للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


تعريف وكلام عام في العربية والاستعراب
والتعريب والإعراب [*]

لا الأخذ بالتعريب يضرها ولا الإعراب ينفعها وإنما نفعها وضررها على
حسب همم رجالها.
كلام يجر إلى كلام وحديث يسوق إلى حديث، والشيء بالشيء يذكر والند مع
الند يقرر.
إن مبحث التعريب الذي خطب فيه الفضلاء هذه الأيام قد تدرج ببعضهم إلى
ذكر العرب والاستعراب، ثم جال بفكري إلى غير ما ذكروه من الأبواب فأحببت أن
أعرب الآن عن بعض ماجال بفكري مما يحوم حول هذا المبحث وهي موضوعات
متعددة أحببتُ أن أوحد الكلام فيها وآتي به مستمسكًا بعضه ببعض فلعلك تعرف
الكتاب من عنوانه، وعساك تقف على ما يعجبك في شيء من بيانه.
***
قال بعض الظرفاء: إذا كان وطن العرب شبه جزيرتهم فرأس مالهم لايزال كما
هو والربح من بعده كثير.
ونحن نأخذ هذا الكلام على وجهه من الجد صارفين النظر عن وجهه من
الظرف ونقول: نعم إننا نجد في عرب اليوم عرب أمس وزيادة.
نجد هذا في اللغة والأخلاق والعادة والحالة الاجتماعية والسياسية والجغرافية.
ولعل القارئ إذا جلى أمام نظره ما يشهد لهذا يظن نفسه في رواية تمثيلية، بيد أنها
طبيعية لا صناعية، وحقيقية لا خيالية. ميادينها الفيافي والفدافد الواسعة لا
دائرة صغيرة ضيقة، وأبطالها الملايين الكثيرة لا نفر من الناس.
ولو نشر اليوم أحد الجدود الأقدمين في أوربا مثلاً لأنكر فيها كل شيء، ولكنْ
لو نشر أحد الجدود الأوربيين في شبه جزيرة العرب لما أنكر فيها شيئًا، فإن كل ما
ترك من مأوى ومركب وسلاح وماعون وكساء وغذاء وقبائل وملاحم ومغازي
ومفاوز وفدافد يجد خلفاءه لم يحدثوا فيه حدثًا ولم يعمدوا فيه إلى تغيير. يجد الخيام
من الأوبار والجلود، ويجد السيوف والرماح والمجان والدروع، ويجد الصافنات
والعاديات والقلائص والروامل والرواحل والعشار اليعملات، ويجد الصاع
والقصاع والبرم والقدور والقداح، ويجد القمصان والعمائم والبرود والخفاف، ويجد
العصائد والخزائر والهرائس والبر والشعير والتمر والزبد والألبان، ويجد بني
صخر وبني حرب وبني عامر وبني وائل وبني بكر وبني طيء وبني فلان وفلان،
ويجد حروبًا بين هذه القبائل قائمة ونيرانًا مستعرة يتواعدون الأيام لمنازلاتهم
ويتربصون الفرص لمغازيهم، ويجد يد الطبيعية لم تزل موضوعة على حالها في
تلك الطلول والديار وهاتيك المنازل والمناهل لم تدن منها يدُ الصناعة في شيء من
الأشياء.
كانت جزيرة العرب أقسامًا وهي اليوم كما كانت: تُهامة والحجاز واليمن
وحضرموت وظفار والبحرين ونجد وبوادي الشام والعراق. كانت هذه البلاد
تختلف وهي الآن كذلك؛ فتهامة والحجاز لم يكن فيها حرث وزرع إلا قليلاً، وكان
أهلها أولي شظف في العيش غالبًا، ولا يزال القوم على هذه الحال. وأهل اليمن مع
محافظتهم على جميع عادات العرب كان لهم حرث وزرع وهم اليوم هكذا. وأهل
حضرموت وظفار والبحرين كان لهم حظ بالتجارة والاتصال بالهند مع المحافظة
على سنن العرب، ولا يزالون اليوم على هذا المنوال، وكانت نجد كالحجاز إلا في
زيادة المزارع وهي الآن كذلك، وكانت بوادي الشام والعراق ما بين قريب إلى
المعمور وبعيد عنه وشأنهم مع أصحاب الممالك على حسب القرب والبعد وهي
اليوم هكذا.
