للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا [*]
لصاحب السعادة أمير البيان الأمير الجليل شكيب أرسلان

إن الموضوع الذي سنخوض فيه لا نقصده لذاته بل لمتعلقه ولا نتعرض إليه
من قليل أو كثير من جهة أساسه بل تَعَرُّضنا له إنما هو من جهة مغزاه، وما يئول
إليه فقد راق لبعض الناس في الشرق حتى لبعض حكوماته والهيئات الرسمية فيه
أن يوهموا عامة الشرقيين أن الدين في أوربة منفصل انفصالاً تامًّا عن السياسة،
وأن أوربة لم تبلغ هذا المبلغ من الرقي إلا بفصل السياسة عن الدين، وأن
الحكومات الأوربية لا تُدْخِل المسائل الدينية في شئونها، بل تَعُدُّها خارجةً عن
اختصاصها.
وقد يبالغون لهم في هذه الترهات حتى يخيلوا لهؤلاء الشرقيين المساكين أن
الدول الأوربية تنظر إلى الدين كأنه غير موجود في الدنيا، وأن هذا قد كان السر
في نجاحها، وكثير من الشرقيين المساكين يصدقون هذه الأقاويل؛ لعدم اطلاعهم
على الحقائق وليس هؤلاء المصدقون بطبقة العوام؛ لأن العوام جهلهم بسيط،
والجهل البسيط أقرب إلى العلم، وأبعد عن الخطر، ولكن أولئك المصدقين بهذه
الأضاليل هم من الفئة التى تدعي أنها راقية، وأنها متعلمة وأنها عصرية
المشرب [١] الحقيقة أن هذه الفئة عندنا في الشرق مؤلفة من أنصاف متعلمين هم
من أشد الناس خطرًا على المجتمع، ومن الملائمين للاستعمار الأوربي في
الشرق؛ لأن العلم الناقص أضر بالمجتمع من الجهل التام فإن الجهل التام يقبل
أصحابه النصح والإرشاد، وأما العلم الناقص فإن أصحابه هم على حد من لا يدري
ولا يدري أنه لا يدري وفي ذلك البلاء الأعظم.
ولندخل الآن في الموضوع فنقول: منذ أشهر تخوض الجرائد الأوربية في
قضية الخلاف الذي نشب في إنكلترا بين الأساقفة والحكومة من أجل كتاب الصلاة
حتى إنه لا يكاد يمر يوم إلا نجد فيه بحثًا عن هذه المسألة.
ولما كان الناس عندنا في الشرق لا يعلمون لد نبات هذا الخلاف ولا سبابه
(كذا) وكانوا يقرءون عنه ولا يفهمون الدواعي التى دعت إلى اختصام الحكومة
الإنكليزية والإكليروس الأنكليكاني في كتاب الصلاة الذي يعتمد عليه الشعب
الإنكليزي رأينا أن نشرح لهم هذه المسألة مُعَوِّلِينَ في ذلك على مقالة نشرها الأستاذ
توماغرينفود أحد أساتذة جامعة لوندرة ورأيناها منشورة في مجلة جنيف في عددها
الأخير، قال: وجد على باب كنيسة ليفربول الكاتدرائية عبارة من قلم لونج بوتون
من رؤساء الكنيسة البروتستنتية يقول فيها: إن البروتستنتية في خطر.
ولم يخطئ القسيس المذكور في هذا الحكم إذا نظرنا أنه من أجل مسألة دينية
قامت في إنجلترا أساقفة على أساقفة ووزراء على وزراء ومحافظون على محافظين،
وعملة على عملة وقد كان معظم ذلك يومي ١٣و١٥ ديسمبر سنة ١٩٢٧؛ إذ
مجلس اللوردة ومجلس العموم تحولا إلى شكل مجمع من المجامع الدينية كالتي
كان يعقدها آباء الكنيسة في القرون الأولى وأخذ الاعضاء يتشاحنون في سر
استحالة الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح وفي تناول القُرْبَان المُقَدَّس وفي
الأسرار الإلهية وفي الطقوس الكنسية بينما الجدال قائم أيضًا في المطبوعات وفي
الرعويات وفي العائلات على أشده من أجل كتاب الصلاة الجديد حتى إن أزمة
الفحم وحركة العمال وقضية استعدادات أمريكا البحرية ومشكلات عصبة الأمم
أصبحت نسيًا منسيًّا في جانب مسألة كتاب الصلاة، فبمجرد ما تلفظ الإنسان
بكلمة (book prayer) تقوم القيامة فأناس معه وأناس ضده فلا تجد إلا
متعصبًا لهذه الجهة أو للأخرى، فلماذا البرلمان يتدخل في مسألة دينية كهذه؟
الجواب هو ما سترى.
