للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خاتمة السنة التاسعة

بسم الله نبدئ القول ونعيده، وبحوله وفضله نودع عامًا ونستقبل آخر، فله
الحمد على ما وفق فيما مضى، وإياه نسأل التوفيق لخير منه فيما يأتي، فإن بيده
ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، هو ربي، إليه أدعو وإليه أنيب.
كانت السنة التاسعة للمنار كالسنين الأربع قبلها في كثرة الإقبال على المنار
فيها وطلب المئين من الناس للاشتراك , ولكننا رددنا كل طلب لم نعرف صاحبه
ولم يعرفنا به صديق نثق بوثوقه به؛ لأن التجارب علَّمتنا أن أكثر المجهولين الذين
يطلبون الاشتراك ولا يرسلون القيمة عند الطلب يمطلون بعد ذلك ويسوفون، أو
يهضمون الحق وهم متعمدون، وأن سوء حال الأكثرين يحمل على سوء الظن
بالأقلين من الصالحين، وستكون هذه طريقتنا في السنة العاشرة إن شاء الله تعالى،
لا نرسل المنار إلى أحد من طلاب الاشتراك إلا إذا أرسل إلينا القيمة مع الطلب إلا
أن يكون معروفًا لدينا، أو يطلب له ذلك من نثق بضمانه من أصحابنا، فحسبنا ما
قاسينا من مطل الماطلين.
قيمة الاشتراك في السنة العاشرة
قد جعلنا قيمة الاشتراك في المنار ستين قرشًا لأهل القطر المصري
والسودان فزدنا فيها عشرة قروش وهي سدس مجموع القيمة الآن , والسبب في
ذلك أن النفقة زادت علينا ضعف ذلك أو أكثر، فقد زادت أجرة المكان عما استأجرناه
به أول مرة مائتين وخمسة وعشرين قرشًا في الشهر بعدما فصل منه عدة
حجرات جعلت دكاكين تؤجر بما هو أكثر من هذه الزيادة , وزادت أجور العمال في
المطبعة زيادة تذكر فتستكثر , وزاد مطل المشتركين مع ذلك.
حال المشتركين
في كل سنة نزداد علمًا بصحة ما بيناه في المجلد السادس من أحوال (قراء
الصحف المنشَّرة) في الأقطار الإسلامية وأصنافهم في مصر (راجع ص ٣١٤،
م ٦) وهي أشد البلاد مطلاً حتى إن بعض المديريات (كالدقهلية) لم يرسل إلينا
قيمة الاشتراك منها في هذه السنة إلا نحو ستة من المائة. نعم إن أكثر المشتركين في
المديريات لم يطالبهم بقيمة الاشتراك مطالِب ولم يذكِّرهم بها مذكر , والصحف نفسها
لا تعد مذكرةً في عرف البلاد فهم يقرءونها ولا يخطر لهم ببال أن لها حقًّا , وأنها ما
وصلت إليهم إلا بعد نفقة كبيرة؛ لأنهم اعتادوا أن لا يؤدوا حقًّا إلى مستحقه إلا بعد
إلحاح في الطلب وكثرة مراجعة في السؤال , ومنهم من يعز عليه أن يؤدي حقًّا
بدون حكم قضائي , ومنهم من لا يؤدي الحق بعد الحكم به إلا إذا حجز على شيء
مما يملك وباعته الحكومة عليه أو حاولت بيعه. ألا إن شأن هؤلاء الناس في الليّ
والمطل لغريب، وقد كنت أذاكر إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية في هذا الخلق
المتمكن من نفوس الأكثرين فأخبرني أنه ما تمكن إلا بالوراثة. قال: إن الحكومة
لم تكن تحصل الأموال المضروبة على الأهالي إلا بالضرب، السبب في هذا أن
الناس كانوا يدَّعون العدم وهم واجدون، وينكرون ما بأيديهم فإذا ضُربوا يعترفون،
كان أحدهم يضع ما يطلب منه من النقد في فيه ويحلف لعامل التحصيل الأيمان
المغلظة أنه لا يملك الآن شيئًا حتى إذا ما برّح الكرباج بجلده، وشربت السياط من
دمه، أخرج النقد من فمه، ورمى به إلى العامل. ثم إنه يعود إلى مثل ذلك الكرة
بعد الكرة، لا يعتبر وإن لدغ من الجحر الواحد سبعين مرة.
