ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر بقلم وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم آل رضا
أشهر رجال الإصلاح في العصر الحديث ثلاثة: حكيم الشرق السيد جمال الدين، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والسيد الإمام محمد رشيد رضا، وغرضهم الذي سعوا له إصلاح أمتهم بما صلح به سلفهم، وقد كثر - والحمد لله - مؤيدوهم، ينقلون ما يؤثر عنهم، ويشيدون بهم وبأعمالهم، ويدعون إلى الاقتداء بهم في جميع المعاهد العلمية وغيرها. فأما السيد جمال الدين الأفغاني فكانت خطته الإصلاحية سياسية تبعًا لميله واستعداده، وأما الشيخ محمد عبده فكان همه الإصلاح والتجديد من طريق التربية والتعليم، وقد استفاد السيد رشيد مما ذهبا إليه، ومضى على سَننهما، وجمع بين خطتيهما، وبنى على أساسهما، فله رأي صائب في السياسة وأثر محمود فيها، فنبه الأفكار إلى معرفة حقوق الأمة، وأيقظ الهمم لأخذها، وسعى أيضًا لتجديد أمر هذه الأمة من طريق التعليم والوعظ والإرشاد والتربية الدينية التي هي قوام الفضائل، وصار بذلك أشهر من نار على علم. وإني مبين هنا جهاده في سبيل مدرسة دار الدعوة والإرشاد في مصر وفي الآستانة، ثم في مصر ثانية، وثمرته ونفعه، وقد صبر صبرًا جميلاً على ما لاقى من أذى الحاسدين والمارقين. وكانت مدرسة الدعوة والإرشاد هذه داخلية، تنفق على طلبتها الداخليين وتكفيهم كل شيء حتى الكتب والأدوات المدرسية، وكانت تعنى بتربيتهم على الفضيلة والنظام، وبمراقبة أخلاقهم وآدابهم، وفيها قسم خارجي يتعلم فيه الطلبة. والغرض منها تخريج طائفتين من العلماء، طائفة منهم للدعوة إلى الله والدفاع عن دين الله بحسب ما تقتضيه حال الزمان، وتعد الطائفة الثانية بالتربية والتعليم لإرشاد المسلمين وتعليمهم ما يرجى أن يقلل الفواحش والمنكرات والبدع والخرافات، وقد وعد صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية الذي كان رئيسًا لجماعة الدعوة والإرشاد، بأن يستعين بهؤلاء المرشدين على إصلاح الطرق، والتوسل بذلك إلى إرشاد أتباعها إلى حقيقة ما كان عليه سلف الأمة الصالح في عباداتهم وآدابهم. وكان نظام التعليم في المدرسة جامعًا بين حقائق الدين وحكمته وموافقته لما يقتضيه التطور الاجتماعي وسنن العمران، وبين ما يحتاج إليه علماء الدين من العلوم العصرية والكونية. وأول ما بدأ السيد رشيد رضي الله عنه نشر أفكاره الإصلاحية في التربية والتعليم أن وجَّه إلى الأزهر الشريف في سني مجلة المنار الأولى رسائل تتضمن أصول الإصلاح الذي يراه واجبًا، ومنها ما نحن بصدده وهو الوعظ والإرشاد والعلم والدعوة إلى الإسلام، وقد اقتنع الأزهر في السنين الأخيرة بها، وأخذت كلياته في تنفيذها على قدر كفاءة رجالها. وأما بدء السيد السعي لتأليف جماعة الدعوة والإرشاد فكان في مصر في عهد الوزير الأكبر المرحوم رياض باشا، واقتنع الباشا بصلاح المشروع، وأن يكون رئيسًا للجمعية، ولكن حالت أحوال دون تنفيذه. ثم قصد السيد إلى الأستانة سنة ١٣٢٧ - وكانت تلقب بدار الخلافة ودار السعادة، بعد الانقلاب