من المعلوم أن الكنيسة الإنكليكانية هي كنيسة الدولة في إنكلترا، وفي
الأصل كان الانشقاق ناشئًا عن فضائح زوجية بدت من هنري الثامن الذي كان أول
من انشق عن رومة وحمل البرلمان الإنكليزي سنة ١٥٣٤ على قرار معناه أن ملك
إنكلترا هو الرئيس الأعلى لكنيسة إنكلترا، ثم جاء بعد هنري الثامن خلفه إدوارد
السادس وأضاف إلى علم سلفه هذا طقسًا كَنَسِيًّا جديدًا أنشأه له (كرافير) سنة
١٥٤٩ ودستورًا للإيمان يشتمل على ٤٢ مادة صدر سنة ١٥٥٢ وهو دستور
مشرب بروح عقيدة كلفين، ثم إن هذه العقيدة قد هُذِّبَتْ ونُقِّحَتْ في أيام الملكة
إليزابث ولخصت في ٣٩ مادة سنة ١٥٢٦ وصارت دستورًا للإيمان الإنكليكاني
فمنها نفي رياسة البابا ونفي ذبيحة القداس , ونفي عقيدة استحالة الخبر والخمر إلى
جسد المسيح، وإنكار القول بالمطهر، وإنكار عبادة القديسين والصور، وإنكار سر
الاعتراف والغفرانات وغير ذلك، وأما الطقس الجديد الذي يشتمل على العقيدة،
وعلى المبادئ التى هي عمدة المذهب الإنكليكاني فقد انحصر في كتاب اسمه كتاب
الصلاة العامة، فهذا الكتاب محرَّر فيه نص الصلوات وترتيبها ونص العظات
والتراتيل والمراسم الدينية وإدارة الأمور المقدسة ونظام الرتب الكهنوتية وهلم جرَّا،
فكتاب الصلاة هو للإنكليز عبارة عن كتاب قداس وكتاب سواعية وكتاب مزامير
وكتاب طقوس وكتاب رتب كهنوتية وحبرية وهو يتماز بأمور كثيرة عن كتب
الكنيسة الرومانية التى انشقت الكنيسة الإنكليزية عنها، فهو أولا محرَّر بالإنكليزية،
وفيه تلخيص للكتب الدينية الضرورية للقداس الإلهي وبموجبه تنزلت الساعات
القانونية السبع إلى خدمتين كل يوم إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وهو
يلغي الأوراد وطلب الشفاعات والاستغاثات بالقديسين وبمريم العذراء ويحذف
الأماثيل المأخوذة من حياة القديسين والآباء ويختصر الفرض الكنسي والكلمات
المكررة فيه، ويطوي الاحتفال بكثير من أعياد القديسين، وعلاوة على ذلك يحدث
تغيرًا في قانون القداس ويحوله إلى معنى آخر يخرجه من معنى الذبيحة وعن
استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح، وكذلك يلغي التذكارات المتنوعة فيما
يتعلق بالموتى والصلوات على أرواحهم مما يؤول إلى الاعتقاد بالمطهر، ويبطل
على الخصوص كل ما له تعلق بسر القربان المقدس.
وفي أيام الملكة ماري التى رجعت إلى الكثلكة ألغي كتاب الصلاة هذا مدة
وجودها لكن لم يطل الأمر حتى أعيد في أيام الملكة إليزابيث سنة ١٥٥٩ ثم إنه في
أيام جيمس الأول سنة ١٦٠٤ وفي أيام كارلوس الثاني سنة ١٦٦٢ وأخيرًا في سنة
١٨٥٩ أدخلت على الكتاب المذكور تعديلات غير أساسية، فكتاب الصلاة الحاضر
هو الكتاب الذي صدر سنة ١٦٦٢ على أنه إذا كان هذا الكتاب لم يتغير منذ ثلاثة
قرون، فلا يمكن أن يقال: إن حياة الكنيسة الإنكليزية الداخلية لم يقع فيها تغيير
طيلة هذه القرون، بل هذه منقسمة إلى ثلاث كنائس: الكنيسة الدنيا وهي التي
أصحابها يمليون إلى العقيدة الكلفينية والبرسبيتيرية والكنيسة الواسعة وهي التى
أصحابها يميلون إلى الحرية والأفكار العصرية، والكنيسة العليا وهي التي أبناؤها
يميلون شيئًا إلى الكثلكة.
