بسم الله الرحمن الرحيم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: ٩٧) , {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: ١٥٨) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: ١٩٧) . أما بعد: حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار: إنني في شهر ذي القعدة سنة ١٣٣٤ عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي، وكنت أتمنى ذلك منذ سنين، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها، وبعضها من قِبلي، وقد خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك وحكمها، سهل العبارة، مأخوذًا مما صح في السنة، مع الإشارة إلى أقوى مسائل الخلاف، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج، تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للغافل، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر ٢٤ منه -. *** الحج والعمرة الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة بدنية مالية، والصلاة عبادة بدنية فقط، وكذلك الصيام، والزكاة عبادة مالية فقط، ومعناه القصد إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة، وهذا النسك منه أركان وواجبات، وسنن مندوبات ومستحبات. والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من الحج غير مشروع في العمرة، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي. وهي واجبة عند بعض أئمة العلم، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج والعمرة بأن ينويهما، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام، ويسمى هذا (قِرانًا) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة، ويسمى (إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها، ثم يُحرم بالحج بمكة، ويسمى هذا (تمتعًا) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام، وعليه فدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من الحج، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه، ككفارة اليمين وزكاة الفطر. واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع أفضل مطلقًا، أو لمن لم يَسُق (الهدي) إلى الحرم. و (الهدي) ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى -، فمن ساقه من بلده أو طريقه فالأفضل له القِران. وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا - من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها أو مع الحج، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه، ثم نتحلل منها فنستبيح كل ما يباح لغير المحرم، ونذبح شاة إذا كان يوم (التروية) - وهو الذي قبل يوم عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن يتحلل بعمرة، ثم يحرم بالحج كذلك. *** الإحرام والتلبية لكل قطر من الأقطار مكان يسمى (ميقات الإحرام) لا يجوز تجاوزه بغير إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف، فمتى بلغ الميقات أحرم عنده، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما، ويلبي بما نواه بأن يقول: لبيك اللهم عمرة أو بعمرة، أو لبيك اللهم حجًّا، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة، أو بحج وعمرة. وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط. ومن أحرم إحرامًا مطلقًا قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا التفصيل صح إحرامه، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها. والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما، وهو ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية. ويستحب الاغتسال للإحرام، ولو لحائض ونُفَساء، وكذلك التطيب قبله، وأن يكون بعد صلاة، إما صلاة فرض، وإما صلاة تطوع، وأن يحرم في ثوبين نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين، وأن يكون أحد الثوبين إزارًا، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء، يوضع على العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال. فلا يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس، ولا لبس القميص والقباء (القُفطان) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء، الذي يسمى الجزمة أو الكندرة. ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة، ومن لم يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويل لمن يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين) ولا فِدية عليه عند الشافعي وأحمد لأنه لبس ذلك للضرورة، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك، بأن وجد الإزار والنعلين وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية، وهي شاة يذبحها. وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية، وإن لبس ذلك للضرورة. ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط. ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد. والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين. ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس هذا لفظ مسلم. وفي حديث ابن عباس المرفوع، أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما. فبعض العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر، وقال: لا بد من قطعهما، وبعضهم قال: إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر؛ لأنه بعده. ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه، ويجوز له أن يستظل بالمظلة (كالشمسية) وغيرها مما لا يمس رأسه، ولكن يستحب له أن يعرض رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم - لم يكونوا يستظلون في الإحرام، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ عليه قال له: أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت له، ويقال: ضَحَى الرجل، يَضْحَى ضُحًى، وضحا، يضحو، ضَحْوًا، وضَحْيًا، إذا برز للشمس أو أصابته الشمس. وأما المرأة فلم ينهها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وضع النِّقاب على الوجه، ولبس القُفّازين في اليدين، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما تستر به المرأة وجهها، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين، ومثله البُرْقُع. قال العلماء: فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس. وأما ستره عن الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر. ومن أَضَرّه لباس الإحرام، فله أن يتقي الضرر، ولو بتغطية الرأس، ومتى زالت الحاجة إلى ذلك تركه. وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبي من حين يحرم، يرفع بها صوته، فرفع الصوت سُنة للرجل، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع نفسها، وكذا جارتها. ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج، ولا يزال العرب يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -. وذلك قوله تعالى له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: ٢٧) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة. فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند الجمهور. وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق. *** دخول مكة والطواف يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة. والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام) . واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى - ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛ لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف ركعتين. والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة. ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر العورة، لما رواه الشافعي والترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع في هذه العبادة. ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض والنفساء، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه، فتتربص به إلى أن تطهر، ويبتدئ من الحجر الأسود: يستقبله ويستلمه ويقبّله، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء أحد بالمزاحمة، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها، فإن لم يمكن أشار إليه بيده. ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره، فيطوف به سبعة أشواط أي: مرات. ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين؛ لأنهما على قواعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - دون الشاميين؛ لأنهما في داخل البيت. والركنان اليمانيان هما الجنوبيان، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما (الركن الأسود) إذا ذُكر وحده، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل: الركن اليماني. والشاميان هما الشماليان، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل: (الركن الشامي) وهو المقابل لبلاد الشام (والركن العراقي) وهو المقابل لبلاد العراق، وإنما يقال في تثنيتهما: اليمانيان والشاميان من باب التغليب. هذا، وإن في الحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم الذي ذكرناه، وطواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة، ووقته بعد الوقوف بعرفة، وطواف الوداع، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية، وللحاجّ وغيره أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع. *** السعي بين الصفا والمروة السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وعند الحنفية واجب غير ركن، ويشترط أن يكون بعد الطواف. وعند الملكية يجب ذلك وليس بشرط، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف، وقال الجمهور: إنه سنة لا واجب. ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف، كما ثبت في القرآن والأحاديث؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت. وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت (الكعبة) فيهلل ويكبر ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا؛ فهذه مرة، ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط، يرمل في ثلاثة منهن بين الميلين الأخضرين (وهما عمودان في جدار الحرم) . والرمَل سرعة في السعي، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من الطهارة ولكن يستحب، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه. روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: ١٥٨) وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وفي حديثه عند النسائي (ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله، وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك، فقال مثل هذا، ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة) الحديث. وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا. فينبغي أن يحفظ هذا، وأن يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته. *** تنبيه إن المكان الذي كان يرقى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه على الصفا، قد بُني عليه، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي، فمن وصل إلى أسفل البناء هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في الصعود. *** الوقوف بعرفة يخرج الحجاج من مكة (يوم التروية) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ بمصر والشام (يوم العرفة) ويسمون يوم عرفة (يوم الوقفة) محرمين؛ لأن من كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات، والسنة أن يحرم كل واحد من المكان الذي هو نازل فيه، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي، فإن المكي إنما يحرم من أهله، والسنة أن يبيتوا بمِنًى، ولا يخرجوا منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسيروا منها إلى (نمرة) عن طريق (ضب) من يمين الطريق، وهو موضع في حدود عرفة (ببطن عُرنة) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي، وهو الذي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، وخطب، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام. وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق (المأزمين) ودخول (عرفة) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا لشيء من واجبات الإحرام. ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو من خارجها. ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة. ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته. فيهلل ويكبر ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية. ويُسن الغُسل يوم عرفة، ولا يسن الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة، - وهو جبل إلال - ولا دخول القبة التي فوقة، التي يقال لها: قبة آدم ولا الصلاة فيها. والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق (المأزمين) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج منها على هذه الطريق؛ لأنه دخلها من طريق (ضب) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم، إذا جاء من طريق رجع من أخرى، كما كان يدخل المسجد من (باب شيبة) ويخرج بعد الوداع من (باب حرورة) . *** المبيت بمزدلفة ورمي الجمار بمنى يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة: ١٩٨) والوقوف عند (جبل قزح) أفضل، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر، فإذا أتوا منى رموا (جمرة العقبة) بسبع حصيات، ولا يرمون يوم النحر غيرها. وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة. وإن شاء قال مع ذلك: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا. ويستحب تكرار التلبية بين المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، ولم يصح في السنة التلبية في عرفة ولا مزدلفة، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية - أي: جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي تنتهي به المناسك. ومتى رمى جمرة العقبة، نحر هديه إن كان معه هدي. وكل ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا، وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند المالكية، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا. ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها: بسم الله والله أكبر. اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك. *** الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره، بأن يقص منه مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة. والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي، وعند الجمهور واجب لا ركن. وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء. وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة، الذي هو طواف الركن كما تقدم، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء. ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات، والأفضل أن يرميها في أيام التشريق الثلاثة، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (البقرة: ٢٠٣) . ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر مع كل حصاة. ويدعو فيطيل الدعاء. وإذا قال في دعائه: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن. *** طواف الوداع تقدم حكمه، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون مسك الختام. انتهت الأحكام ولم نشأ نشر (حِكَم المناسك وأسرارها) في هذا الجزء من المنار؛ لأنها منشورة في (باب الفتوى) من المجلد السادس عشر فليرجع إليها من شاء في ص ٦٧٥.