حب القوة.. رابطة المدنية ويظهر أن أول مال تموله الإنسان هو ما أسره من الحيوانات الكثيرة التي سهل عليه أسرها وتأنيسها؛ أي: جعلها أنيسة غير نافرة ولا عادية. وبهذه الحيوانات التي طفقت تتناسل وتتزايد في ظل حمايته ورعايته وعنايته قد استغنى أولئك الأوائل بعض الاستغناء عن الكد في الصيد. فإن الفاطر أوحى إليهم أن يجربوا ألبان الحيوانات المأسورة فرأوا أن ألبان البعض منها غذاء طيب ساد عن كل شيء , ووجدوا بعد هذا أن اللحوم أمر زايد يجنحون إليها إذا ما وجدوا في أنفسهم سآمة من الألبان. ولا يبعد أنهم قبل أن يتمولوا هذا المال كانوا يجتزءون بالعشب والحبوب يوم لا يجدون مصيدًا؛ ولذلك بقوا يحنون إلى بعض الأعشاب التي استطابوها بعد أن جربوا هذا الغذاء الكافي. وربما كان تخصيص بعض الحبوب والنباتات بالأكل تطلبًا بوحي وإلهام، ثم اعتادوها دائمًا حتى صاروا يدخرونها؛ ولذلك يجوز لنا أن نظن أن المال الثاني الذي تموله النوع هو ما اعتاد أكله الإنسان مما تخرج الأرض من نباتها وحَبها؛ فكأن طفق فريق منهم يجمعونها ويدخرونها، ثم وجدوا حرجًا في جمعها حبة حبة مثلاً من كل بقعة فرأوا أن يبذروها في بقاع خاصة فحدثت لهم صناعة الحرث والزرع، ولا تنسوا تلك المدى الصوانية فهي التي نجرت لهم المحراث الذي يبحثون به في الأرض ليدفنوا به الحبوب , وهي التي نجرت المدق لاستخراج الحبوب. ولما كان المزروع يستدعي الحفظ من الحيوانات طواعم الأعشاب , وادخار الحبوب ليوم البذار؛ ليستدعي أماكن يؤمن فيها من البلل الضار بها؛ احتاج الذين عنوا بهذا المال الثاني إلى الإقامة بجوار الأرضين التي يبذرون فيها، واحتاجوا إلى اتخاذ بدل عن تلك الأخبية التي لا تقي الحبوب الكثيرة من البلل، فرأوا أن يقلدوا الغيران، ويتخذوا لهم ولحبوبهم أماكن ثخينة يؤلفونها من الحجر والتراب، أو من الأعواد والتراب، وليس ببعيد أن يكونوا تعلموا صنعة البناء من الحيوانات الصغيرة التي تدخر الحبوب كالنمل مثلاً كما تعلموا صنعة النسيج من الحيوانات التي تنسج كالعنكبوت مثلاً، ولكن الأقرب أن يكونوا تعلموا كل أوائل الأشياء بإلهام من الفاطر كما أن الحيوانات كلها تعلمت ما تحتاج إليه بحسب خلقتها بإلهام منه - جل وعلا - ثم عجز هؤلاء الزراع عن أن يتمولوا الكثير من الحيوانات المأسورة؛ لأن العناية بها تقتضي الرحيل الدائم لأجل تتبع الأرضين التي فيها الكثير من العشب الطبيعي , وعجز أولئك الرعاة عن أن يتمولوا الكثير من تلك الحبوب التي تقتضي الإقامة، والاشتغال بالحرث وتوابعه؛ فانقسم الذين كانوا مجتمعين إلى فريقين: فريق المتمولين من الحيوانات، وفريق المتمولين من الحبوب. واختار كل من الفريقين ما مالت إليه نفسه من المال، ودأب يسعى في تنميته والإثراء منه، وبحسب هذا الانقسام انقسم الوطن إلى قسمين، وطن الرحَّل، ووطن المقيمين. وأصبح كل من الرحل والمقيمين محتاجين في الحقوق والمعاملات