ففي أواسط القرن التاسع عشر هب نفر من اللاهوتيين المنسوبين إلى الكنيسة
العليا وأرادوا الرجوع إلى الكثلكة، لكن بدون خضوع للبابا ولا اعتقاد بعصمته
ومع التمسك بالرتب الكنسية الإنكليكانية فحصلت لهم مقاومة شديدة وقفتهم عند
حدهم إلا أن هذه الحركة قد تقدمت اليوم ونمت واشتدت الرغبة في استعمال
الطقوس الرومانية وفي الاعتقاد بحضور المسيح في الخبز والخمر، وتسمى هذه
الفئة بالأنجلوكاتوليك، ولقد تجاوزوا في الحقيقة حدود كتاب الصلاة الذي عليه
المُعَوَّل من سنة ١٦٦٢ وأخذوا بإقامة شعائر مخالفة لروح الكتاب المذكور ولنصه،
مثال ذلك أنهم اتخذوا الملابس الحبرية في كنائسهم كما في الكنائس الرومانية
واستعملوا البخور ورجعوا إلى ممارسة الاعتراف واستعملوا ما يقال له: بيت
الجسد مع مكان خاص لحفظ الخبز والخمر ليتمكن المؤمنون من عبادتهم في أي
وقت أرادوا فلذلك تبقى أبواب كنائسهم مفتوحة دائمًا، وفي بعض الأبرشيات نجد
بعض الأساقفة يقدمون بكل صراحة على مخالفة قواعد المذهب الإنكليكاني وطقوسه
وفي أبرشيات أخرى يغضون النظر عنها فهذه الاختلافات جعلت الصلاة العامة
المشتركة في غاية الصعوبة وأحدثت شقاقًا خطيرًا في وسط الكنيسة الإنكليكانية
يدعو إلى النظر في مسألة توحيد الطقس، ففكر الأساقفة في وجوب النظر إلى
نزعة فرقة الأنكلوكاتوليك، وفي سنة ١٩٥٦ تألفت لجنة للتدقيق في كتاب الصلاة
والنظر في تعديله فاستمرت هذه اللجنة تعمل نحو عشرين سنة، وفي شهر يناير
سنة ١٩٢٧ أخرجت مشروع التعديل الذي تقدم في ٢٩ سنة ١٩٢٧ إلى المجلسين
الروحانيين في كنتربري ويورك فهذان المجلسان لم يكن لهما إلا إبداء الرأي على
المشروع بمجمله فقد صدقاه بالأكثرية العظيمة، وخالف فيه بعض الإنجيليين
وبعض أناس من الأنكلوكاتوليك لأسباب تخالف الأسباب التي خالف من أجلها
الإنجيليون، ولكن كان لا بد من تصديق الجمعية الوطنية الكنسية المسماة
(Assembly church) التى تأسست بموجب قانون سنة ١٩١٩ لأجل
مهمة النظر في القوانين العائدة إلى كنيسة إنكلترا قبل تصديقها في البرلمان، وهذه
الجمعية مؤلفة من مندوبين غير أكليريكيين تابعين للأبرشيات ومن مندوبين
أكليريكيين ومن الأساقفة، ففي اجتماع عقدته هذه الجمعية سنة ١٩٢٧ للمذاكرة في
مشروع تعديل كتاب الصلاة قررت بأكثرية عظيمة المشروع الجديد؛ إذ وافق ٣٤ من
الأساقفة، وخالف أربعة فقط، ووافق ٢٥٣ من المندوبين الأكليريكيين وخالف ٣٧ لا
غير، وكذلك المندبون غير الأكليريكيين، أو العالمانيون فقد وافق منهم ٢٣٠ وخالف
٩٢ أما المطارين الأربعة المخالفون فكانوا مطارين فورسستر وإكزيتر ونورفيش،
وبير منغام، ولم يبق إلا طرح المشروع في البرلمان.
فقبل أن نتكلم على ما جرى في البرلمان بشأن كتاب الصلاة نرى من الواجب
أن نبين ماهية التعديلات الجديدة، فكتاب الصلاة الجديد يبقى على ما كان عليه
كتاب الصلاة المحرَّر سنة ١٦٦٣ بوجه عام، ولم يقع تغيير في النصوص التى
ارتضى بها الشعب حتى اليوم، وإنما أضيف إلى النصوص سنة ١٦٦٢ نصوص
أخرى يكون بموجبها الخيار لأبناء الأبرشيات في الترك والأخذ بحسب ميلهم، فهذه
الطريقة أرادوا بها اتقاء الانقسام فكانت نتيجتها زيادة الانقسام؛ لأنها مخالفة لروح
عهد الوحدة الذي صدر سنة ١٦٥٩ ففي هذا العهد مادة خاصة بالخدمات الدينية
تصرح بأن الشعائر التى هي تحت الاستعمال في سالسبري وهيرفورد وبانجور
وبروك ولينكولن قد ألغيت كلها وتوحدت بصورة واحدة عامة لكل المملكة فليس إذن
في جميع الاختصاصات التى يعترف بها البرلمان للكنيسة الأنكليكانية ما يخول هذه
حق الإذن بإقامة شعائر مختلفة عن الأولى، ثم إن ملك إنكلترا عندما يتوج من
رئيس أساقفة كنتربري يجب أن يقسم اليمين بأنه يحفظ كنيسة إنكلترا بتمامية
طقوسها وبعقيدتها وشعائرها ونظامها كما هي مبينة في قوانين المملكة الأساسية،
وعلى هذا يكون متعذرًا أخذ موافقة الملك على كتاب الصلاة الجديد بدون تغيير
العهود السابقة.
فمن التغييرات التى أدخلت على كتاب الصلاة نذكر أنه أضيف إلى جدول
القديسين الذين تعترف بهم الكنيسة الأنكليكانية قديسون آخرون لم يكونوا معروفين
لديها وهم مثل ماريو ليكارب القديس يوحنا فم الذهب والقديس كوتبرت والقديس
لاوون الكبير والقديس أفسلمس والقديسة كاترينة دوسبين والقديسة مونيك والقديس
باسيلوس والقديس أيزينوس والقديس برناردوس والقديس فرنسيس داسيس
والقديس أغناطيوس فهؤلاء صاروا بحسب كتاب الصلاة الجديد من قديسي الكنيسة
الأنكليكانية.
