للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إشكالان في حديث وآيتين

(س١٧ و١٨ من دمياط)
بسم الله الرحمن الرحيم
من مصطفى نور الدين إلى المصلح العظيم والرباني الحكيم، السيد محمد
رشيد رضا، سلام عليك أيها الوارث لهدي النبيين، المجدد لما اندرس من معالم هذا
الدين، المحيي لما أماته الناس من سنة خير المرسلين، سلام عليك وعلى عترتك
الطيبين الطاهرين، وبعد، فقد عرض لي مسألتان من مسائل الدين، وأنتم - في
نظري - أفضل من يوثق به في هذا العصر؛ فلذلك أجدني غير مرتاح إلا لما
تقولون:
الأولى: جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى:
أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا)
الحديث.
فهل المشركون من المسلمين يشملهم هذا الخروج؛ لأنه يصدق عليهم أن في
قلوبهم مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد جعلهم القرآن مؤمنين وهم مشركون
فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) فإنهم
مؤمنون بوجود الصانع وبأن الله خلقهم، وخلق السموات والأرض وسخر الشمس
والقمر: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: ٦١) ولكنهم مشركون باتخاذ الشفعاء والتقرب
إلى الوسائط من المقربين وتسويتهم برب العالمين في التعظيم والتوجه بالدعاء
والالتجاء؟ أم لا يشملهم هذا الخروج ويكون حكمهم حكم الدهريين الذين ينكرون
وجود الصانع؟ وإذا كان هذه الخروج يشملهم، فهل يشمل مشركي المسيحيين
أيضًا؛ لأنهم مؤمنون بوجود الصانع، أو لا يشملهم حيث إن شركهم يختلف عن
شرك المسلمين فظاعة وشناعة، فإنهم يعتقدون تعدد واجب الوجود؟ أما المشركون
من المسلمين فلا يعتقدون بتعدد واجب الوجود؛ بل يعتقدون تعدد المستحق للعبادة،
هذه هي المسألة الأولى، أرجو بيانها بيانًا شافيًا.
المسألة الثانية: قد نشم رائحة الاختلاف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} (الأعراف: ١٩٤-١٩٥) الآية.
فإن الصدر يفيد أن المدعوين من دون الله عباد، والعجز يدل على أن
المدعوين جماد، مع أن القرآن لا ريب فيه من رب العالمين؛ ولذا لا يوجد فيه
اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢)
بل هو كتاب متشابه أي لا ينافي بعضه بعضًا بل يؤيد بعضه البعض كما قال منزله
تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} (الزمر: ٢٣) فالرجاء
أن تزيلوا هذه الرائحة الكاذبة وتثبتوا له رائحته الطيبة الحقيقية الصادقة.
وإفادتي عن هاتين المسألتين إما أن تكون على صفحات مجلتكم المنار الشافية
لما في الصدور وإما أن تكون بخطاب خاص، إن كان هناك مانع من الأول.
وعنواني يكون هكذا:
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمياط
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين حنطر
... ... ... ... حاشية تناسب هذا المقام
إن بعض المشركين بل الغالب من أفرادهم يزعم أن جميع الآيات التي جاء
فيها تقبيح الشرك وتوبيخ المشركين خاصة بالأصنام بمعنى الجماد مع أننا لو تتبعنا
هذه الآيات التي جاءت بشأن الشرك والمشركين لوجدناها مصرحة بأن المشركين
فريقان: فريق يدعو الأصنام المجعولة تماثيل لعباد الله المقربين. وفريق يدعو
المقربين غير ناظر إلى التماثيل، فمما جاء في تسفيه أحلام الفريق الأول قوله
تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: ٩٥) {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي
أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: ٥٢) .
ومما جاء في التشنيع على الفريق الثاني قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: ٥-٦) وقوله:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} (الإسراء: ٥٦-٥٧) وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ
* كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ} (مريم: ٨١-٨٢) وقوله:
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: ٢٠-٢١) فهل يعقل أن الأصنام بمعنى الجماد
تتصف بهذه الصفات التي وُصف بها المدعوون في هذه الآيات التي جاءت بشأن
الفريق الثاني؛ إذ لا يعقل أن يتصف الجماد بالغفلة أو بضدها أو يتصف بالعداوة
وضدها أو بالكفر وضده، ولا يتأتى أن تبتغي إلى ربها الوسيلة؛ وأن ترجو رحمته
وتخاف عذابه، ولا يمكن أن تكون الأصنام بمعنى الجماد ضدًّا على المشركين يوم
القيامة ولا يتصور أن يوصف الجماد بموت أو حياة أو شعور ببعث، فمن عنده أدنى
مسكة من عقل يدرك أن جميع هذه الصفات لا تنطبق على الأصنام بمعنى الجماد؛ بل
لا تنطبق إلا على المقربين من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين الأولياء. اهـ.
* * *
جواب المنار
عن حديث من يخرج من النار، والإيمان المنجي
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) وقال تعالى: {وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنصَارٍ} (المائدة: ٧٢) وقال تعالى في سياق محاجّة إبراهيم لقومه في التوحيد
والشرك {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك، وهو نكرة
في سياق النفي يفيد أن الأمن من العذاب المقيم الذي أعده الله للمشركين خاص بمن
آمنوا إيمانًا لا يشوبه شيء ما من الشرك، وإن كان مثقال حبة من خردل.
وقد بينا حكمة ذلك في تفسير آيتي {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء:
٤٨) فراجعه في تفسيرهما من مجلد المنار الخامس عشر.
فعلم أنه لا مندوحة عن حمل حديث البخاري المسئول عنه على ما يتفق مع
هذه الآيات، وأن يراد بمثقال الخردلة من الإيمان فيه المثال للإيمان الخالص الذي
لا يشوبه مثقال خردلة من شرك، وهو الذي يعتد به في النجاة وإن لم يترتب عليه
ما يترتب على الإيمان الكامل من الآثار العملية والنفسية لأسباب منعت من ذلك،
كأن يموت المرء عقب اهتدائه إلى التوحيد الصحيح فلم يتم في قلبه، ولم يترعرع
إلى أن يكمل وتصدر عنه آثاره.
فإن لم يكن هذا هو المراد بالحديث كان معارضًا لهذه الآيات، ولا يمكن
ترجيحه عليها أو إرجاعها إليه والقول بأن مثقال حبة من خردل من إيمان مشوب
بالشرك ينجي صاحبه من النار بعد دخولها ويجعله من أهل الجنة، ولم يقل بهذا
أحد من المسلمين بل أجمعوا على أن الشرك بالله لا يغفر منه شيء، ومن تلوثوا به
من المسلمين جنسيةً لا يسمونه شركًا بل يسمونه اسمًا آخر، إلا من لم يبالِ بلقب
الإسلام كالباطنية بعد تكونهم شيعًا ذوات عصبية، ثم إنه لا يمكن جعل ذلك خاصًّا
بأمة من الأمم، ولا شك أنه يصدق على مشركي العرب في زمن البعثة أنه كان في
قلوبهم إيمان كحبة الخردل أو أعظم، وإنما المراد بحبة الخردل منتهى القلة؛ فإن
القرآن شهد لهم بأنهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق، وفيهم نزل {وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) والآيتان اللتان أوردهما السائل
في سؤاله بعد هذه الآية، لا في المسلمين الذين يشركون كشركهم، فلو كان الإيمان
بوجود الله مع اتخاذ شركاء بذلك المعنى منجيًا لكان مشركو العرب في الجاهلية
ناجين حتمًا.
أما حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، والذي حرم الله على صاحبه الجنة
فهو مبيَّن في القرآن في مواضع كثيرة جدًّا، وينقسم إلى شرك في الألوهية بعبادة
غير الله تعالى، ومخ العبادة وجوهرها الدعاء أي طلب الخير ودفع الشر في الدنيا
والآخرة، وشرك في الربوبية باتخاذ بعض الناس شارعين يحلون لهم ويحرمون
عليهم ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله فيتبعونهم، وقد شرحنا ذلك مرارًا كثيرة في
المنار في التفسير منه وغير التفسير.
والمعطِّل المنكر لوجود الله تعالى لا يسمى مشركًا، ولكنه شر من المشرك،
فإذا كان الله لا يغفر لمن يؤمن بأنه الحق الخالق الرازق إذا توجه إلى غيره معه
ودعاه من دونه، ولو ليقربه إليه زلفى، فهل يغفر لمن جحده مطلقًا؟ ولا نرى
وجهًا لتفرقة السائل بين الشرك باعتقاد تعدد المستحق للعبادة وتعدد واجب الوجود،
فإن المسلمين مجمعون على أن المستحق للعبادة هو واجب الوجود، وواجب الوجود
هو المستحق للعبادة، وهو الله تعالى، لا تصدق العبارتان إلا عليه تعالى، وإن
اختلفتا في المفهوم، والعبارة الثانية من اصطلاحات المتكلمين تبعًا للفلاسفة، فما
ذكره من الشرك واحد، والنصارى لا يقولون بتعدد واجب الوجود كما قال، ولكن
لهم فيه فلسفة لا تعقل؛ وهي التوحيد مع التثليث، أما من يتوهم أن عند الله فرقًا
بين المشركين باختلاف من أشركوهم معه في الدعاء أو غيره من خصائص
الألوهية والربوبية فهو - كما يعلم السائل الموحد - جاهل أحمق؛ إذ العبرة بحقيقة
الشرك لا بأصناف الشركاء، فلا فرق بين من أشرك به ملكًا أو نبيًّا، ومن أشرك
به كوكبًا أو حجرًا أو شيطانًا، وفي مشركي المسلمين من أشركوا بالله بعض آل
بيت نبيه بالعبادة والدعاء، ومنهم من أشركهم بالتشريع أيضا كأصناف الباطنية
وآخرهم البابية، ومن هؤلاء من انسلخ من اسم الإسلام كما انسلخ من معناه، ومنهم
من حافظ على انتحال اسمه مع لقب مذهب أو طريقة أو طائفة، ولو على سبيل
التقية، ومنهم من أشرك من دون آل البيت حتى النبات والجماد على نحو ما كان
عليه مشركو الجاهلية وغيرهم، فأما المحافظون على اسم الإسلام وشرائعه الظاهرة
فما نزغ به الشيطان بينهم جهل يسهل على العلماء إرجاعهم عنه إذا بينوا لهم
التوحيد الخالص من غير تأويل، وأما من ليسوا كذلك فقد صاروا أبعد عن الإسلام
من كثير من الوثنيين الخُلَّص، وكل ذلك معروف.
الجواب على تسمية الأصنام عبادًا
لم ير أشهر المتقدمين من المفسرين إشكالاً في إطلاق لفظ عباد على
الأصنام، فابن جرير الذي هو أشدهم عنايةً بتقرير كل ما كان يعد مشكلاً والجواب
عنه، لم يورده في الآية وفسر العباد بالأملاك. وأما من بعدهم فقد أوردوا ذلك
وأجابوا عنه. فالرازيُّ ذكر جوابين:
أحدهما: أن المشركين لما ادَّعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها
كونها عاقلة فاهمة فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم، ولذلك قال:
{فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ} (الأعراف:
١٩٤) ولم يقل (التي) .
ثانيهما: أن هذا لغو، ورد في معرض الاستهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن
يكونوا أحياء عقلاء، فإذا ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم، فلمَ جعلتم
أنفسكم عبيدًا وجعلتموهم آلهة وأربابًا؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادًا أمثالكم، فقال:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} (الأعراف: ١٩٥) إلخ. ثم أكد هذا البيان بقوله:
{فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع
وكشف المضارّ من جهتهم. واللام في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا} (الأعراف: ١٩٤)
لام الأمر على معنى التعجيز. والمعنى أنه لمَّا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على
الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية. اهـ. المراد منه، وما هو إلا شرح
لعبارة وجيزة في الكشاف لا تبلغ السطرين.
وأقول: إن تنزيل الأصنام منزلة العقلاء يؤخذ من إعادة ضمير العقلاء عليها
إن لم يؤخذ من لفظ (عباد) وأخذها من الضمير أظهر، فإن هذا اللفظ يدل
في أصل معناه على التسخير والتذليل، ولذلك قالوا: إن العبادة مشتقة من قول
العرب: طريق معبد وهو الذي سُلِكَ كثيرًا حتى صار سلوكه سهلاً؛ لكونه ممهدًا
مُذللاً. قال الراغب: والعبادة ضربان: عبادة بالتسخير، وهو كما ذكرناه في
السجود، وعبادة بالاختيار، وهي لذوي النطق. ثم قال: والناس كلهم عباد
الله، بل الأشياء كلها كذلك، ولكن بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. اهـ.
وقال في مادة سجد: السجود أصله التطأمن والتذلل، وجُعل عبارة عن التذلل
لله وعبادته وهو عامٌّ في الإنسان والحيوان والجمادات، ثم ذكر أنه ضربان: سجود
اختيار وسجود تسخير، وأن هذا عام للإنسان والحيوانات والنبات. وذكر الشواهد
من الآيات، ومنها سجود النجم والشجر وسجود الظلال كأنه جعله تابعًا للشجر.
فعُلم من هذا أن إطلاق لفظ (عباد) على الأصنام له وجه في اللغة، وعدُّه
منافيًا لإثبات كونهم جمادًا ليس قويًّا. وإنما يتجه إذا دعم بالسؤال عن نكتة إعادة
ضمير العاقل عليها، وملخص الجواب أن من سنن البلاغة العربية التي تكثر في
القرآن تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، إذا أسند إليه فعل العاقل أو اعتُقد له أو
وُصف به، فما هنا من هذا القبيل، فإن الأصنام لم تعبد بالدعاء إلا وقد جعلها
الداعون ذات علم وإرادة وقدرة، فكان الكلام معهم والاحتجاج عليهم بحسب ذلك.
ويمكن أن يبنى ذلك على أن التوجه إلى الأصنام ليس لذاتها بل لكونها تمثل
من وضعت تذكارًا لهم من الصالحين، وأنهم هم الذين كانوا يدعونهم في الحقيقة
لصلاحهم الذي جعلوهم به واسطة بينهم وبين الله عز وجل، يقربونهم إليه زلفى
ويشفعون لهم عنده، وقد ورد عن السلف ما يثبت أن الأصنام والتماثيل وضعت
لذلك، روى البخاري وابن المنذر عن ابن عباس قال: صارت الأصنام والأوثان
التي كانت في قوم نوح في العرب: أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، وأما
سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق
فكانت لهمدان، وأما نسرًا فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانوا أسماء رجال
صالحين من قوم نوح فلما هلكوا (أي ماتوا) أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا
إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا
هلك أولئك ونُسخ العلم عُبدت اهـ. وروي في هذا المعنى غير ذلك، ومنها أنهم
من أولاد نوح أو آدم. ومنه تعلم أن أصل بلية الشرك الغلو في تعظيم الصالحين
وتعظيم ما يذكِّر بهم أو ينسب إليهم، وقد ينسى المذكر بهم فيعتقد أنه ينفع أو يضر
بنفسه.