التي بينهم أنفسهم إلى ناموس. ومحتاجين إلى ناموس آخر في الحقوق والمعاملات التي بينهم وبين الآخرين. ويمكننا أن نسمي الأول بالسياسة الداخلية، والثاني بالسياسة الخارجية. وههنا حان لنا أن نأتي القراء بالإشارة إلى أقسام النظامات التي تندرج تحت تينكم السياستين؛ لتعلموا أن الشرائع كتربية الأخلاق قديمة جدًّا ينتهي قدمها إلى أوائل المجتمعين من البشر، وذلك لا يعلمه إلا الذي خلق. وبذلك تعلمون قدم عهد المدنيات التي بسطنا هذا الكلام لتشريح شيء من بنيتها التي عظمت جدًّا. والخالق أعلم بما سيكون. فمن تلكم الأقسام نظام المبادلات والمعادلات , وبدون هذا النظام لا يتم اجتماع صالح للنمو والأمن والتميز على الحيوانات، وفيه أقسام: (١) شريعة البيوع، وهو اللازم العاشر. (٢) شريعة الإجارات وهو اللازم الحادي عشر. (٣) شريعة القسمة: وهو اللازم الثاني عشر. و (٤) شريعة القروض والودائع والعواري، وهو اللازم الثالث عشر. و (٥) شريعة الغصب والإتلاف، وهو اللازم الرابع عشر. ومنها نظام المواريث , وهو اللازم الخامس عشر، وهذا أيضًا من الضروري؛ لأنه إذا مات الواحد لابد من أن يأخذ ماله الأحياء فمن هو الأحق بأخذه. ومنها نظام الجزاء: وهو اللازم السادس عشر فبدون الجزاء يتمادى المعتدي وينتفي الأمن. ومنها نظام حماية الضعفاء: وهو اللازم السابع عشر فبدون تي الحماية يؤول الأمر إلى عدم تكاثر القليلين، وهم إلى ذلك محتاجون. ومنها نظام المعاهدات الخارجية: وهو اللازم الثامن عشر فبدونه لا يتسنى لسكان الأرض من البشر أن يستريحوا طرفة عين، ولولاه لما نما البشر , ولما أخذ النوع حظه من التميزات، والارتقاء البديع. ومنها نظام إحداث القوة وهو اللازم التاسع عشر. وفي هذا أقسام: (١) ركز القوة في مركز؛ أي: إقامة الرئيس ونصبه. (٢) طاعة المرءوسين للرئيس. (٣) تسليم القوة للرئيس. (٤) شروط الرئيس والرئاسة والطاعة , واستلام القوة والتصرف بالقوة، وحدود كل من المذكورات ومقاديرها. ومنها نظام وضع النظامات. وهو اللازم العشرون. وما أخرناه في الذكر إلا لأنه يتأخر حدوثه في المجتمعين؛ لأنهم يضعون النظامات أولاً من غير نظام فيظهر فيها خلل ما قليل أو كثير؛ فيحتاجون لنظام النظامات، قانون القوانين ناموس النواميس، شريعة الشرائع. هذه الشرائع والنظامات، أو هذه اللوازم والمقتضيات هي جُل، أو كل الأصول التي يخوض في جداول فروعها علماء الأخلاق وعلماء الشرائع. وإن كنت قد نسيت شيئًا فليس على من قرأ هذا النموذج أن يحصي ما نسيت مع ما ذكرت. وكل ما أحصيناه يحتاج إليه الفريق الرحَّل كالفريق المقيمين غير أن الرحَّل الرعاة بما جمدوا على ذلك المال الواحد , وبما رضوا من الحياة البسيطة التي لا زينة فيها؛ بقوا في أمر هذه الشرائع على سذاجة الفطرة أو ما هو قريب منها، وأما المقيمون فإنهم ما زالوا يتقلبون في الحاجات التي يسوقهم إليها حب الزينة (الذي يألف المقيمين