الدستوري الذي فرح به الأحرار، وبنوا عليه العلالي والقصور - ليؤسس فيها جمعية الوعظ والإرشاد. وقد استقبله رجال الانقلاب السياسي وشيخ الإسلام ووزراء الدولة أحسن استقبال، وشاركوه في تأسيس الجمعية وإنشاء دار الدعوة والإرشاد، وقرر مقدار المال، ووضعت القوانين والأنظمة، وبقي السيد في الأستانة سنة كاملة يعلل النفس بتحقيق الأمل وإنجاز الوعد وتنفيذ الأمر وإجرائه؛ ولكن لما تكشفت له الحقائق بالمراوغة والمخادعة عاد إلى مصر القاهرة، وإنما قصد السيد تنفيذ المشروع بكفالة الدولة العثمانية ليسهل تعميمه في العالم الإسلامي بدون ضغط أجنبي. ثم في سنة ١٣٢٩ أسس السيد جمعية الدعوة والإرشاد ومدرستها الكلية دار الدعوة والإرشاد في مصر، وهو يراها أكبر همه ومن أعظم ما يتقرب به إلى ربه، كيف لا والأصلان اللذان سميت المدرسة باسميهما وقامت بهما هم أهم مقاصد الإسلام الكافلان لنشر هدايته، وتعميم دعوته، وإعادة مجده بالوعظ والإرشاد العام للمسلمين في مساجدهم ومجامعهم بالخطب، ونشر الرسائل المحتوية على ما يحتاج إليه من حسن المعاملة والمعاشرة وحفظ الصحة، وبالدعوة إلى الإسلام، وأخذت المدرسة في تربية طائفة من التلاميذ وإعدادهم لذلك الأمر العظيم، وهو أمر أوجبه الإسلام وقصر أهله عن نشر هدايته وعن الدعوة إليه والدفاع عنه، وقد أبدى بعض سفراء الحكومات تخوفًا من هذا المشروع لسمو الخديو عباس حلمي، وأجاب سمو الأمير أنه لا يُخشى منه شيء من الضرر، وأنه يضمن بشخصه كل تبعة. هذا ولا بد من التصريح بأن سمو الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر طلب السيد رشيدًا إليه بعد عودة السيد من الأستانة، وطلب منه أن يشرع بتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد في مصر؛ لأن سموه يرى أن وجود مدرسة الدعوة والإرشاد وجمعيتها في مصر سيقنع الدولة بإنشاء مثلها في الأستانة، ويمكن حينئذ توحيد المشروع في العاصمتين، وبذلك يصير تعميمه في البلاد أضمن وأوفى، ومعنى رغبة سمو الخديو هذه أن الأزهر الشريف لم يكن يغني المسلمين غناء مدرسة الدعوة والإرشاد في ذلك الحين. والذي حمل سمو الخديوي على ذلك حرصه على خدمة الإسلام وحسن ظنه بالسيد الإمام، وقد نقل عنه رئيس ديوانه المؤرخ الشهير أحمد شفيق باشا أن سموه قال: (إن السيد محمد رشيد هو لسان الإسلام في هذا العصر) ولذا صار كثير التحبيذ للمدرسة وزارها مشجعًا وهي في أول نشأتها، ثم أمر مدير الأوقاف أن يضع لها مبلغًا من المال ابتداء من سنتها الثانية، وأوصى أن تقرر الأوقاف في ميزانية السنين التي تليها كل ما يقدره مجلس إدارة المدرسة لنفقاتها. ثم سافر سمو الخديو إلى الآستانة، ووقعت الحرب العامة وكان من أمرها ما كان مما لا فائدة من ذكره الآن. واستمرت المدرسة عامرة بالتعليم بعد ذلك عامين آخرين، نضب في أثنائهما معين الإعانات من الأوقاف وأصحاب المروءات، وتحمل السيد من تلك النفقات وصبر عليها حتى عجزت ثروته عنها، وانقضت حياة التدريس فيها بعد أن كانت عامرة بها أربعة أعوام، ولكن آثارها الطيبة في نفوس طلابها ومن يتصل بهم لا تنقطع