(٧) إذا بقيت الحكومة المراكشية تتسكع في ظلمات الجهالة، وتتنكب مناهج العدالة واسترسلت في إعراضها عن ملافاة الخلل، وشعب الصدوع التي تودي بمملكتها، وتهوي بها إلى هاوية الاستعباد، وتزجُ بها في عالم الخفاء، لا جرم أنه يصيبها ما أصاب جارتيها الأندلس والجزائر مما يبعث الشجن، ويزيد في الحزن، وتجيش النفوس له حسرة ما نقرؤه لهذه الأيام في صحف الأخبار عن جوائب تلك البلاد من أن المناصبة والمناوأة بلغت مبلغها بين صاحب مراكش مولاي عبد العزيز وبين أخيه الرشيد ولكل منهما حزب يعضده وينافح معه، يا سبحان الله! ما أسرع ما نسي هذان الخليفتان قصص خليفتي غرناطة المشئومين، وما حل ببلادهما؛ بسبب شقاق بينهما، ما أسرع ما ذهلا عن تاريخ الأندلس، وهي على مرمى سهم منهما. لَشَدَّ ما غفلا عن الأعداء المحدقة بالمملكة تتربص بها غير الدهر وكوارثه؛ لتلتهمها. لَشَدَّ ما غفلا عن أمر الشارع بالاتحاد، ونهيه عن التعزي بعزاء الجاهلية، كيف يفسحان بتباعد بينهما مجالاً يجري فيه العدو خيول مآربه وأطماعه؟ يوشك - إن دام الشقاق والنزاع بين هؤلاء القوم - أن تتداخل الأعداء في شؤون مراكش وتستعمرها، أو تتكفل بحمايتها، وتقوم بالوصاية عليها، كما فعلت بصُوَيْحِبَاتِها. لا ريب أن الناشئين من الأسرة الملكية في مراكش إنما يَشُبُّون على ما وجدوا آباءهم عليه؛ من البغضاء والشحناء، فإذا ترشحوا للمناصب العالية كانوا أسرع إلى النزاع والمواثبة من السيل المنحدر إلى قرارة الوادي، وهذا مما يطيل أمد الوبال والشقاء على الحكومة المراكشية، ويُمَكِّن يد العدو من ناصيتها. لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه أعداؤها التي تتربص بها الدوائر جاراتها الثلاث: أسبانيا جارتها القديمة وفرنسا التي تجاورها من جهة الشرق بمستعمرة الجزائر، ومن الجهة الجنوبية بصحراء إفريقية، فإن تلك الصحراء المتسعة كادت تخلص لفرنسا بحذافيرها وأما إنكلترا فتجاور مراكش ببوغاز جبل طارق. وإذا كانت كل من تلك الدول الثلاث تُخفي في نفسها الاستيلاء على مراكش، وتجاذب الأخرى زمام النفوذ فيها، فمَن التي يشتد ساعدُها منهن وتقوى على رفيقتيها وتستخلص ذلك الزمام؟ أسبانيا تود من كل قلبها، وصميم فؤادها، أن تستولي على مراكش لكوْن شفعتها في الجوار أحق وأقدم من شفعة فرنسا، لكنها لا تنال منها شيئًا؛ لتأخرها في الانتظام، وتضعضع قوتها، لا سيما عقب الحرب الأخيرة الأميركية؛ فإنها لُطمت فيها لطمة ألقتها لحلاوة القفا، وقد لا تستطيع معها قيامًا أبد الدهر، على أن أسبانيا عاثرة الجلد لا حظّ لها في الاستعمار؛ فان جُل أميركا كان لها، والآن لم يبق لها قل من ذلك الجل، وربما ودت، أو أملت من مناظرتيها أن يستأنياها ولا يمسا مراكش بسوء؛ ريثما يشتد ساعدها وتقوى على مغالبتهما، لكني لا أظنهما يحفلان برجائها. أما إنكلترا، فليست ممن يؤمل، أو يطمع في شيء من مراكش، لا خجلاً وضعفًا عن مقاواة فرنسا، بل لأن همها الأكبر في نصف إفريقية الشرقي، ووصل الإسكندرية برأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية، فهي إن عارضت فرنسا في مراكش، إنما تعارضها إيهامًا وإرهابًا؛ لكي تحملها بذلك على التساهل معها فيما ترومه من أمر إفريقية، وفي أطماعها في شبه جزيرة العرب وسوريا والنهرين، فإن في هذه الغنائم ما يبعث إنكلترا على السماح لفرنسا بألف مراكش. إذن مراكش لفرنسا، وإذا تمكنت من ولاية طرابلس الغرب كما سيأتي تفصيله في محله، يخلص لها حينئذ نصف إفريقية الغربي، كما يخلص نصفها الشرقي لإنكلترا، ويكونان قد اقتسما القارة شق الأبلمة. [١] (الحكومة الفارسية والأفغانية) مكانتهما في نظر أوروبا، وأطماع سواسها واحدة، وكل منهما مما يتنازعه عاملا الطمعين، ويحوم حوله نسر الأملين، الإنكليزي والروسي. الشعب الأفغاني يغلب عليه البسالة والعزة والتحمس، ولم يزل كارهًا للإصلاحات العصرية، معرضًا عن اقتباس الشؤون المدنية، مستخفًا بهبوب الأعاصير السياسية، مزدريًا باتفاقه مع جارته الفارسية، أو شقيقته العثمانية أميره لهذا العهد، ضابط لسياسة البلاد، مقبل بشراشره على الذياد، يُطمع الروسيا تارة، ويوالي الإنكليز أخرى. فالأفغانية من جرَّاء ذلك في حرز ومأمن من السقوط الآن، لكنها بعد هذا الأمير يوشك أن تقع في أيدي غلمة من الأسرة المالكة؛ يتجاذبون أطراف المملكة، ويتواثبون لتناول تاجها، وتسنم عرشها، فتهوي البلاد في عواثير الاستعباد، كما هوت من عهد غير بعيد أختُها زنجبار ذلك أن النزوان على الرئاسة الكاذبة شِنْشِنَة غريزية في أمراء الشرق، قد تبوَّأت من نفوسهم متبوَّأ النطق والإدراك، بل ربما تضاءل أثر الإدراك في نفوسهم، وضعف بصيصه في زواياها وتلك الشنشنة حية يشتد أصلها، وينمو فرعها، ويستعر شواظها، ويقوي عرامها، ألم يبلغك ما حصل في تلك البلاد منذ ثلاثين سنة من الفتن والملاحم بين أمرائها وأبناء أسرتها؟ حتى كاد يرميها بين يدي العدو، ويُنزلها على حكمه، لولا أن تداركتها الألطاف وانتشلتها يد الأقدار. ((يتبع بمقال تالٍ))