وكذلك قرَّروا الاحتفال بعيد تذكار الموتى ٢ نوفمبر بما فيه من جمع الصدقات
التي من شأنها إيجاب الاعتقاد بالمطهر، فهناك عبارة نصها: (أيها الرب الخالق
المنقذ لجميع المؤمنين امنح المؤمنين من موتانا جميع النعم التي لا توصف من آلام
المسيح حتى في يوم رجوعه يتمكنون أن يتقدموا إليه كأبناء حقيقيين) والحال أن
المادة الثانية والعشرين من المواد التسع والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني
تنكر عقيدة المطهر وتجعلها اختراعًا منافيًا لكلمة الرب، وكذلك كتاب الصلاة القديم
يلغي الصلوات التى من شأنها الاعتراف ولو من طرف خفي بعقيدة المطهر، ولا
يلزم من ذلك أن نقول: إن المطهر مذكور في كتاب الصلاة الجديد ليس ثَمَّ أدنى
صراحة به في الجديد كما في القديم، كما أن الصلاة لأجل أرواح الموتى باقية
مبهمة أيضًا في الأول والثاني، ومثل ذلك صلاة الموتى التى يقترحها الكتاب الجديد
فهي متروكة تحت خيار المؤمنين، فيمكننا أن نقول مع مطران نورفيش إن التغيير
الذي جاء به الكتاب الجديد بشأن الصلاة للأموات عبارة عن تغيير في الشعائر
العامة لا في العقيدة نفسها كما أن رئيس أساقفة كنتربري عندما كان في مجلس
اللوردة يدافع عن الصلوات الجديدة للموتى وعن عيد ٢ نوفمبر قرر بدون أن يكون
مخطئًا أن تذكار الموتى لم يكن في وقت من الأوقات مخالفًا لعقيدة الكنيسة
الإنكليزية، وأن الحرب العامة جاءت بما يؤيد ضرورة توسيع الشعائر المتعلقة
بالموتى.
ومن جملة ما زيد في كتاب الصلاة الجديد الأدعية الخاصة لأجل الملك
والأسرة الملوكية وللسلطنة البريطانية ولجمعية الأمم وكذك الإذن باستعمال القميص
الخاص والبطرشين والغفارة في أثناء مناولة القربان، نعم إن كتاب الصلاة لم
يسمح حتى الآن بلبس حلة الكهنوت التى كان يطالب بها الأنكلوكاتوليك بحجة أنها
أليق لباس بعقيدة جسد الرب.
وكذلك من جملة التغييرات إعطاء الخيار في أمر المعمودية والتثبيت والزواج
ففي مراسم الزواج بحسب الكتاب الجديد لا يسأل الكاهن المرأة كما في الكتاب القديم
عما إذا كانت تريد أن تطيع وأن تخدم وأن تحب وأن توقر الذي سيكون بعلها،
ولكن يسألها عما إذا كانت تريد أن تحبه وتوقره وتقومه وتحفظه، والسؤال نفسه
يلقى أيضًا على الزوج أي يلحظ الإنسان في ذلك إشارة دينية على المساواة
الاجتماعية بين الذكور والإناث.
وأهم التعديلات في الواقع هو ما تعلق بشعيرة الأفخارستية أي سر القربان
المقدس، وهي المتروكة لاختيار المؤمن، فهذا التخيير هو الذي أثار الثائرة الشديدة
وأوجب رد كتاب الصلاة بحجة أن فيه تسامحًا عظيمًا مع الأنكلوكاتوليك، ونظن أن
الخلاف هو في الشكل أكثر مما هو في الأساس، فالكتاب الجديد مثل القديم فيه
صيغة تقول: إن المسيح مات لأجل فدائنا، وإن هذا الفداء كان واحدًا تامًّا كافيًا كما
في المادة الواحدة والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني، فهذه الصيغة لا تنفي
تمام النفي الحاجة إلى القداس الذي هو تكرار غير دموي لقضية موت السيد المسيح
على الصليب؟ ومن المعلوم أن المذهب الأنكليكاني لا يجوز القداس مع تناول
القربان الفردي أي أن يتناوله الكاهن وحده كما عند اللاتين، فالكاهن الإنكليزي لا
يقدر أن يتناول القربان إلا إذ كان محاطًا بعدد كافٍ من المؤمنين الذين يريدون
الاشتراك فيما يسمى بالعشاء السري؛ فلأجل هذا جعلوا في شعيرة القربان
الاختيارية عبارة يلقيها الكاهن على المؤمنين في أثناء المراسم المتعلقة بالقربان
المقدس فيما إذا كان الكاهن وجد أن المؤمنين الحاضرين على المائدة الإلهية لا
يبلغون العدد الكافي لتناول القربان معًا.
