كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح الفرصة المنتظرة. لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم. أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم، والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات من الكبراء والفضلاء. ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛ لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا. وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي. وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها. وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري، وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر الكرم الإسلامي في تلك الديار. ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته. وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا، ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي، ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان. ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد احتفالهم هذا العام. ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور. ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي ضواحيها. وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر حسين كبير علماء الشيعة. ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي، الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم محمد عبد الولي حياه الله تعالى. وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم. للشكر بقية ((يتبع بمقال تالٍ))