وأقول الآن كما قلت من قبل: إن أشد الناس مطلاً كتّاب المصالح والدواوين،
وصغار المستخدمين، ثلة من حملة الشهادات الابتدائية وقليل من أصحاب
الشهادات النهائية، وأظن أن التعليم الناقص مع عدم التربية الصالحة هو أشد تأثيرًا
في نفوس هؤلاء من الوراثة التي حدثني بأصلها إبراهيم باشا. طلب مني أحد هذه
النابتة الجديدة أن أجعله مشتركًا في المنار منذ أربع سنين فأجبته إلى ذلك إذ رأيته
ممن يرون لأنفسهم مكانةً في الأدب يمتاز بها بين الجالسين على كراسي الديوان
وأنه دخل في زمرة أهل التأليف , وبعد أن تمت السنة الأولى من اشتراكه كان كلما
رآني يعدني بأن سيرسل إليَّ قيمة الاشتراك على رأس (الشهر الآتي) فلما كرت
الشهور على هذا الوعد المكرر (وهو أمر على خلاف المثل القائل: المكرر أحلى)
صرت إذا رأيته أبتسم تعجبًا فيبادر بالاعتذار، وأي عذر أقرب إلى الأذهان من
النسيان؟ ! ثم قال لي غير مرة: لعلك تذكرني في أول الشهر بكتاب يرسل أو وكيل
يسأل فجاريته بهذا وذاك وأنَّى تنفع مثله الذكرى؟ !
أمثال هؤلاء يتعجب منهم ولا يعتب عليهم , ومن المشتركين من يعتب عليهم
ويتعجب منهم كبعض الأغنياء الذين يؤخرون قيمة الاشتراك عدة سنين لمحض
الكسل وهم من محبي المنار وعارفي صاحبه الذين يعتقد أنهم راضون عن عمله
مغبوطون به ويتمنون دوام نجاحه، ألا يفكر هؤلاء في كونهم أجدر الناس بالسبق
إلى أداء حق المنار أول كل سنة , وأن الأجدر إذا أخَّر كان غيره أولى بالتأخير أو
الظلم بالجحد؟ وكيف يقوم حينئذ عمل ينفق عليه في كل شهر بضعة آلاف؟ !
أما حال المشتركين في سائر الأقطار فهي على ما شرحنا من قبل إلا أن
مسلمي روسيا قد قصر بعضهم تقصيرًا معظم سببه تأثير الحرب في بلادهم، فقد
تعطل البريد في بعضها، فلم يصل إليها المنار مطردًا ولم يتيسر لأهلها إرسال
النقود , ومازلنا نقول: إنهم أحسن المسلمين وفاءً في الغالب بعد عرب نجد
وحضرموت أينما كانوا وحيثما أقاموا , وأما أهل تونس فما زال الوكيل الذي
أقيل منذ سنة يرجئ حسابهم، وإنما يمكن الحكم عليه الآن من دونهم، وسيكون ذلك
في جزء آخر.
ونختم الكلام بالثناء الحسن على السابقين بالخيرات من أهل هذه البلاد
وغيرها وهم الذين يؤتون الحق في أول وقته أو قبله، وعلى المقتصدين الذين
يؤتونه متى طُولبوا ولا يؤجلونه وإن لم يستعجلوا. فبهؤلاء تقوم الأعمال، ولولاهم
لفسد العمران.
