للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المشروع الحميدي الأعظم

لم يكن للمسلمين من شبهة في فائدة مشروع سكة حديد الحجاز إلا أنها وسيلة
لدخول الأجانب في أرض الحرمين الشريفين وقد أزلنا هذه الشبهة بالمقالة التي
نشرناها في فاتحة الجزء الماضي ونشرتها عنا جريدة المؤيد الغراء لتعم فائدتها
جميع الأرجاء. وأما ما يوسوس به بعض الناس من أن الدولة العلية لا تقدر على
إتمام هذا العمل لقلة مالها , وما ينصح به الناس بناء على هذا الإيهام آمرا لهم
بالحرص على مالهم وعدم بذله في إعانتها على العمل - فلا قيمة له في نظر المسلمين
لا سيما وهو لم يظهر إلا على صفحات جريدة المقطم التي يسيئون بها الظن في كل
ما يتعلق بالإسلام والدولة العلية. على أن الوسواس إذا صح فهو يقتضي الإعانة لا
عدمها , إذ من البديهي أن الإعانة تزيل العجز فيتم المطلوب. ومهما كان العاقل
سيئ الظن بالدولة العلية والأمة الإسلامية فإنه لا يتصور أنهما لا يقدران على إتمام
مشروع كهذا مع التضافر والتعاون , ولا أن الدولة تجمع المال من الأقطار
الإسلامية بهذا الاسم ثم تنفقه في شيء آخر إلا إذا دهمها من أوربا خطر عظيم على
حياتها التي هي حياة المسلمين اضطرها إلى صرفه في المدافعة، وهذا أمر لا يمنع
المسلمين من بذل المال لأنهم يعتقدون أن الإنفاق على هذه المدافعة هو أفضل ما
ينفق فيه المال. وأجل منافع هذه السكة الحديدية هو كونها تستهل الدفاع عن
الحرمين الشريفين في الاستقبال فما بالك إذا اضطررنا إلى المدافعة في الحال. ولا
شك أن مولانا السلطان عبد الحميد كان ولا يزال صارفًا سياسته الحكيمة إلى تأييد
السلام، وأوربا الآن مشغولة بالصين فلنا فرصة يجب أن تنتهز لإتمام هذا المشروع
العظيم.
***
(المقطم والمشروع)
لجريدة المقطم مزية لا تشاركها فيها جريدة في القطر المصري وهذه المزية
تفيد خاصةَ المسلمين في المشروعات والمصالح الإسلامية، وربما أضرت ببعض
العامة وهي أنها تنشر الآراء الشاذة والأقوال التي تنافي المصلحة وإن كانت لا
تعتقد ذلك، وكثيرًا ما تصرح بعدم اعتقاد ما تنشر وتعتذر عنه بحرية النشر. وهي
لا تكاد تنشر ما ينافي خطتها الخصوصية في السياسة كسائر الجرائد السياسية في
العالم. ومن غريب الآراء السخيفة التي نشرتها في التنفير عن سكة الحديد
الحجازية رأي بعض المحرفين والمؤولين لكتاب الله تعالى بآرآئهم الزاعم أن القرآن
الكريم يدل على عدم وجود هذه السكة بقوله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: ٢٧) وليس في الآية ما
يدل على حصر الإتيان بالمشي وركوب الضمّر، وإلا فالحصر منتفٍ بإتيان بعضهم
على غير الضُمّر من الإبل والبغال والحمير بل والخيل أيضًا وبما حكاه الله تعالى
من دعاء إبراهيم بأن يجعل الله الحرم آمنًا ويرزق أهله من الثمرات ويجعل الأفئدة
تهوي إليهم , وما أبعد فهم من يستدل بهذا على عدم وجود السكة الحديدية! !
والأقرب أنها تدل على وجودها ليكون دعاء إبراهيم مستجابًا على ممر السنين
وعلى أكمل الوجوه إذ لا خلاف في أن هذه السكة من أسباب الأمن وكثرة الثمرات
في البلاد الحجازية حيث تنقل إليهم عليها من الشام فانظر إلى هؤلاء المسلمين
الذين يؤولون القرآن بأهوائهم ويحرفون معانيه ليصرفوا المسلمين بجهلهم عن هذا
العمل النافع.
هذا ما قاله الهزاع وتلاه المذاع (الذي لقبه المقطم بالعالم الفاضل) فكتب
مقالة في المقطم سلك فيها مسلكًا آخر من التنفير عن المشروع النافع فزعم أن
المرغب فيه والمعظم لشأنه يبغض السلطان لأن المشروع بحسب زعمه لا يتم
ومتى انقطع الأمل منه تكون كراهة الناس للسلطان بقدر اعتقادهم بعظمة المشروع
فعلى هذا تكون محبة السلطان بالإخلاص محصورة بمن يقبح المشروع ويحقره
وينفر عنه، وهُم الهزاع والمذاع والمقطم وجريدة أخرى لا نذكر اسمها.
ومن عجيب أمر المذاع أنه زعم أن المسلمين يعتقدون أن بلاد الحرمين
محفوظة بالملائكة فلا يجب الاستعداد للمدافعة عنها. قال هذا غشًّا للمسلمين , وهو
لا يعتقده لأنه قرأ قولنا أن الكعبة هدمت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم
أيضًا أكثر من ذلك , ومنه أخْذ القرامطة للحجر الأسود وبقاؤه عندهم زيادة عن
عشرين سنة وربط الخيول في الحرم النبوي الشريف وغير ذلك. وتعبير المقطم
عن صاحب الآراء بالعالم الفاضل يوهم العامة أنه من علماء الدين الإسلامي وليس
منهم في شيء ولو صرح باسمه لانهالت عليه الشتائم واللعنات كما قال المقطم إذ
ينضم إلى سوء قوله معرفة الناس بسوء نيته وخبث طويته على أنهما ظاهران من
قوله.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
***
(الأمانة)
لا يزال الناس بخير ما وجد فيهم الصدق والأمانة والمروءة. وإننا نسر أن
نرى هذه الصفات الجليلة من الطبقات الوسطى والدنيا من أمتنا، فقد سقط من منشئ
هذه المجلة حافظة ورق (جزدان) فيها أوراق مالية بمبلغ يزيد على عشرين جنيهًا
وأوراق مهمة أخرى فوقعت في يد أحمد أفندي موسى , وهو تلميذ في المحافظة
الآن ومتعلم في المدرسة العثمانية , ومحمد علي البيطار في باب الخلق، فلما وجد
الأفندي المذكور اسمي على الأوراق سعى هو ورفيقه إلي من ساعتهما وأعطياني
الحافظة فشكرًا لهما وأكثر الله في الأمة من أمثالهما.
***
(أمنية)
لو أن مولانا السلطان الأعظم يجعل كل نجل من أنجاله الكرام ريئسًا للجنة
إعانة السكة الحديدية الحجازية في قطر من الأقطار الإسلامية لكان هذا من الأسباب
التي تنمو بها التبرعات نموًّا عظيمًا لا سيما إذا سافر أولئك الأمراء العظام إلى تلك
الأقطار , ولا شك أن تشريف واحد منهم إلى مصر يجعل التبرعات فيها أضعاف ما
ننتظر الآن.