بِكَرّ الأعوام؛ لأنها مؤسسة على تقوى من الله ورضوان. هذه خلاصة تاريخ جهاد السيد في تأسيس المدرسة التي كانت موضع أمله في إصلاح المسلمين وإرجاعهم إلى ما كانوا فيه من عز وكرامة، ولم يهن ولم يصبه الملال، بل جدد سعيه - لتجديده حياة المدرسة - لدى عظمة السلطان حسين كامل، وكان وعده وهو أمير بالمساعدة المعنوية والمادية، وقال الأمير: (إنني طالما فكرت في هذا المشروع، وفي حاجة المسلمين إليه، وإنه لولا الموانع لكنت أشتغل وأعمل فيه بنفسي) وكان عظمة السلطان في مقدمة كبراء المسلمين الذين يجزمون بأن الإصلاح الإسلامي الديني والدنيوي يتوقف على العمل الذي يراد من دار الدعوة والإرشاد؛ ولكن شؤون السلطنة وغيرها حالت دون مساعدة السلطان حسين، رحمه الله وأحسن ثوابه. هذا ولشدة حرص السيد رشيد على نجاح دار الدعوة والإرشاد - لاعتقاده بأنها حاجة ماسة للإصلاح الإسلامي المنشود - وجه سعيه إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد لعله يحقق غرضه، ومما كتب السيد في مذكرة قدمها إلى رئيس الديوان ليعرضها على جلالة الملك قوله - رحمه الله تعالى -: (ولما كنت أعلم بالدليل المؤيد والاختبار وشهادة عقلاء المسلمين أن هذه المدرسة ضرورية لخدمة الإسلام في هذا العصر، وأن مصر أولى بها من غيرها من أمصار الإسلام؛ لأنها في مقام القدوة لها وهي مرتبة لا يعقل أن ترضى مصر بالتخلي عنها، على أنها أحوج إليها من غيرها؛ فإنه لا يوجد قطر إسلامي فيه من الفوضى الدينية والأدبية في عامته مثل القطر المصري، فأكثر أفراد الطبقات العامة الدنيا ليسوا على شيء من الوازع الديني ولا الأدبي كما يعلم من كثرة الجنايات، ويستحلون كل منكر إذا غلب على ظنهم الأمن الحكومة، وهم عرضة لقبول كل دعوة إلى عصبية من عصبيات المدنية المادية، فمستقبل البلاد من هذه الجهة حالك الظلام، ولا عاصم من شرها كالدين إذا قام بهدايته مَن عَقَله واهتدى به فعلاً بتربية صالحة، ولا يُرجى مثل هذا لمن يتعلم العلم على أنه حرفة يعيش بها. وأما مدرسة دار الدعوة والإرشاد فإنها تربي تربية روحية أخلاقية؛ حتى يكون الباعث على الإرشاد من أعماق سائر طلابها ووجدان قلوبهم، لا يبتغون عليه أجرًا إلا من الله الذي فرضه عليهم، وهي على قلة زمن الدراسة فيها قد أخرجت أفرادًا من المصريين، والمغاربة، والهنود، والجاويين، والقوقاسيين، والشاميين، ومن الجزيرة، لا هَمَّ لهم من حياتهم إلا إرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم ومصالح معايشهم) . ومن أولئك الأفراد في تلاميذ دار الدعوة والإرشاد فضيلة أبي السمح الشيخ عبد الظاهر محمد الإمام والخطيب في بيت الله الحرام، ومنشئ مدرسة دار الحديث في مكة المكرمة، ومن علامات اعتزازه بالانتساب إلى دار الدعوة والإرشاد أنه عتب عليّ لما لم أذكر اسمه بين أسماء بعض تلاميذ السيد في مقالة سابقة عنه، رحمه الله. وقال إنه يفخر بأن السيد كان يخاطبه برسائله إليه (بولدنا الروحي) . ومن صفات الأستاذ أبي السمح أنه صالح في سيرته وأخلاقه، ومجيد تلاوة القرآن الكريم بخشوع يؤثر في سامعيه أحسن