ومما يجب أن لا ننساه أن المادة الثامنة والعشرين من دستور الإيمان
الأنكليكاني تنكر بتاتًا عقيدة استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح مما هو حجر
الزاوية في القداس الروماني كما قرَّره مجمع ترنتا، فليس بصحيح أن الكتاب
الجديد يتسامح في هذه القضية من حيث الأساس، ولكن مما لا ينكر أن صورة
الشعائر من جهة التخيير قد تؤدي إلى نتائج تخالف الأصل، وتحمل على الانتقاد،
ففي الكتاب القديم نص صيغة يفهم منها أن تناول القربان قد شرعه المسيح تذكارًا
لموته وآلامه، والحال أن الكتاب الجديد يحذف هذه الصيغة، ويجعل محلها كلامًا
يدل على أن الخبز والخمر هما مقدمان لله كقربان احترام وشكر حتى يمنحنا
باستحقاقات آلامه غفران خطايانا.
ثم إن الكتاب الجديد يحذف تمامًا العبارة التى في الكتاب القديم تنكر حضور
المسيح بجسده ودمه في الخبر والخمر ويَعُدّ ذلك عبارة وثنية، ويصرح بأن الخبز
والخمر لا يتغيران بعد كلمة التقديس، وأن الجسد الحقيقي للرب هو في السماء؛
ولا يعقل أن يكون في أماكن متعددة في وقت واحد، ويوجد ابتهال للروح القدس
لأجل أن يبارك ويقدس الخبز والخمر حتى يكونا فينا جسد المسيح ودمه، فهذا
الابتهال الذي يشبه من بعض الوجوه الصلاة اليونانية يؤدي إلى الاعتقاد بأن كلمات
التقديس لا تكفي لتحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح وأنه يجب لذلك تدخل
الروح القدس، وحينئذ يلزمنا أحد أمرين لا مناص من أحدهما: إما أن يكون هذا
الابتهال ضروريًّا لأجل حصول النتيجة؛ وعليه يكون الأنكليكان قد حرموا تقديس
الخبز والخمر من البداية؛ لأن كتاب الصلاة المعروف بكتاب ١٦٦٢ لا يحتوي هذا
الابتهال، أو أن يكون الابتهال لا يفيد معنى جديدًا، وعليه يكون وضعه هنا موجبًا
للخلاف بدون ضرورة، وزد على ذلك أن صيغة الابتهال تحتوي مشكلاً جديدًا في
العقيدة وهو أن الروح القدس يُبْتَهَل إليه حتى يجعل الخبز والخمر فينا جسد المسيح
ودمه، فيمكن أن يرد على ذلك بأنه إذا كان الخبز والخمر يصيران فينا جسد
المسيح ودمه، فلماذا لا يصيران هما جسد المسيح ودمه في ذاتيهما؟ فمن هنا لا
يبقى لنا إلا أن نعتقد باستحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح بصورة حقيقية،
ولكن هناك فرق؛ لأنه بحسب الكتاب الجديد عند ما يتناول المؤمن الخبز والخمر
لا يحولها الروح القدس إلى جسد المسيح ودمه إلا في المؤمن، وبعبارة أخرى
الحضور الحقيقي للمسيح في الخبز والخمر لا يتم إلا في الشخص المتناول للقربان،
وبعملية مقارنة من الروح القدس، هذا كما لا يخفي يشابه العقيدة الكلفينية وقد
سلم بها كرانمر وجرى إدخالها في الابتهال المار الذكر خيفة أن يَجُرَّ ذلك إلى عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، ففي المادة الثامنة والعشرين من دستور
الإيمان الأنكليكاني هذه العقيدة ممنوعة وهناك يقول: إن تقديس العشاء السري لم
يكن من المسيح شعيرة مقصودًا بها الحفظ أو النقل أو الرفع أو العبادة، فالحفظ
مقصود به إيداع الجسد محلاًّ خاصًّا، والنقل يراد به الزباح (والطوفان) والرفع
يعني القداس، والعبادة يراد بها الاعتقاد بسر القربان المقدس ما هو معروف بالتعبد
عند الأنكلوكاتوليك، وبهذه المناسبة يجب أن نظهر الفرق الكلي بين الأنكلوكاتوليك
والأنكليكان المحافظين الذين يقال لهم: إنجيليون فإن هؤلاء يرفضون التعبد
المذكور بجميع لوازمه، ولا يقولون: إن روح القدس يحول طبيعة الخبز والخمر،
بل إن الخبز والخمر ينزلان المسيح تنزيلا روحيًّا في قلوبهم لا غير، أما
الأنكلوكاتوليك فمنذ خطبة بوزي على الأفخارستية سنة ١٨٤٣ قد صارت عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر من أركان إيمانهم، وهم يحتفلون بعيد
جسد الرب الذي لم يجرؤ كتاب الصلاة الجديد أن يجعله في روزنامته، وفي
كنائسهم يوجد دائمًا بيت للجسد يتعبد له المؤمنون في كل ساعة، وعلى هذا يجب
تعديل المادة الثامنة والعشرين من قانون الإيمان التى مر ذكرها.