وينيخ لديهم) حتى توسعوا في الحياة؛ فاحتاجوا أن يتوسعوا في أمر الشرائع. ويظهر أن هؤلاء المقيمين بعد أن اختاروا الإقامة لأجل زرع الحبوب وحفظها، وما هو من بابها بدأوا يطلعون بواسطة البحث في الأرض للبذر فيها على ما في خزائن الأرض مما نسميه (المعدن) وهو المال الثالث , ثم أخذوا يصطنعون من المعدن، وبواسطة المعدن مصنوعات كثيرة زائدة وهي المال الرابع. ولا مجال للظن في معرفة أول معدن اطلع عليه البشر، وعرفوا خاصته ولكن يمكننا أن نظن أن الإنسان بقي في أبسط الحالات حتى اكتشف سر النار , وأنه لم ينفعه شيء من المعادن مثل ما نفعه الحديد؛ لأن الحديد أبو الآلات كلها , ففي اليوم الذي عرف الإنسان خاصة الحديد دخل في دور جديد؛ وذلك لأن اجتماع مائة إنسان مثلاً في أرض واحدة، وتجاورهم في المساكن يقضي عليهم أن لا يكونوا متحدين في الصنعة لوجوه كثيرة. منها: أن قواهم البدنية تختلف فمنهم من يستطيع الحرث، ومنهم من لا يستطيع، أفيترك من لا يستطيع الحرث سدى أم يعمل شيئًا آخر؟ وماذا يعمل؟ ومنها: أن قواهم العقلية تختلف فمنهم من يجد ذهنه أعمالاً غير الحرث، فهل يجبر على الحرث أم يعمل كما وجد ذهنه؟ وما هو؟ ومنها: أن قواهم القلبية تختلف فمنهم من يقنع بحالة واحدة , ولا يغرم بالزينة , ومنهم من لا يقنع ويكلف بها. أفيموت قهرًا؛ لأنه لم يجد ما يقنعه؟ أم يتفكر بإيجاد ما يقنعه؟ وما هو؟ ومنها: أن المال الواحد إذا عمل الكل على تنميته؛ نما جدًّا حتى يتعسر حفظه، أو يصير العمل بتنميته على الدوام مع كثرته الهائلة عبثًا، فهل يشتغلون بالعبث؟ أم يتفكرون بمال آخر؟ وما هو؟ هذه الوجوه المبينات هي الحاكمة على مائة مجتمعين معًا أن يتفكروا فيجدوا بأذهانهم ما هي تلك الأشياء المسئول عنها من الأعمال والصنائع اللازمة، وبعد أن يجدوا بأذهانهم يعمل كل واحد منهم في العمل الذي استعد له بحسب بدنه، بحسب عقله، بحسب قلبه؛ وإذا كان عشرة من المائة يكفونهم جميعهم الهم في تحصيل الحبوب اللازمة مع الزيادة، فماذا يصنع التسعون؟ ثم إذا وسعنا هذا المقياس نرى أن ألف ألف من البشر يكفيهم في الحرث مائة ألف مثلاً فماذا يصنع (٩٠٠٠٠٠) ؟ ليس شيء أسهل من أن يقول السامع: يشتغل هذا العدد بصناعات متعددة. نعم، ولكن بم يصنعون؟ أبأيديهم اللحمية؟ أم بآلاتهم الأولى الخشبية؟ أم بمداهم الأولى الصوانية؟ لا يسهل الجواب عن هذا إلا من بعد معرفة خاصة الحديد والاستفادة منه , فإنه في ذلك اليوم الذي عرف فيه الحديد تعددت المصانع، فاتسعت المزارع، فتوفرت المتاجر، فتعظمت الشرائع. وإننا لنعلم أنه ليس لأحد غير الخالق علم بكل ما تقلب فيه الإنسان من الأطوار لا سيما التي في بدء أمره، ولكن جرأنا على هذه الظنون اعتقادنا أن هذا النوع لم تخلق له كل العلوم والصنائع التي نراها اليوم مثلاً يوم خلق، وحملنا عليها اعتقادنا أن الاجتماعات العظيمة في النوع إنما كانت على التدرج , واعتقادنا