وبالجملة كان أهل هذه الجزيرة روَّادَ معايش وطلاب أداة وماعون، ويتصل
من أجل ذلك كل قسم منهم بالبلاد القريبة منهم ويقتبسون منهم شيئًا من العادات
والاعتقادات ويكون لهم معهم شأن من الشؤون في الروابط السياسية والاجتماعية
وهذا الحال عينه مشاهد اليوم فيهم بالتمام، وزد عليه أنهم كانوا في أنفسهم شعبًا
واحدًا في لغة واحدة وبيئة واحدة وعادات واصطلاحات تكاد تكون واحدة. فالبيئة لم
تتغير ولم يتطرق إليها انقسام جديد غير ما ذكر، والعادات والاصطلاحات لم تتغير
ولم يطرأ إليها من الروابط إلا ما كان يطرأ مثلها من قبل، وكذلكم اللغة لم تتغير
وكل من زعم تغيرها كان زعمه مبنيًّا على الظن والتخمين وضعف علم بالماضي
والحاضر.
فمخارج الحروف في لغة هؤلاء لا تزال كما وصفها لنا الناقلون كسيبويه
وغيره، والمصادر التي نجدها منقولة عن العرب هي موجودة اليوم في لغة هؤلاء
العرب إلا ما أوجده بعض مدوني العلوم أخذًا من اللغة نفسها وجريًا على سننها.
والاشتقاق من المصادر كله على حاله، وجميع المشتقات تدور في لغة عرب
اليوم على الوجه الصحيح، وإذا كنا نحن نتعلم بعض المشتقات تعلمًا ويتكلف
المتعلمون منَّا تصحيحها تكلفًا، فإنها موجودة لديهم بالفطرة يتلقونها وهم أطفال
وتصير المعرفة غريزية. قد سمعنا ذلك من صغارهم مثل كبارهم على حدٍ سواء
ولا يحتاج المخالف إلا تجربة بسيطة.
والألفاظ التي تدل على الأمور المحسوسة موجود مِنْهَا في لغتهم كل ما هو
في المعاجم إلا ما حدث في عهد حضارتهم واتساع دولتهم، وهذا المستثنى ليس دليلاً
على تغيُّرِهَا؛ بل هو دليل على عدم تغيرها؛ لأن بعض ما حدث في الحضارة لم
يحدث لديهم، فهم من هذه الجهة قد بقي لديهم رأس المال لم يتغير وما حدث في
الحضارة هو زائد.
وقواعد التركيب وقوانين الترتيب من التقديم والتأخير والوصل والفصل
والحصر والإظهار والإضمار والإفراد والجمع والأدوات ومواقعها وتأثيرها - باقية
أيضًا كما هي.
فإذا كانت المخارج محفوظة، والمصادر ظلت على حالها، والاشتقاق لم
تفسد طرائقه، وأسماء الأشياء لم تتغير، وقواعد التركيب وقوانين الترتيب،
وصيغ الإفراد والتثنية والجموع والضمائر كما هي؛ فأي تغير طرأ على لغة
القوم؟ !
تجد الحضري في مصر والشام مثلا يقول النساء (راحوا) وهو خطأ؛ لأن
الواو ضمير الذكور. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب فإنه يقول النساء رحن
وهو الصواب كما نقل عن الأولين.
وتجد الحضري في مصر يقول: (فلان يضرب) بفتح الراء وفي الشام
يقولون (يضرب) بضم الراء، وكلاهما خطأ. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب
فإنه يقول: (يضرب) بكسر الراء وهو الصواب كما نقل عن الأولين.
ولو أردنا أن نورد الشواهد لهذا لاحتجنا إلى مجلدات، فنحن نستغني عن هذا
بأن نحيل من لم يثق بقولنا على التجربة ومخالطة هؤلاء العرب ولو قليلاً.