طلب الأجزاء المفقودة وحال البريد
ومما يفيد ذكره في هذا البحث أو الدرس أن أكثر المشتركين مطلاً هم أكثر
مطالبةً بأجزاء يدَّعون أنها لم تصل إليهم , وأن الرسائل التي ترد علينا ربما كان
ستون منها في المئة خاصةً بطلب الأجزاء المفقودة , وقد بحثنا في هذه المسألة
فتبين لنا بعد التحري والتدقيق ما يأتي:
(١) أن بعض الأجزاء يفقد بتقصير من إدارة المجلة , والسبب الغالب في
ذلك أن يسقط بعض العنوانات أو يذهل عنه عند إلصاقها على الغلاف , ومن غير
الغالب أن يسقط بعض الأعداد من العربة التي تنقل الأجزاء إلى البريد , وكل من
الغالب وغير الغالب نادر.
(٢) أن عمال البريد يختزلون من كل جزء عدة نسخ لكنهم يتراوحون فيها
فلا يلتزمون نسخ مشترك معين , وقد يخطئون في التوزيع فيعطون المرء ما ليس
له.
(٣) أن كثيرًا من المشتركين لهم أقارب أو أصدقاء يحبون قراءة المجلة
فهم يأخذونها عند مجيئها قبل أن يراها صاحبها , ومن هؤلاء الذين يأخذ الأقربون
والأصدقاء نسخهم من يبادر إلى طلب بدلها من إدارة المجلة , ومنهم من لا يطلبها
إلا بعد العلم بصدور ما بعدها ومنهم من لا يطلب إلا في آخر السنة أو عند المطالبة
بقيمة الاشتراك، ومنهم من يطلب بعد سنين أجزاءً فُقدت منها.
(٤) أن من الناس من يدعي أن الأجزاء لم تصل إليه منذ كذا شهرًا وهو
يعلم أنه لم ينقطع عنه منها شيء , وهؤلاء هم الذين يتعمدون هضم الحق
ويستبيحون الكذب في ذلك , وقد اتفق أن واحدًا منهم طولب بقيمة الاشتراك فقال
للمطالب: إنني لم أَرَ المنار منذ كذا وذكر سنة أو أكثر أو أقل فالتفت المطالب إلى
نافذة بجانب الرجل فيها أوراق فرأى فيها عدة أجزاء من المنار هي آخر ما صدر
منه، فقال له: وأي شيء هذا؟ ! وأشار إلى الأجزاء! ! فرده ردًّا آخر , ونحمد
الله أن كان هذا الصنف من مشتركي المنار قليلاً لا كثَّر الله في أمة من أفراده.
لكثرة طلب المفقود نصرح في كل سنة بأن من يطلب جزءًا لم يصل إليه في
مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد صدوره كان حقًّا على الإدارة أن ترسله إليه ,
ومن طلبه بعد ذلك وجب أن يرسل ثمنه (وهو الآن ستة قروش صحيحة) فإن
وجد أرسل إليه , والإدارة لا تضمن وجوده , ولكنها تضمن ما يصل إليها من
الدراهم.
تقصير إدارة المنار
قد كان تقصير الإدارة في إصدار المنار في مواعيده (أوائل الشهور) أشد
في هذه السنة منه فيما سبقها , والسبب في ذلك انكسار آلة الطبع وطول الأمد على
إصلاحها ثم ما عرانا من التوعك غير مرة , وقد قصرنا أيضًا في مكاتبة من كاتبونا
من المشتركين والمحبين، ومعظم السبب في ذلك كثرة الأعمال مع فقد المساعد
وعسى أن لا نقصر من بعد.
الانتقاد على مباحث المنار
ليس عندنا انتقاد على المنار في هذه السنة لم ينشر إلا ما كتبه بعض القراء
في إنكار نشر رسالة الدكتور صدقي (الإسلام هو القرآن وحده) وعندنا أن الحق
يعلو ولا يُعلى، لا تطمسه شبهة، ولا تقوم للباطل عليه حجة، وإنما يخاف على
دين من ليس على يقين من دينه , ومن كان كذلك لا يعتد بدينه ولا يترك بحث
الباحثين لأجله.