التأثير، ومجيد الخط أيضًا ولذا اختاره السيد أن يكون مراقبًا للطلبة في أخلاقهم والقيام بعباداتهم في الليل والنهار، ومعلمًا ترتيل القرآن الحكيم وتحسين الخط. وفي مقدمة الذين ينسبون إلى المدرسة ما عندهم من مزايا أخلاقية وفضائل نفسية حضرة الزعيم المجاهد مفتي الديار القدسية السيد أمين الحسيني، وكذلك المسلم العربي الكريم السيد يوسف ياسين، وإنْ أَنْسَ لا أنسى كلمة كتبها من بحرة وهو في معية جلالة ملك المملكة العربية السعودية منتظرين فتح جدة في أشد حرارة القيظ التي تكاد تغلي الأدمغة من شدتها، قال: (حينما يكاد يستولي علي الضعف ويصيبني الوهن كنت أتذكر درس التفسير للسيد في المدرسة، وكأني أسمع صوته ينفث في قلوبنا روح الفضيلة يقوي إرادتنا، ويربي أرواحنا، فتشتد عزيمتي وأنقض غبار الوهن عني) . والمجال يضيق عن ذكر كثيرين من المريدين، وقد سبق لي أن ذكرت طائفة منهم. وبذل السيد سعيه لتجديد عهد المدرسة أيضًا لدى ملجأ السلفيين حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ولما لم يتيسر ذلك اقترح السيد على جلالته إيفاد طائفة من أبناء الشيوخ ليتفقهوا في الدين برعاية السيد وإشرافه، وكان من المتوقع أن يعمل بهذا الاقتراح. ولما قام مصطفى كمال باشا قومته - وكان موضع آمال المسلمين - أرسل إليه السيد كتابًا مع رسول، ومما رجَّى فيه أن يكون لمدرسة الدعوة والإرشاد من عنايته أوفر نصيب؛ لأنها أساس لكل ما يحتاج إليه المسلمون في هذا العصر من إصلاح، وإنما ذكرت هذا لاستيفاء أدوار المدرسة. والسيد - رضي الله عنه - كان لا يألو جهدًا في نشر أفكاره الإصلاحية بالتعليم كما ينشرها بالقلم، وكان يجتمع عليه في دار المنار كثيرون من خيرة المعلمين المربين من الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم ومدارس المعلمين ونبهاء الموظفين يسألونه العلم، وكانوا إذا وجدوا في مباحثهم مسألة مشكلة معقدة لم يستطيعوا حلها بعد البحث والتنقيب والمراجعة في الكتب، فإنهم يرجعون إلى السيد الإمام لحل الإشكال وبيان الحق والصواب فيها، وحينما يجتمعون لذلك بعد مغرب يوم الخميس فإن السيد يسألهم عن موضوع الليلة، فيجيبون المسألة الفلانية، ثم يأخذ السيد في بحث ما ورد وقيل فيها، ثم يخلص إلى الحكم بأن الصواب في المسألة كذا، فينحل الإشكال وتزول الغشاوة التي كانت حاجبة الحقيقة، وكأنما حطت عن المستمعين أثقالاً. رحم الله السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومفسر القرآن الحكيم وناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد؛ فقد خدم أمته داعيًا إلى الله، ومدافعًا عن دين الله، ومرشدًا إلى ما ينفع الناس على بصيرة، أفنى في ذلك أربعين عامًا صابرًا ثابتًا شأن الراسخين في العلم والمؤمنين، لا تأخذه في الحق لومة لائم، غير هيَّاب ولا وجل على كثرة ما كاد له الحاسدون والدجالون والملحدون بضروب الأذى، ولم ينالوا منه منالاً؛ لأن الله لا يهدي كيد الخائنين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن عاصم ... ... ... ... ... ... ... ... ... طرابلس - لبنان