وإنما يصح أن نعدّ من التغير تركهم حركات أواخر الكلم؛ هذا إذا صح أن
الأولين كانوا ينطقون بها دائمًا، وأما إذا صح ما يذهب إليه بعضهم من أن
الحركات لم يكن الأولون يستعملونها إلا في لغة الشعر وحالات مخصوصة فلا
يكون هؤلاء مبتدعين بتركهم سنة من سنن الأولين، ويصح أن نعد من التغير
إهمالهم ضمير المثنى وإهمالهم بعض الأدوات التي يقوم مقامها غيرها أو يمكن
الاستغناء عنها. فمما تركه أكثر القبائل من الأدوات (هل) استغناء عنها بهمزة
الاستفهام أو بقرينة الاستفهام، ومما تركوه (قد) التي للتحقيق والتي للتقليل
استغناءً عنها بالقرائن، وممَّا تركه أكثرهم (لم) التي تدخل على المضارع فتحيل
معنى الفعل المنفي للماضي تركوها استغناءً عنها بـ (ما) التي تدخل على
الماضي مباشرة فإن (ما ضرب) مثل (لم يضرب) بالتمام، ومما تركوه (لمّا)
التي تفيد استمرار النفي في الماضي إلى الوقت الحاضر.
هذا كل ما عرفته مما تركوه بعد إمعاني زمنًا طويلاً في مخاطباتهم وسماع
شعرهم، ورأيتهم أيضًا لا يستعملون التنوين إلا للتنكير ولا يحذفون النون لناصب أو
جازم.
وبَدِيِهِيٌّ أن هذا التغير ليس من التغير المفسد، ثم إنه لقلته غير جدير أن
يعد، فأما إهمال الحركات فهو جَائِزٌ عند أهل الإعراب في حالة الوقف. وماذا على
القوم إذا أجروا الكلمات كلها مجرى الكلمات الموقف عليها، وإذا ضممت إلى هذا
المنزع ما تعرفه من اختلاف لغات الأولين في حالة الإعراب كما نقله إلينا الناقلون لم
يصعب عليك أن تعد إهمال الحركات لغة من اللغات هي خير من بعض تلك اللغات
التي تفسد كل ما نقلوه من قواعد الإعراب؛ فقد نقلوا لنا أن بعض العرب كانوا
يرفعون المفعول وينصبون الفاعل، وليس شيء فوق هذا مما يمحق كل ما يرجونه
من فوائد الإعراب. ومن أحاط علمًا بكل ما نقل في هذا الباب أو أكثره لا يجد
قاعدة مما بنوه إلا وهي منقوضة بشيء آخر قد سمَّوه من شواذ اللغات. فأيُّ ضرر
يحدث من هذه اللغة التي تهمل فيها الحركات ويسد فيها باب الإعراب؟ ألم تروا أن
هؤلاء القوم يتفاهمون والحالة هذه تمام التفاهم؟
ولقد تقصيتُ كثيرًا من الدواوين المنسوبة إلى شعراء الجاهلية والمخضرمين
فألفيت فيها كثيرًا مما قد خالفوا فيه قواعد الإعراب مخالفةً ظاهرةً واضحةً لا تحتمل
التأويل، وإنما قلت: إنها ظاهرة؛ لأنها واقعة في القوافي، وسأفرد لهذا الموضوع
مبحثًا مستقلاًّ بَيْدَ أنني آتي هنا بأمثلة تؤيد ما قلته. قال جرير:
حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
والقاعدة تقضي أن يقول (يا عمر) بضم الراء. وقال:
فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
ولا وجه لنصب القمر، وما تكلفوه من التأويل في الإعراب غير مَرضيّ لدى
الأذواق التي سلمت من التمحل. وقال من قصيدة قافيتها نون مكسورة من بحر
الوافر:
عرفنا جعفرًا وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين
بكسر النون، والقاعدة تقتضي فتحها وليس كسرها لغة لقومه فيما روي.