أما الانتقاد بالقول فقد بلغنا منه مسألتان جديرتان بالذكر قالهما أحد فضلاء
الأوربيين:
(إحداهما) ما ورد في الجزء الماضي من وجوب الهجرة على المسلم الذي
يقع تحت سلطة غير المسلم , ورد ذلك في مقالة من مقالات العروة الوثقى نشرت
في الجزء الماضي , ونقول: إننا لم ندعُ في المنار إلى الهجرة التي تنافي مصلحة
الأوربيين المستعمرين ومصلحة رعاياهم المسلمين في هذا العصر، وإنما هو أثر
تاريخي لغيرنا كُتب لغرض سياسي فات وقته ومضى زمنه فلم يخطر في بالنا أن
نحذف كلمة الهجرة منه ولا أنه يكون لها تأثير يُذكر، بل نقول: إن الأستاذ الإمام
لم يكن يرى في آخر أيامه أن الهجرة واجبة على المسلمين من رعايا الأجانب الذين
لهم من الحرية في الدين ما يكادون يجدون مثلها في البلاد التي يحكمها المسلمون ,
وقد جرب أهل الجزائر فهاجروا إلى البلاد العثمانية، وبلغنا أنهم لم يلبثوا أن ندموا.
(الثانية) قولنا في الجزء الماضي أيضًا: إن الإفرنج لا يكاد يوثق بعلمهم
النظري والعقلي؛ لأنهم لم يتقنوا إلا العلوم العملية المبنية على التجربة والحس ,
وأقول: إنني تنبهت بعد طبع الكراسة التي فيها هذه الكلمة إلى ما فيها من المبالغة
في الجرح الذي لا ينكر أصله منصف لا سيما مع المقابلة بين العلوم النظرية
وغيرها ولولا أنها الكراسة العاشرة لاستدركت على العبارة في ذلك الجزء قبل أن
ينتقد أحد. ومن غريب انتقاد المكابرين زعمهم أن المنار مجلة دينية فكيف تنشر
بعض الآراء السياسية؟ ! وهؤلاء لا يُلتفت إلى قولهم، ويكفي في إظهار افتياتهم
قراءة عنوان المجلة , ولو انتقدوا كثرة المسائل الدينية لكان انتقادهم أقرب.
الثناء على المنار
أما ما يرد علينا من الثناء على المنار من الغرب والشرق فهو عظيم، وإننا
لنخجل من نشره لا سيما إذا كان محضًا , ونسأله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحقق ظن
من يحسنون الظن بنا , وأن يقينا شر الغرور بالنفس، والغفلة عما لا نخلو عنه من
تقصير ونقص.
الدعوة إلى الانتقاد والتأييد
وإننا ندعو أهل الغيرة على الملة والأمة من العلماء والفضلاء إلى الانتقاد
بالكتابة على ما يرونه خطأً أو باطلاً مما يُنشر في المنار , ونعدهم بنشره مقرونًا
بالثناء والإقرار بالقبول إذا أقنعنا , أو ببيان ما عندنا من إيضاح مقصدنا وتأييده
بالدليل , والحق بعد ذلك لا يخفى على الجماهير؛ إذ هو الذي يعلو ولا يُعلى.
كما ندعوهم إلى تأييدنا فيما ننشره من بيان الحق والنصيحة لله ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن الإرشاد العام لكل من يصل إليه صوتنا وتبلغه مجلتنا
من البشر فإن الدعوة إذا أيدها المعتقدون بحقيقتها ونفعها لا تلبث أن تنتشر انتشار
الشعاع، وترسخ رسوخ الأطواد.
وإنما يجيب دعوتنا إلى الأمرين مَن جعلهم الله أهلاً للدعوة إلى الخير والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون، وحزب الله الغالبون، أما
حزب الشيطان الخاسرون فإنهم يهمزون ويلمزون، ويغتابون ولا ينصحون،
ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، والعاقبة للمتقين، وسلام على
المرسلين، والحمد لله رب العالمين.