورجال جمعية الاتحاد والترقي وغيرهم من أصحاب الرأي في
إصلاح الدولة ومستقبلها، ونجعل ذلك محاورة خيالية في صورتها حقيقية في
معناها؛ إذ لا يجوز لنا أن نصرح بأسماء أصحاب تلك الآراء المختلفة.
ومما علمته في الآستانة؛ أننا كنا مخطئين في اعتقادنا أن فتنة ٣١ مارث أو
(١٣ إبريل) ؛ كانت لإسقاط الدستور وإعادة الاستبداد، فالصواب أنها كانت
لإسقاط جمعية الاتحاد والترقي ومنع سيطرتها على الحكومة، وسمعت هذا من
بعض رجال الجمعية المستقلين. وأما كون محمود شوكت باشا ليس عمريًا فاروقيًا
في نسبه لأبيه، فقد علمناه قبل رحلتنا إلى الآستانة، فوالدته عمرية ووالده من
(الفلمن) ، ولكن أسرتهم صارت عربية وهو يصرح بأنه عربي.
* * *
(الرد على أعداء الإصلاح الإسلامي)
تركنا عملنا ورحلنا إلى عاصمة دولتنا؛ لأجل السعي العملي النافع لدولتنا
وأمتنا وديننا، وكنا ونحن مجدون في هذا السعي، نأخذ المرة بعد المرة مكتوبات
من الشرق والغرب والجنوب، يطالبنا فيها أصحابها بالرد على الدجالين والمفرقين
من أعداء الإصلاح؛ كالنبهاني والشيخ أحمد جمال التونسي، وصاحب جريدة
جديدة في سنغافورة والشيخ محسن العاملي، ويرسلون إلينا رسائل وقصائد وجرائد
لهؤلاء المفرقين طلاب المال والجاه عند العامة، فما كنا نسمح بأن نضيع شيئًا من
وقتنا؛ لمطالعة ما يرسلونه إلينا من رسائل وجرائد هؤلاء المفسدين؛ لأن الوقت
والمال قد صرفا إلى ضد سعيهم، فنحن نشكر للذين طالبونا بالرد غيرتهم،
ونذكرهم بقوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) ، ولكنني رأيت بعض إخواننا مغرورين بالنبهاني؛ لما كتبه من
الأوراد والصلوات ونحوها، فأقول لهؤلاء المغرورين: إن هذه الكتب كمسجد
الضّرار؛ صورتها خدمة للدين وهي في معناها مفسدة ضارة.
لم يكن يوجد شيء من هذه الكتب وأمثالها في القرون الثلاثة الأولى؛ وهي
بشهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) خير القرون؛ أيام كان الإسلام في كماله
الديني وإنما راج أمثال هذه الكتب في أيام ضعف المسلمين في الدين والعلم والمدنية،
وكانت هذه الكتب من أسباب ضعفهم؛ إذ صرفتهم عما أتاهم الله من المواهب
والقوى التي فاز بها سلفهم وعلقت آمالهم بالأموات، وصرفتهم عن تدبر القرآن
والتعبد به، وبما ورد في السُّنة من الأدعية والأذكار إلى أوراد من وضع الناس
الذين لا حق لهم في التشريع، فيضعوا للناس عبادات ما أنزل الله بها من سلطان،
وإن خلطوها بشيء من المأثور ترويجًا لها، وكتب النبهاني مملؤة بالروايات
الموضوعة المكذوبة والمنكرة والضعيفة الشديدة الضعف؛ ولذلك قلنا من قبل: إنه
لا يوثق بعلمه ولا بنقله.
كان لهذا الرجل جاه في حكومة الاستبداد الماضية؛ بتملقه لأعوان عبد الحميد
الذين كادوا يقضون معه على هذه الدولة، وكانوا يستعينون بقصائد النبهاني في
مدحهم ومدح سلطانهم على غش الأمة به من طريق الدين، وناهيك بأكاذيب
الشعراء المتملقين، وتأثيرها الذي يستتبعون به الغاوين، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: ٢٢٤-٢٢٦) كان النبهاني يمدح أبا الهدى لمَّا كانت كلمته عند عبد
الحميد هي الكلمة العليا، فكان يرفعه إلى الدرجات العلى، ويجعله من أئمة الدين
وأقطاب الأولياء العارفين، فلما غلبه وبزَّه عزت العابد في الزلفي قلب له النبهاني
ظهر المجن، وصار يتقرب إلى عزت العابد بذمه، ويدعي أن عزت هو ركن
الدولة والإسلام بعد عبد الحميد الذي يربو غلوه في مدحه على كل غلو.
في ظل هذا الجاه الباطل والمدح الكاذب والغش للمسلمين والعثمانيين، كان
يروج النبهاني كتبه الملفقة، وناهيك بنفوذه في المحكمة النظامية ببيروت، وكان
يمهد بذلك السبيل لادعاء المهدية لنفسه كما نقل إلينا بعض المطلعين على مخبآته،
ومن تمهيداته ومقدماته لذلك ما كان يدعيه من الرؤى والمنامات.