وبعد هذا البيت:
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقعدن يداك دوني
وقال من قصيدة قافيتها باء مفتوحة من بحر الوافر:
ألم تران زيد مناة القوم ... قراسية تذل به الصعابا
والقاعدة تقتضي رفع الصعاب بعد قوله: (تذلّ) بالتاء، وإذا خالفنا الموجود
في النسخ المطبوعة والخطية وقرأناها (تذل) بنون المتلكمين قد يستقيم المعنى ولا
يتأذى الإعراب، فعسى أن تكون صحة الرواية على هذا الوجه. وقال من قصيدة
قافيتها راء مكسورة من الوافر:
لقد نادى أميرك بابتكار ... ولم يلووا عليك ولم تزار
والقاعدة تقضي بأن تكون الكلمة التي بعد (لم) الثانية (تزر) لا (تزار) .
وأنا لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد - هو إهمال الإعراب - بل أقصد تأييد
أن اللغة العربية التي كانت قبل ثلاثة عشر قرنًا أو أربعة عشر قرنًا أو أكثر هي
باقية اليوم في وطنها كما هي لم يطرأ عليها تغير ولاسيَّما عند أهل الخيام العريقين
بها، وأقصد أيضًا أن أذكر الناس بأن إهمال الإعراب لا يضر هذه اللغة كما لم
يضر كل اللغات الخالية منه.
وأما إهمال ضمير المثنى فلا أدري له سببًا بَيْدَ أنني لا أراه كبيرًا من الأمر؛
بل هو يخفف الكلفة فيما لا حاجة إليه. أقول لا حاجة إليه لأن الضمير لا يذكر إلا
بعد معرفة الاسم الظاهر؛ إما بذكر لفظه أو بسبق وجوده في ذهن المخاطب. فمتى
كان الظاهر معروفًا أنه مُثنى لم يبق لأجل الإفادة حاجة إلى تثنية الضمير، ولم يكن
من بأسٍ أن يدخلَ في حكم ضمير الجمع؛ لأن الجمع يصدق على ما فوق الواحد؛
فمتى قلت (الرجلان) لم يضرك من حيث المعنى أن تقول جاءوا، كما تقول ذلك
في الرجال، ومثل هذا إذا قلت (الفارس والراجل تقابلوا) بدل (تقابلا) أو إذا قلت (الفارسان غلبوا) بدل (غلبا) . ولهذا شواهد وأمثلة من اللغة الفصيحة نفسها،
وكذلك لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد في العربية، ولكنني أقصد بيان أن هذا ليس
من التغيير المفسد؛ بل هو استغناء عمَّا لا حاجة إليه.
ومثل هذا يقال في إهمالهم بعض الأدوات تخففًا منها أو استغناءً بغيرها
عنها، ولا يعزب عن الذي تَتَبَّعَ النقول أن كثيرًا من القبائل عندها ما ليس عند
غيرها، ولا يعد ترك الآخرين لمثلها تغييرًا للغة.
أَثْبَتْنَا بما قَدَّمْنَا أن رأس المال باقٍ على حاله، والآن نُذَكِّرُ القارئ بتلك
الحركة العربية التي ازدان التاريخ بأخبارِ هِمَمِ رجالِها. فقد نقلت هذه الحركة رأس
المال إلى ديار كثيرة واسعة فَرَبَا فيها وزادت الديار العربية والمتكلمون باللغة
العربية، وصارت هذه اللغة لغة علمٍ ودين وسياسة، فدونت بها الدواوين التي لا
تحصى في كل فنٍ من فنون المعارف.
وأمامنا الآن من هذا الربح حواضر عظيمة في آسيا وإفريقيا؛ ففي آسيا ديار
العراق استعربت بعد أن كانت فارسية، وحواضر الشام استعربت بعد أن كانت
سريانية وعبرانية ورومية، وفي إفريقيا مصر استعربت بعد أن كانت قبطية،
وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش استعربت بعد أن كانت بربرية، ونُسَمِّي
مجموعَ هؤلاءِ مستعربي الأقطارِ.