والنتيجة نفسها تكون للاقتراح الجديد المتعلق بحفظ الخبز والخمر لمناولتهما
للمرضى فبحسب كتاب الصلاة القديم وبحسب المادة الثامنة والعشرين من قانون
الإيمان ما يبقى من الخبز والخمر المقدسين بعد إجراء الشعيرة الأفخارستية ينقسم
بين المؤمنين الذين اشتركوا في تناول القربان، وإن وجد مريض يطلب تناول
القربان وجب على الكاهن أن يكرر الشعيرة الأفخارستية بشرط أن يوجد عدد كاف
من متناولي القربان يتناولون مع المريض، فإن لم يوجد هذا العدد الكافي فالكاهن
يكتفي بإيصاء المريض بأن يندم على خطاياه ويقنعه بأن مجرد طلبه تناول القربان
بعد كما لو تناول بالفعل، ولا يجوز أن يتناول الكاهن والمريض القربان بدون ذلك
العدد الكافي من المؤمنين إلا في ظروف مستثناة، وذلك بأن يكون المريض مصابًا
بمرض تخشى منه العدوى، فلا يجوز أن يقربه الناس وفي هذه الحالة يجب على
المريض تقديم طلب خاص للكاهن، فهذه الصعوبات الواقفة في وجه الاستمتاع بسر
الأفخارستية لم تزل موضع اعتراضات الأنكلوكاتوليك، وكانوا كلما اتسعت حركت
أكسفورد تزداد العرائض المقدمة إلى رئيس أساقفة كنتربري بطلب إصلاح شعيرة
الأفخارستية للمرضى بل نقول: إن الأنكلوكاتوليك ذهبوا إلى أبعد من هذا وهو أنهم
جعلوا في كنائسهم كلها بيتًا للجسد، وأنهم يناولون المرضى القربان المقدس عند
طلبهم إياه برغم ما يحصل لكهنتهم من توبيخ أساقفة الكنيسة.
فالذين حرَّروا كتاب الصلاة الجديد إنما أرادوا إعطاء هذه المخالفات شكلاً
قانونيًّا فأذنوا بحفظ الخبز والخمر المقدسين لكن لأجل إعطائها للمرضى فقط، ولا
يجوز أن يكون المقصد من ذلك الحفظ شيئًا آخر، ولا أن يجعل لذلك احتفال خاص،
ولا أن يوضع الخبز والخمر فيما يقال له: بيت الجسد كالذي عند الكاتوليك بل
في صوان مما يقال له أومبري وهو شيء لا يوضع على مذبح بل يكون في أحد
حيطان الهيكل.
وبالاختصار جميع المسائل المتعلقة بحفظ الجسد تكون عائدة إلى الأنظمة التى
ينشرها مجمع الأحبار، ويكون التنفيذ عائدًا إلى مطران الأبرشية، فجعل مسألة
حفظ الجسد من الأمور القانونية، وكذلك التخيير في الاعتقاد بسر الأفخارستية
أوجب سخط الإنجيليين الشديد الذين يذهبون إلى أن حفظ الخبز والخمر له قيمة
رمزية لا غير، وأن الاعتقاد بحضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر مخالف
للعقيدة الإنكليكية، ثم إن الإنجيليين يقولون: إن كتاب الصلاة القديم فيه كل ما يلزم
لأجل استمتاع المرضى بتناول القربان، وقد يمكن أجراء بعض التوسيع في نظام
التناول.
أما مسألة وضع القربان في صوان يكون مندمجًا في الحائط بدلاً من أن يكون
مرفوعًا على مذبح، فلا يمنع الأنكلوكاتوليك من التعبد للجسد، وفي هذا لا نرى
الإنجيليين مخطئين؛ لأن التساهلات التى أجريب للأنجلوكاتوليك لا تمنعهم من أن
يعترضوا على الأساقفة في الضغط على ضمائرهم بما يتعلق بهذه العقيدة، ويتذكر
الناس الرسالة التى نشرتها التيمس في ٢٨ إبريل الماضي من قلم ماكي وروس
وفيها رفض التجديدات التى وضعت لهم في كتاب الصلاة الجديد والتى كان يغض
النظر عنها مطران لندن منذ سنوات عديدة، وقد كانت هذه الخطة التى يسير عليها
بعض رجال الإكليروس الأنجلوكاتوليكي حائزة عضد رجال آخرين مثل اللورد
هاليفاكس والسير هنري سليسر اللذين كتبا إلى التيمس في ٢٠يونيو الماضي قائلين:
إن المؤيدين لهذه الخطة هم عدد كبير من المؤمنين، إذن الأكليروس الأنكليكاني
هو على بينة من أنه برغم التنبيهات والتحديدات الأسقفية يوجه فئة من قبيل ماكي
وروس واللورد هاليفاكس وآخرين من الأنكلوكاتوليك لا يحجمون عن مخالفة أوامر
الكنيسة، ولم يمض زمن طويل على الحادثة التى وقعت بين القس بولوك وبستر
وبين الدكتور بارنس مطران بيرمغنام في كنيسة القديس بولس، وكيف أن القس
المذكور قطع على المطران المشار إليه كلامه عندما كان يريد أن يمتحن قضية
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر (المطران بارنس أسقف بيرمنغام هو من
ألد خصوم الأنكلوكاتوليك، وممن يعلنون في خطبهم استحالة سر الاستحالة المسمى
بالأفخارستية أي حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، وقد استشهد مرة في
إحدى خطبه في وسط الكنيسة بأقوال محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في شهر
يناير الماضي قام أحد الناس في كنيسة وستمنستر، واحتج احتجاجًا شديدًا في أثناء
قداس الصباح وجرى في الوقت نفسه في كنيسة غوبتر في داروين عربدة شديدة
على الأنكلوكاتوليك اضطر فيها البوليس إلى دخول الكنيسة وإخراج الشعب منها.