أن لكل اجتماع خواص تقتضي ظهور أمور جديدة، فتتبعها تلك المقتضيات وتظهر بسرعة أو بطء على قدر الاقتضاء. على أننا إذا لم نجل الخاطر فيما جرى للأولين لا يكمل تفقهنا في أحوال الحاضرين، ولا نكون قد أخذنا لأنفسنا حظًّا من لذة النظر في مرائي الكون الإنساني التي تتجلى فيها الصور على أنحاء شتى بعضها في نظرنا أجمل من بعض، ولاحَظَّ من فائدة التفكر لوجدان أسباب معقولة لمسببات محسوسة، ووجدان حلق مجهولة تتصل بها الحلق المعلومة. نحن اليوم في قرى ومدن، وبين أيدينا ما لا يحصي من مزارع ومصانع ومعادن وحيوانات، ونحن اليوم جماعات كثيرة بعضنا لبعض عدو، وبعضنا لبعض ظهير، أفخلقنا هكذا؟ أم أوصَلَنَا إلى هذا الحاضر ماضٍ طويل؟ أجيِّد لنا هذا الحاضر؟ أيوجد أجود منه؟ هل الأجود في الحاضر؟ إن كان في الماضي فما محاه؟ إن كان في الآتي فكيف يأتي ومتى؟ يا إخوان القراءة ألا تخطر في بالكم هذه الأسئلة؟ ألا تهيئ شئون هذه الحياة الاجتماعية الملفقة من لبنات متعددة الألوان؟ وكيف يمكننا الجواب عنها إذا لم نجل الخاطر يمنة وشمالاً في التقلبات الماضية؟ من أجل ذلك تكلمنا في (رابطة القومية) على نبذة من ماضي الإنسان في تناسله وتقاربه وتباعده حتى بينا أن تلك الرابطة نافعة غير أن نفعها أبتر، وأنه قد ينقلب نفعها ضررًا؛ إذا قاومت بأحكامها ما هو أنفع منها , ثم تكلمنا في (رابطة الدين) على نبذة من ماضي الإنسان في احتياجاته للمصطفين الأخيار الذين يوحى إليهم أن يعلموا البشر أعظم أركان الحكمة، وأصل الأصول في مصلحة النفس في انفرادها واجتماعها , وبينا فوائدها في شئون نظام الاجتماع من حيث هو. وبالجملة قد بينا في الاثنتين الأسباب التي تدعو إليهما، والنتائج التي تنتج منهما , وبديهي لمن قرأ أنهما كلتيهما لم تنتج عنهما وحدهما هذه البزة الحاضرة للبنية الاجتماعية. أفلا يقال: ما أحدثتها؟ إن أقل: إنما أحدثها (حب الزينة) و (حب التميز) ؛ فما كان الصواب ليعدوني في هذه القولة، وقد قلتها من قبل في مناسبة أخرى، ولكن هل يكفي حب الشيء في تحصيله من غير آلات؟ إن ذلك لم يكن قط. فالآلات التي تحصل للنوع (أفرادًا ومجموعًا) ما به الزينة - على حسب اعتبار كل - وما به التميز (على حسب تصور كل) هي أعضاء هذه البنية. وحب الزينة وحب التميز روح حركتها. والنظام الناموس، القانون، الشريعة، المنهاج روح تَعَظُّمِها وتكملها وانبساطها. ونسمي المجموع (رابطة المدنية) أو (رابطة الوطنية) و (رابطة الاجتماع) أو (رابطة الحكومات) ، وقد اخترنا الأول واقتصرنا عليه؛ لأنه أظهر دلالة بحسب اللغة والاصطلاح والحقيقة. وللكلام في هذه الرابطة التي تحدث قوة كبرى للأمم المجتمعة نحرر هذه النبذة، وقدمنا بين يديها هذا التمهيد عسى أن يكون موقظًا للتفكر؛ فإنما يسطع العلم في الأفكار المتهيئة. (لها بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز) ((يتبع بمقال تالٍ))