صارت هذه البلاد التي عددنا عربية؛ ولكن ليست عربيتها كتلك العربية
الأولى؛ بَيْدَ أن هذا النقص لا يضيرها ولا يخرج بها عن كونها عربية، ولا يعدم
أهلها سهولة إصلاحها ما دام لهم مرجع من الكتب المنقولة التي تصف العربية
الصحيحة أو من العرب الأحياء الذين هم وارثو تلك العربية.
أقول: إن هؤلاء العرب الأحياء مرجع للمستعربين إذا شاءوا إصلاح لغتهم؛
لأن حكمهم على ما أوضحنا كحكم آبائهم الأولين، ولن يمكنك أن تحيطَ خُبرًا
بمخارج الحروف مما يصفه لك كتاب سيبويه مثلاً كما تحيط بها خبرًا إذا سمعتها
من عربي من هؤلاء العرب الذين وصفناهم لك، ولن تستطيع أن تأخذ من الكتب
اللهجة العربية التي عليها المعول، فإنك تجد اليوم للطرابلسي لهجةً وللتونسي لهجةً
وللعراقي والشامي والمصري، ولا تجدُ واحدةً منه صحيحةً حتى إذا سمعت لهجة
البدوي أو الحجازي مثلاً رأيت جمالاً في اللهجة تعرفه الأذن ولا يستطيع أن يصفه
لك أحد، فإذا سمعت من هذا وذاك من أهل الحواضر ثم سمعت من ذلك العربي
ميزت وحكمت بالفرق وآمنت أن وجود العرب في وطنهم أمان من ضياع
العربية.
وأحب هنا أن أنبِّه عليّ أمرٍ ربما استدركه علي بعض المطالعين؛ وهو أن
للعرب الفاتحين بقايا ذراري في الحواضر، وأنه ينبغي أن لا يسلب هؤلاء صفة
العربية ما داموا حافظين سلسة أنسابهم؛ فجوابي لمن يقول هذا القول: إننا الآن في
صدد اللسان واللغة لا في صدد علم النسب، ولا يخفى على اللبيب أن البلاد
التي استعربت لم يكن كل أهلها من سلالة أولئك العرب؛ بل هم خليط أكثرهم من
أهل تلك البلاد الأقدمين قد غلبت العربية على لغتهم فاستعربوا من غير أن يتقنوا
النطق بالعربية كالعرب، وضاع ابن العربي في هذا المجموع من جهة اللسان إذا كان
لم يضع نسبه. ثم حفظ العلماء للكل مخارج العرب وصورة أدائهم الكلمات وأساليب
البيان.
والخلاصة أن عربية المستعربين طرأ عليها فساد؛ ولكن لها حوافظ وأن ذلك
شأنها قبل اثْنَيْ عَشَرَ قَرْنًا، وهذا شأنهم اليوم وقد كان حفظتها ينشطون حينًا وينون
حينًا.
ولعل المطالع يحب أن يعرف كيف نشاط المستعربين اليوم المنتشرين في
إفريقيا الشمالية ثم سواحل البحر الأحمر وما وراءه شمالاً إلى شواطئ الفرات
وغربًا إلى شواطئ البحر المتوسط فنقول له إن أبرَّ الديار اليوم باللغة العربية هي
مصر صانها الله وبارك عليها وعلى أهلها، وقبل أن نوضح له برها باللغة العربية
نَمُرُّ بِهِ مَرَّةً على جميع مساكن هذه اللغة حتى يكون له نصيب من كل ما يحوم حوم
مادة (ع رب) كما سبقت الإشارة إليه في صدر هذا الكلام.
من انحدر من جزيرة العرب إلى نجد ومنها إلى العراق يجد ثلاث حواضر
تتبعها بلاد كثيرة: البصرة وبغداد والموصل. فأهل ولاية البصرة كلهم يتكلمون
بالعربية، وأهل ولاية بغداد أكثرهم يتكلمون بها، وأهل ولاية الموصل أكثرهم
أكراد بَيْدَ أن حاضرة هذه الولاية عربية، وفي عربية العراق في الجملة كثيرٌ من
الدخيلِ ولاسيَّما في ولاية الموصل، والعربية في العراق واقفة على ما تركها أهل
القرون الماضية من العامية لحرمانهم من الصحافة العربية، ولولا العلماء
والمتعلمون لأضرَّ بها هذا الوقوف. ومن سار من ولاية الموصل إلى الغرب يلقى
في طريقه من الديار العربية ولاية حلب؛ وحلب محسوبة من الشام ولكن ولاية
حلب شأنها في هذا الباب عجب؛ فإن فيها كثيرًا من القرى التركية إلى جانب
القرى العربية وكل من أهل هذه وتلك محافظون على لسانهم وملمٌ أكثرُهم بلسانِ
جيرانهم، فأما أهل حلب نفسها فعربيتهم كعربية البلاد الشامية، ومن أعمال هذه
الولاية بلدة تحيط بها التركية والكردية من كل جانب، وأهلها لا يتكلمون إلا
العربية، وهي بلدة (ماردين) التي كان فيها الملوك بنو أرتق، وأغرب من هذه
بلدة أخرى في ولاية بتليس اسمها (سعرد) فإن أهل ماردين قريبون من الديار
الحلبية التي تغلب فيها العربية وأما (سعرد) فهي منقطعة عن الديار العربية أيما
انقطاع ومتوغلة ضمن الديار الكردية والأرمنية أيما توغل، وهي مع هذا محافظة
على اللغة العربية، ولعل كثيرًا من عوامها لا يعرفون سواها؛ ولكن عربية
(سعرد) هذه نمط مستقل؛ فإنهم نسوا بعض المخارج كما نسوا قليلاً من مفردات
الأسماء واستبدلوا بها من لغات جيرانهم، ومع ذلك فيها كل مميزات اللغة من
الاشتقاق وأساليب التركيب، وبالجملة هي عربية من كل وجه إلا أنها رديئة كلغات
البرابرة المستعربين في المغرب.
ومن سار من ولاية حلب إلى الجنوب يلفي ديارًا معمورة عربية محضة
تتجزأ إلى أربع ولايات: ولاية سورية (دمشق) ومتصرفية لبنان وولاية بيروت
ومتصرفية القدس، ولا أعرف بلادًا تختلف لهجةَ أَهْلِيهَا بمقدارِ ما تختلف لهجة
أهل هذه البلاد؛ ولكن الدخيل في لغتهم قليل كما هو الشأن في مصر، ولم يبق في
الشام ممن يتكلمون بلغة قديمة إلا قرية أو قريتين يتكلمون بالسريانية فيما بينهم على
ما بلغنا، ومثل هذه المحافظة على لغة ما أكثر من ألف عام في محيط كله أجنبي
عن هذه اللغة من غريب الأمور.
والعربية في الديار الشامية أمثل منها في العراق كله؛ لأنها غير واقفة هنا
على عاميتها الأولى كما هو الأمر هناك؛ بل هي سائرة مع الارتقاء الذي أحدثته
الصحافة في اللغة في مصر وسورية، ومن عرف العامية في البلاد الشامية قبل
ثلاثين سنة وعرفها اليوم يشعر بالفرق العظيم الذي أشرنا إليه.
فإذا جاوزنا البر الأسيوي إلى العدوة الإفريقية، وهبطنا فيها مصر نجد أمامنا
العربية كما تركناها خلفنا، فإذا سِرْنَا من مصر إلى الجنوب، وَجَدْنَاهَا في السودان
المصري، وإذا سِرْنَا منها إلى الغرب ألفيناها في طرابلس فتونس فالجزائر
فالمغرب الأقصى.
ومن غرائب المصادفات أننا كما نجد مصر واقعة في ملتقى جغرافي بين
عرب المشرق وعرب المغرب نجد عربيتها أيضًا في ملتقى حيوي بين العربية
المشرقية والمغربية؛ فعربية مصر أقرب إلى العربية الصحيحة من سائر عربيات
الأقطار المستعربة، وما قرب منها أو بعد من المشرق أو المغرب كان قربه إلى
الصحة على نسبة قربه من هذا الملتقى؛ فلغة الشام - وإن خالفت لغة مصر - هي
مثلها أو قريب منها في القرب من اللغة الصحيحة، ولغة العراق ليست كذلك، ولغة
طرابلس وتونس قريبة من لغة مصر، وليست كذلك لغة الجزائر والمغرب
الأقصى.
وتمتاز مصر على سائر الديار العربية بأمور أجلها كثرة العدد، فليس هناك
قطر عربي يقارب عدد أهل هذا القطر، فالديار الشامية - وهي جارة هذه الديار -
لا يتجاوز أهلها أربعة ملايين نسمة مع أنها تمتد من حدود شبه جزيرة سيناء إلى
جزيرة ابن عمر جنوبًا وشمالاً، ومن البحر المتوسط إلى صحراء العرب على هذا
الامتداد شرقًا وغربًا، وهي مسافة ليست بقليلة؛ ولكن هناك أسبابًا كثيرًا جعلت
سكانها قليلين، ومثل ذلك العراق باتساع المسافة، ولا يبلغ أهله أربعة ملايين،
وجزيرة العرب على اتساعها أكثرها فدافد، وليس لأهلها من إحصاء رسمي؛ لأن
البداوة هي الغالبة على أكثر بقاعها؛ لكن المشهور أن أهلها كلهم الحجازيين
واليمنيين والنجديين لا يتجاوز ثمانية ملايين، وفي إفريقيا أقاليم عربية لا يبلغ إقليم
منها في العدد مبلغ مصر؛ فالمغرب الأقصى أكبرها لا يحزرونه إلا في ثمانية
ملايين، فأين هذا من اثنيْ عشر مليونًا في مصر.
ومما تمتاز به مصر حرية الطباعة والتأليف ونشر الأفكار وسهولة الاجتماع
وتيسر التعاون، فإذا ضممت إلى هذه المزايا فوز لغتها بالدنو من العربية الصحيحة
أكثر من سائر لغات الأقطار المستعربة تبيَّن لك أن مصر جديرةٌ أن تكونَ اليومَ
عاصمةَ اللغة العربية، وأنها أجدر البلاد بأن تكون محط هذه الرحال، ومناط
هؤلاء الرجال، فأزهرها المعمور يعلِّم لنا الألوف من الشبان قواعد اللغة وحوافظها
من الضياع. ومطابعها الوافرة تُهْدِي إلينا أَنْفَسَ ذخائر الأولين وأعلام النقلة والحفظة
من الكرام الكاتبين. وعلماؤها الأفاضل لا يضنون بأوقاتهم الثمينة؛ بل يبذلونها في
العناية من كل وجه يقتضي العناية.
ولقد تعهَّد رجال من أفاضل دار العلوم أن يَخُصُّوا اللغةَ العربيةَ بعنايةٍ زائدة،
وأهدونا باكورة مباحثهم وهو مبحث التعريب (جوازه اليوم أو عدمه) فألفينا
ثمراتٍ شهية من نتاج هاتيك الأفكار الرائقة الراقية.
وعندي أن جواز التعريب اليوم وغدًا كجوازه لسلفنا أمس بديهي، بَيْدَ أن الذين
لم يروه بديهيًّا إذ مالوا إلى عدم تجويزه هم فضلاء كملة كبار العقول غزيرو المادة،
فلذلك أوجبت على نفسي أن أبحث عن سر خوفهم على اللغة الذي دعاهم للحذر
والتحذير من التعريب، وبعد الإمعان الطويل وجدت سر ذلك: هو شدة الحب للغة.
قلت: شدة الحب ولم أقل: الحب؛ لأن الحب موجود عند جمهور أبناء اللغة
وأما شدة الحب فلا توجد إلا عند بعض الأفراد من أبنائها، وشدة الحب تورث سوء
الظن والقلق أحيانًا مما لا يوجب مثله القلق، ومن أقرب الأمثلة التي شاهدتها في هذا
الباب أنني رأيت على شاطئ النيل رجلاً وزوجتَه ومعهما أولاد، ورأيت الأب نزل
بأحد الأولاد على حافة الماء ليسقيه من غير أن تراه الأم، ولم يكن من خطر قط في
المحل الذي نزل منه، فلمَّا صعد به حدثها بنزولهما فرأيتُها قد اصفر وجهها كأنها
تتوقع نزول مكروه ثم لامته لومًا شديدًا. هذا وهي ترى أنهما قد خرجا سالمين،
وتعلم أن الأب ليس أقل منها حذرًا من سوءٍ يصيب الولد؛ ولكن شدة الحب قرين
معها سوء الظن بالعواقب وإن كانت سليمة.
على هذا المثل نفهم سر حذر أولئك الأفاضل من التعريب؛ أي إدخال كلمات
في اللغة ليست منها، فإنهم على معرفتهم بأن مثل ذلك وقع في هذه اللغة نفسها فلم
يضرها يحذرون أن يضرها إذا وقع بعد الآن.
إني لا أحب أن أفيضَ في هذا المبحث على طريقة الجدل والمناظرة؛ فإن
مجيز التعريب في غنى عنه، ومانعه قد ذكرنا عذرَه في خوفه منه، وسواء أرغبنا
عن التعريب أم رغبنا فيه ما عنه في الحقيقة من محيص. ولكنني قد بينت على
غير طريقة الجدل والمناظرة لمانع التعريب أنه لا خوف من دخول كلمات أجنبية
هي قليلة مهما كثرت على لغة حية يتكلم بها نحو خمسين مليونًا متجاورين في
المساكن لا يفصل بينهم من الماء إلا تُرْعَةُ السويس. ومنهم نحو ثمانية ملايين هم
أهلها العريقون القائمون في وطنهم الأصلي. وهي لغة علوم وتاريخ ودين، وقد كتب
فيها من الصحف الملايين.
لا خوف على لغةٍ خضعَ أهلُها لحكم الديلم والترك قرونًا متطاولة من بعد ما
خضعوا لحكم أهلها مثل ذلك فلم يدخل فيها من لغاتهم إلا نزر لا يعد، قد ضاع وفني
وهضم في أحشائِها.
إنما يخاف على اللغة إذا خَلَتْ من مزاياها المعنوية، إذا خوت من العلم، إذا
خلت من الأهل، إذا فقدت كل كتبها، إذا حرمت في المجتمعات كلها كل حظ من
حظوظ اللغات الأخرى.
لو خيف على لغة من دخول الغريب فيها لكانت تركية الدولة العثمانية أحق
اللغات أن يخاف عليها؛ لأن نصف كلمها دخيل من العربي، وربعها دخيل من
الفارسي، والربع الرابع تركي وأكثره أدوات ومشتقات؛ ولكن لا خوف على لغة
ما من مثل هذا إذا سلمت أساليب التركيب وضاع أصل الدخيل فيها عند الكاتبين
والمتكلمين حتَّى صار كأنه من أصل اللغة. وإذا لم يَخْشَ على لغةٍ هذا مقدارُ
الدخيل فيها بالنسبة للأصيل؛ بل لا يكاد يوجد إلا إذا ترجمت إليها علوم أولئك
القوم أصحاب اللغات الأخرى. وأي ضَيْر على مَن يريد تعلم علم إذا سمع فيه
كلماتٍ غريبة لم يألفها اليوم وسيألفها غدًا، أليست اصطلاحات علم النحو والصرف
غريبة عند من لم يعرفها مع أنها عربية؟
قد قلت: إنني لا أحب أن أفيض في هذا المبحث. لهذا اكتفيت بما قدمت،
والخلاصة أنه لا يضر العربيةَ التعريبُ ولا ينفعها الإعراب؛ وإنما نفعها وضررها
على حسب همم رجالها، فنرجو أن يوقظ الزمانُ هممَهم من سُبَاتِها.