أين المسلمون الذين تركوا الفواحش والمنكرات، وقاموا بما ورد في الكتاب
والسنة من الفرائض والمندوبات، والأدعية والذكر والفكر، وسائر أعمال البر، ثم
وجدوا فراغًا لقراءة أوراد النبهاني وصلواته. وأين من قرأ التفسير والحديث
الصحيح والتوحيد والفقه ثم وجد فراغًا؛ لقراءة ما لَفَّقَه من الكتب، وخلط فيه بين
الحق والباطل، ألا إن أمثال هذه الكتب هي التي خدرت أعصاب المسلمين، حتى
غفلوا عن أنفسهم، فملكت الأجانب عليهم أمرهم، فليتهم كانوا كذلك الأعرابي الذي
حلف أنه لا يزيد على ما فرض عليه ولا ينقص منه، فقال النبي (صلى الله عليه
وسلم) (أفلح الأعرابي إن صدق) رواه الشيخان وفي رواية دخل الجنة إن صدق،
فإن الإسلام ما جاء لجعل أتباعه كعباد بني إسرئيل في الصوامع، ولا كرهبان
النصارى في الأديار، بل جاء ليجعلهم سادة الأرض ووارثيها لتكون لهم مزرعة
للآخرة.
يا حسرةً على المسلمين، كيف سُلِبُوا استقلال عقولهم وبعدوا عن هداية ربهم
وسنة نبيهم وسيرة سلفهم، وساروا وراء الدجالين الذين استهووهم، وسلبوا منهم
قلبوهم وأموالهم، ومهدوا بذلك السبيل للأجانب فسلبوا ملكهم، وأزالوا من بلادهم
حكم شريعتهم، فأضاعوا دينهم ودنياهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} (النحل: ٣٣) .
كان النبهاني يشغل جمهور المسلمين بكتبه وقصائده عن الأخطار المحيطة بهم
من كل جانب، وعن كل ما يجب عليهم؛ للدفاع عن دينهم وأنفسهم؛ بالخضوع
والعبودية الظاهرة للسلطان عبد الحميد ورجاله، والخضوع والعبودية الباطنة له
ولأمثاله، وما كان انتصارهم لعبادة أصحاب القبور وتأويل عبادتهم بتسميتها توسلاً
واستشفاعًا إلا تمهيدًا لأنفسهم، وقد فضح الزمان كيدهم الأول، وكلما استيقظ
المسلمون من غفلتهم افتضح كيدهم الآخر {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: ١٧٩) والعاقبة للمتقين.
ومن أراد الاطلاع على جهل النبهاني وخلطه في كتبه فليقرأ كتاب (كتاب
الأماني في الرد على النبهاني) ؛ وهو مجلدان لأحد العلماء المحققين وقد طبع في
مصر.
* * *
(الطبيب الشيخ حامد والي)
قرأنا في جرائد الآستانة ونحن فيها؛ أن صديقنا الحميم الشيخ حامد والي قد
فاز بالقدح المعلى في الامتحان الأخير لمدرسة الطب العليا في برلين (عاصمة
ألمانيا) فكان صاحب الشهادة الأولى من متخرجي المدرسة في هذا العام، فسررنا
سرورًا خاصًّا؛ أن كان هذا الفوز لمن نعده من أخصّ أصدقائنا الأوفياء، وسررنا
سرورًا عامًّا؛ أن كان السبق في أعلى المدارس الأوربية لشيخ عربي شرقي نشأ في
المدارس الدينية العربية وهي الأزهر ودار العلوم المصرية، فنهنئه ونهنئ
أنفسنا وأُمتنا به.
* * *
(وفاة أمير الألاي صادق بك المؤيد العظمي)
فُجعت الحكومة العثمانية والأمة العربية بوفاة هذه الرجل الكريم، في وقت
نرى الدولة فيه في أشد الحاجة إلى مثله (ومثل كثير في الأنام قليل) في معارفه
العسكرية والإدارية وغيرته وصدقه واستقامته وإخلاصه، فهو من الأفراد الذين
خدموا الدولة في العهد الماضي خدمًا كثيرة، ولم يَتَلوّثُوا من أدارنه بشيء، فقد
كانت أيامه كلها عملاً نافعًا، وقد ولته الحكومة الدستورية قائمقامية (أو متصرفية)
جَدّه في العام الماضي، فظهر في كفاءته وحسن إدارته مالم يظهر من أحد غيره من
رجال الإدارة بعد الدستور، فظهر أنه من أعظم رجال الإدارة كفاءة في حكومتنا،
وقد سمعنا أن العسكرية كانت عازمة على رفع رتبته لتعود إلى ما كانت (رتبة
فريق) ، ولكن أراد الله أن يرفعه إلى دار كرامته (إن شاء الله تعالى) فتوفّاه إليه
ولو كان المنار صحيفة تاريخ لأَطلْنا في ترجمته، ولكن ذكرنا هذه الكلمات؛
للعبرة بأقدار الرجال، فرحمه الله وعزَّى أسرته وقومه عنه.