والشكوى واقعة على الأنكلوكاتوليك من أنهم يريدون إلغاء الإصلاح
الأنكليكاني بعضه إن لم يكن كله، فالدكتور داغيل ستول مثلا وهو من مقدمي
الأنكلوكاتوليك يعلن إرادة الرجوع إلى القداس الروماني وإلى عبادة القربان المقدس
وإلى استعمال القميص التى يلبسها القسيس عند مناولة القربان وسائر الألبسة
الكهنوتية التى يصطلح عليها رجال الكنيسة الرومانية، نعم إنهم برغم هذا كله لا
يريدون الخضوع للبابا ولا يقولون بعصمته ولا يزالون بعيدين عن رومة نظير
الآخرين، ولقد ظهر من المنشور البابوى الأخير بشأن اتحاد الكنائس أن البابا أيضًا
لا يوافق عليه إلا على شرط الخضوع التام للسلطة الرومانية.
وقصارى ما في الأمر أن الأنكلوكاتوليك بدون أن يرجعوا إلى البابا يقدمون
على بدع غير مؤتلفة مع العقيدة الأنكليكانية وهذا ما يعترف به الإنجيليون
والإنكليكانيون المعتدلون، ولقد صرح الدكتور هدلم مطران إكلوسستر الذي هو من
المعتدلين بأن الأنكلوكاتوليك أصبحوا يتجاوزون مبادئ الكنيسة الإنكليكانية، وأنه
يخشى عليهم من ثورة الشعب الإنجليزي الذي بلغ صبره عليهم أمده الأقصى،
وهذا هو السبب الحقيقي في رفض مجلس العموم تصديق كتاب الصلاة الجديد.
وإن امتيازات الكنيسة الإنكليكانية في إنجلترا يقابلها فرض الخضوع للتاج
الملي الإنكليزي، فكل تجديد أو تعديل في رسوم الصلوات غير ممكن إلا بموافقة
الملك الذي هو رئيس الكنيسة الإنكلكيانية، وذلك بعد تصديق البرلمان، وقد رأينا
أن مجلس اللوردة بعد المناقشة بياض يومين كاملين صدَّق على كتاب الصلاة الجديد
بأكثرية ٢٤١ ضد ٨٨ (١٣ ديسمبر) وبرغم مهاجمات اللورد هاليفاكس من جهة
الأنكلوكاتوليك ومهاجمات اللورد كوشندون من جهة الإنجيليين قرَّر اللوردة بالأغلبية
الثقة في هيئة الأساقفة الذين كان يرأسهم رئيس أساقفة كنتربري، ولم يعهد أن حفلة
في مجلس اللوردة بلغت من الزحام ما بلغته تلك الحفلة فلم يتخلف أحد بل إن
المرضى من اللوردة حملوا إلى تلك الجلسة حتى لا يحرموا الاشتراك في تلك
المناقشة.
وكان المنتظر بعد أن جرى تصديق المشروع في الجمعية الكنسية وفي مجلس
اللوردة أن يقع تصديقه في مجلس العموم إلا أن الأمر جرى بالعكس، فالمستر
بريدجمان ناظر البحرية قدم المشروع الجديد بشيء من التثاقل والفتور والمستر
بلدوين رئيس النظار أعلن أنه يحيل هذه القضية إلى رئيس أساقفة كنتربري ويترك
المجلس حرًّا في التصويت، فالحكومة لم تتظاهر بعضد المشروع ولا رفضه لكن
ناظر الداخلية السير جونسون هيكس وهو من المتشددين في البروتستانتية نهض
وطلب رفض الكتاب الجديد قولاً واحدًا وبيَّن خطر المسامحات الواقعة في العقيدة،
وقال: إن الأساقفة الإنكليكانيين خرجوا عن صلاحيتهم بالتساهل مع الأنكلوكاتوليك
الذين يريدون وضع شعائر جديدة مخالفة لشعائر كنيسة إنجلترا فكان لكلام ناظر
الداخلية تأثير شديد لم يقدر اللورد هوك سيسل على منعه، وبعد مناقشة استمرت
ثماني ساعات (١٥ ديسمبر) رد مشروع الكتاب الجديد بأكثرية ٢٤٠ ضد ٢٠٧.
فرفض مجلس العموم للمشروع أعاد المسألة كما بدأت، وكان في نية رئيس
أساقفة كنتربري الاستقالة من منصبه الأعلى بمجرد تصديق الكتاب إلا أنه اضطر
بعد رفضه إلى متابعة جهاده وتقرر إعادة الكتاب تحت النظر والتدقيق بواسطة
مجمع الأساقفة، ثم رده إلى البرلمان مرة ثانية، والمظنون أنه تدخل عليه شروط
مشددة فيما يتعلق بقداس الخبز والخمر وفي كيفية حفظهما في الكنائس، ولكن ليس
من المؤكد أن هذه التعديلات تكون كافيةً لإرضاء المعارضين.
فالكنيسة الأنكليكانية تجتاز أزمة شديدة وهي واقعة بإزاء أحد أمرين: إما أن
تتخلص من وصاية البرلمان وتنفصل عن الحكومة انفصالاً تامًّا، وعند ذلك يكون
لها الحرية في سن القوانين الكنسية التي يراها الأساقفة مناسبة أو أن تبقى خاضعة
لقرارات البرلمان، وتجري الجزاء القانوني الصارم على المشاقين حتى يتسنى
تطهير الكنيسة الأنكليكانية من عناصر المخالفة وعند ذلك يخرج الأنكلوكاتوليك
على الكنيسة علنًا، وفي مثل هذه الحالة يزداد ضعف الكنيسة الأنكليكانية برغم
صفتها الرسمية وتزداد الشيع والنحل البالغة اليوم مائة وستين في بلاد الإنجليز،
فالكنيسة الأنكليكانية لا تكون قد فقدت في الآخر مميزاتها القومية فقط، بل تكون
زعزعت أركان القانون الأساسي الإنجليزي بصورة لا يعرف منها جيدًا مقدار
التأثير الذي سيحدث بذلك لإنجلترا وسلطنتها اهـ (ما نشر في مجلة جنيف) .
وقرأنا رسالة من جريدة الديبا بتاريخ ٣٠ يناير الماضي تشرح قصة رفض
البرلمان لكتاب الصلاة الجديد، وقد ورد فيها أن مجمع الأساقفة استاء استياءً شديدًا
من ذلك الرفض وتَفَوَّهَ بما يشبه الاعتراض على مجلس العموم، ولكن خطة
الأساقفة هذه ستزيد الأمر إشكالاً، ولقد ظهر أن الأساقفة استخفوا بالرأي العام
الإنجليزي ولم يتوقعوا من أبناء الكنيسة الإنكليكانية مثل هذه الشدة في تمسكهم
بتقاليدهم.
ومما زاد هيجان الخواطر نشر تقريرعن المحادثات التي جرت من سنة
١٩٢١ الى سنة ١٩٢٥ تحت رئاسة الكاردينال مرسييه لأجل النظر في توحيد
الكنيسة الإنكليزية مع الكنيسة الرومانية.
فالإنكليكانيون دهشوا عندما اطلعوا على كون رئيس أساقفة كنتربري هوالذي
جرت تلك المحادثات برأيه، وأنه أنفذ لها ثلاثة ممثلين حضروا منها الجلستين
الأوليين. فالإنجليز ناقمون على أساقفتهم هذا المسلك الجريء والمظنون أن
المناقشات عند ما يعود كتاب الصلاة الى مجلس العموم ستكون أشد من ذي قبل
وربما يرد الكتاب ثانية ويفضي الأمر الى انفصال الكنيسة عن الحكومة وهذا مما لا
يرضاه أكثر الإنكليكانيين.
ثم جاء في جريدة (جورنال دوجنيف) بتاريخ ٢٨ مارس أن رئيس أساقفة
كنتربري أصدر بيانًا صريحًا عن التعديلات المراد إدخالها على كتاب الصلاة، وأن
الأساقفة رجعوا عن كثير مما كانوا أرادوا حمل الناس عليه، وبالإجمال تقرَّر
إعطاء الحرية للعمل بالكتاب القديم أي كتاب سنة ١٦٦٢.
نعم إن الصلاة لأجل الملك جعلت من الشعائر المفروضة بدون تساهل، وهذا
مما يزيد الوحدة بين الحكومة والكنيسة، وأما حفظ الخبز والخمر فقد كان قرار
الأساقفة فيه حازمًا وذلك بأنه لا يجوز حفظهما إلا لمناولة المرضى لا غير، ولا
يجوز استعمالهما على وجه آخر، وكذلك محل وضعها منصوص عليه بصورة لا
تدع محلا لعبادتهما) اهـ.
نعود إلى القول بأن هذا النقل الذي نقلناه لا نقصد به المسألة المختلف عليها
بين الإنجليز من حيث هي والتي لا تعنينا من هذه الجهة، وإننا لنوقر حرمة عقائد
الناس ولا نقابلها إلا بالاعتبار التام كيفما كانت، فتعرضنا لهذا الموضوع لم يكن
لذاته.
وإنما مقصدنا إقناع الشرقيين الذين يلعب بعض المفسدين بعقولهم بأن أرقى
أمة في أوربة، بل أرقى أمة اليوم في العالم وهي الأمة الإنجليزية لا تقدر أن
تصلي إلا تحت تصديق مجلسي الأعيان والنواب، وتحت أمر الملك، وأن هذه
المباحثات والمناقشات الاعتقادية الصرفة قد جرت في مجالس دنيوية سياسية هي
أكبر المجالس من نوعها في الدنيا.
فالذين يسفسطون بكلمة فصل الدين عن السياسة وبدعوى نبذ دول أوربة
للقضايا الدينية تمامًّا يكفيهم هذا المثال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: ٣٣) .
... ... ... ... ... ... ... لوزان ٨ أبريل١٩٢٨
... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان