بحث تاريخي فلسفي في موطن العربية المضرية ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامية [*]
أيها السادة والسيدات: اللغة العربية فرع من أرومة تعرف بالأرومة السامية ومن فروع هذه الأرومة اللغات الآتية وهي: البابلية القديمة وتعرف بالأشورية أيضًا، والأرامية (وهي السريانية) والعبرانية الفينيقية، والحميرية، والحبشية أو الأثيوبية. إلا أن العربية من بين هذه الفروع هي أمدها أغصانًا وأملاها جذمًا وأورفها ظلاًّ وأنضرها أوراقًا وأطيبها ثمرًا يانعًا شهيًّا. وعلماء اللغات الغربيون يقولون: إن أرومة هذه الدوحة السامية انشعب منها فرعان اثنان فرع شمالي وفيه اللغة البابلية القديمة، والأرامية والعبرانية الفينيقية، وفرع جنوبي وفيه العربية المضرية والسبئية والسقطرية والمهرية والأثيوبية (أو الحبشية) . وصحح العلامة أرثر نولدكي على ما في دائرة المعارف البريطانية الأخيرة سنة ١٩١١ هذا التقسيم فجعل اللغة البابلية القديمة فرعًا مستقلاًّ بنفسه وجعل الفرع الثاني ينشعب إلى جذمين شمالي وجنوبي وجعل في الشمالي الأرامية، والعبرانية الفينيقية، وجعل في الجنوبي العربية المضرية، والسبئية، والسقطرية، والحبشية أو الأثيوبية. هذا ما يراه العلماء الغربيون في تقسيم اللغات السامية وتفرعاتها عن الأم التي نشأت منها. ولهم في موطن هذه الأم السامية الأصلي آراء ثلاثة الأول أن موطنها أفريقيا، والثاني أنه العراق وما يجاور الخليج الفارسي من أعلاه إلى اليمين والشمال، والثالث أنه شبه جزيرة العرب , أما الرأي الثاني فرأي العلامة الأستاذ جويدي صاحب المحاضرات المشهورة في الجامعة المصرية في العام الفائت , وأما الرأي الأول فالظاهر من كلام العلامة نولدكي أنه من القائلين به أو الذاهبين إليه , وأما الثالث فيقول فيه هذا العلامة: إنه مما ذهب إليه فريق من العلماء الباحثين ولكنه لا يسمي أحدًا من الذين يقولون به , ومع أنه يقول في هذا الرأي: إن عليه مسحة من القبول وفي الظواهر ما يعضده، يعود فيعطف على مقاله هذا ما يُشْتَمُّ منه تضعيفه والجرح فيه. راجع مقالة هذا العلامة النفيسة المدرجة في المجلد الرابع والعشرين من دائرة المعارف البريطانية الطبعة الأخيرة سنة ١٩١١ وجه ٦٢٠ إلى ٦٣٠. *** عود إلى تفريع اللغات السامية قلنا: إن علماء الغربيين يفرعون الدوحة السامية العظمى إلى فرعين كبيرين شمالي وجنوبي ويشعبون من الفرع الشمالي البابلية القديمة والأرامية والعبرانية الفينيقية، ومن الجنوبي العربية العدنانية المُضرية والسبئية والمهرية والسقطرية (نسبة إلى مهرة وجزيرة سقطرة) والإثيوبية ويندرج تحت الإثيوبية الحبشية والأمهرية. وقد ذكرنا أيضًا تصحيح العلامة نولدكي لهذا التفريع أي أنه جعل البابلية القديمة فرعًا مستقلاً بذاته وجعل ما سواها من بقية اللغات السامية في الفرع الثاني وشعب من هذا الفرع شعبتين أو جذمين شمالي وجنوبي على ما مر بنا. ولم أر سندًا لما ذكره هذا العلامة إلا ما بين اللغات من التقارب والمشابهات في الألفاظ المفردة والاشتقاقات الصرفية وما يلحق ذلك من التراكيب وأدوات المعاني ولا سيما أدوات وطرق التعريف والتنكير، وقد أغفل الوجه التاريخي تمام الإغفال. والذي يظهر لي أن إغفال الوجهة التاريخية نقص في البحث وأنه لو تُنبه إليها وأضيفت مآخذها إلى مآخذ الأبحاث اللغوية الصرفة لكان فيما يستنتج من مجموع وجهتي البحث ما يضعف آراء القوم في التقسيم والتفريع ويضعف أيضًا تصحيح العلامة نولدكي. وعندي أنه لو أضفنا إلى ما نعرفه من التشابه والتقارب بين الألفاظ والمشتقات وضروب التراكيب النحوية والإضافية وطرق التعريف والتنكير ما نعرفه من النقول التاريخية والتقاليد العمومية المتعارفة لأدى بنا ذلك إلى التقسيم الآتي وهو أن الدوحة السامية العظمى تنقسم إلى فرعين كبيرين هما الفرع القحطاني والفرع العادي، وأن الفرع الأول أي القحطاني تشعب منه الأرامية والحميرية والحبشية، وأن الثاني أي العادي انشعب منه البابلية القديمة والعبرانية الفينيقية والعربية العدنانية المضرية. وأما السبئية التي يشير إليها العلامة نولدكي فإن كان يراد بها لغة بلاد سبأ أي البلاد التي عاصمتها مأرب ذات السد المشهور، فالتاريخ يعارض قول هذا العلامة وينافيه؛ لأنه يشير إشارة لا تقوى على معارضتها (إلى) أن لغة هذه البلاد كانت منذ الجيل الأول للمسيح لحد هذه الساعة لغة عربية مُضَرية وسنقيم الدليل على ذلك. وعليه فالأرجح أن هذه اللغة السبئية التي يقولها هذا العلامة إنما هي الحميرية القحطانية يخالطها شيء من العربية المضرية بما يتخيل معه أنها شعبة من الجذم العربي العادي. وأما لغة مهرة وسقطرة فخليط من الحميرية والحبشية ولا يبعد أن يكون بين ألفظاها بقية كبيرة من اللغة السبئية العادية العدنانية التي زعمها العلامة نولدكي قسيمة للعربية وما هي قسيمة لها وإنما هي لهجة أو لغة من لغاتها على الأرجح. *** مهد اللغة السامية أو وطنها الأصلي قبل إقامة الدليل التاريخي على ما ذكرناه في شأن لغة سبأ أي أنها لغة ولهجة من لهجات العربية وبعبارة أخرى أن أهل بلاد سبأ كانوا يتكلمون العربية المضرية من (زمن) سيل العرِم إلى الآن. وقبل أن أذكر الدليل في إثبات أن فرعي الأمِّ السامية هما القحطانية والعادية ومنهما تفرعت بقية اللغات السامية الأخرى لا بد لي من الرجوع إلى الكلام عن موطن اللغة السامية الأصلي ومهدها الذي ربيت فيه فأقول: وجدنا اللغات السامية في البلدان الآتية: ١- في شمالي أفريقيا على شواطئ المتوسط من الشام شرقًا حتى تصل إلى بوغاز جبل طارق والأتلانتيكي غربًا ويشتمل ذلك على برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر وبلاد مراكش. ٢- في مصر وما يليها جنوبًا من بلاد الإثيوبيين أو ممالك الحبشة. ٣- في جزيرة العرب وما والاها من فلسطين وسوريا حتى تصل آسيا الصغرى. ٤- في بادية الشام والعراق من رأس الخليج الفارسي جنوبًا حتى تصل المُوصل وديار بكر شمالاً، وليس في التاريخ ولا في الآثار ولا في التقاليد المتناقلة ما يشير أدنى إشارة إلى أنها كانت في غير هذه البلدان. هذه هي البلدان التي عاشت فيها الأمم التي تكلمت اللغات السامية لم يعرف عنها قط أنها كانت في غيرها من البلاد اللهم إلا حيث كانت المستعمرات الفينيقية لكنها لم تثبت هناك، بل انقرضت حالاً عند انقراض المستعمرين وتغلب من حواليهم من الأمم عليهم، ولا شك أن مهد السامية لم يتجاوز البلدان التي ذكرناها ولا بد أن يكون في إحداها، وعلى هذا أجمع أرباب البحث من علماء اللغات والتاريخ قديمًا وحديثًا على ما أعلم وهو ظاهر قول العلامة نولدكي أيضًا. قلنا فيما مر: إن هنالك آراء ثلاثة في موطن السامية، الأول أنه أفريقيا والثاني أنه جزيرة العرب والثالث أنه العراق أو إقليم بابل وما يليه من بلاد الآشوريين. فلننظر في كل من هذه الآراء واحدًا واحدًا ولا شك أن الرأي الذي تتوفر فيه الأدلة التاريخية والعقلية هو أولى من صاحبيه بالقبول، دعونا ننظر أولاً إلى بلدان شمالي أفريقيا ونسأل تقاليد أهلها عن أهلها من أين جاءوا؟ إن البربر وأعني بهم سكان شمالي أفريقيا من الذين كانوا يتكلمون باللغة السامية ولا يزالون يتكلمون بها إلى الآن يرفضون بتاتًا أن يكون أصلهم من زنوج أفريقيا، ويصلون أنسابهم بأنساب العرب وأهل اليمن والشام، والقول المعتبر في ذلك إنما هو قول العلامة ابن خلدون صاحب التاريخ المشهور، فراجع ما نقله في أنساب البربر - المجلد السادس طبعة بولاق من صفحة ٨٩ إلى ٩٨. إن الواقف على ما يذكره هذه العلامة في أنساب القوم لا يشك أنهم جاءوا إلى تلك البلاد الواسعة من الشام والبلاد العربية، ولا أقول: إن البربر استعمروا بلادهم ابتداء لم يكن فيها قبلهم أحد من الأمم ولكني أقول: إن هؤلاء الذين جاءوا البلاد ولغتهم من الدوحة السامية جاءوا من الشام وجزيرة العرب فتغلبوا مع الأيام على أهل البلاد، وصارت إليهم الدولة والسلطة واختلطوا مع من غلبوهم بالزواج فصاروا من ثمَّ جميعهم (الغالبون والمغلوبون) ينتسبون إلى الأمم التي كان منها الغالبون، لا أستطيع أن أنقل كل ما ذكره العلامة ابن خلدون في أنساب البربر ولكني أنقل ما جاء له في الجزء الثاني من تاريخه (وجه ٥١ طبعة بولاق) قال: قال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش وهو الذي ذهب بقبائل العرب إلى أفريقيا وبه سُميت وساق إليها البربر من أرض كنعان مر بها عند ما غلبها يوشع وقتلهم فاحتمل الغل منهم فساقهم إلى أفريقيا فأنزلهم بها - ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. انتهى النقل، ويظهر من هذا الذي نقلناه ومن كثير أمثاله أن التبابعة أجلوا غير مرة العرب وأهل كنعان إلى بلاد المغرب وأقاموا مهاجرًا فيها لقبائلهم من سبأ وحمير. ولا أحتاج أن أذكر جاليات الصيدونيين والصوريين إلى تلك البلاد فإن الحالية منهم التي استعمرت قرطاجنة ومن ثم صار لها الغلب على كل شمالي أفريقيا سنينًا طويلة هي أشهر من أن تذكر، وكادت دولتهم هناك أن يكون لها الغلب على أشهر الممالك المعروفة حينئذ لو لم تسبقها رومية العظمى إلى ذلك، وبناء على هذا جميعه أعيد ما قلته من أن التقاليد والتواريخ كلها تشير إلى جهة واحدة وهي أن الأمم السامية هم دخلاء على شمالي أفريقيا وقد جاءوا إلى هناك من الشام وجزيرة العرب، فليس شمالي أفريقيا إذن موطنًا للسامية ولا يعقل أن يكون هناك أيضًا. فرغنا الآن من الكلام عن شمالي أفريقيا، بقي علينا مصر والحبشة , أما مصر فلم أسمع عمن ذهب إلى أنها موطن السامية الأصلي وهذا مما يغنيني على الإطالة وإقامة الدليل على أمر يُنازع فيه، ومع ذلك أقول: إن الأثري والمؤرخ الشهير العلامة رولسن يرجح أن التمدن المصري القديم ليس أصليًّا فيها إنما جاءها عن العراق وبلاد العرب، ومن المشهور في الآثار والتواريخ العربية أن دولة الرعاة في مصر وكانت سامية جاءتها من البلاد العربية، بقي علينا بلاد الحبش - وعامة المحققين وعلماء اللغة لا يشكون في أن الحبشة هؤلاء أعني الذين يتكلمون بهذه اللغة السامية هاجروا إليها من البلاد العربية، ومثل ذلك أقول في الأمهريين إن لم يكن قد قيل فيهم ذلك من قبل، والفرق بينهم وبين الحبشة أن الحبشة نزحوا جماعة كبيرة، وأما أولئك فكانوا قلائل في العدد وباختلاطهم مع الزنوج غلبت عليهم وعلى لغتهم ملامح هؤلاء وألفاظ لغتهم وكثير من عباراتها وتراكيبها ولكن لم تقو لغتهم الزنجية على إزالة الأصل السامي فبقي من آثاره ما يدل عليه بعد التنقيب وإمعان الروية، وأرى أن العقل لا يستطيع الحكم بأن هؤلاء الساميين بقوا ما بقوا في أفريقيا وكانوا ما كانوا ثم خرجوا عن بَكرة أبيهم من موطنهم الأصلي في بلاد الزنوج ولم يتركوا أثرًا هناك يدل عليهم أصلاً، إن هذا الرأي لا يُقبل إلا مع البرهان الراجح إن لم نقل البرهان القاطع للشك والنافي للاحتمال. بقي علينا بلاد العراق من الخليج الفارسي إلى الموصل وديار بكر - والباحثون على اتفاق بينهم أن الآشوريين جاءوا من بابل وأن لغة الآشوريين ولغة قدماء البابليين واحدة، والآثار البابلية تقول إن أصحاب آثارها من الذين تكلموا بهذا اللسان السامي لم يكونوا أصليين في البلاد وإنما كان قبلهم قوم على جانب عظيم من التمدن، وكان لهم لغة لكن من غير الأرومة السامية وعلى جانب من الارتقاء، فلما تغلب عليهم هؤلاء الساميون أخذوا عنهم الكثير من آدابهم وترجموا لغتهم ومكتوباتهم إلى لغتهم السامية، والمأخوذ من هذا عقلاً والواجب اعتماده أيضًا أن الساميين أو السامية جاءت إلى العراق وبابل من مكان آخر وكان أهلها غزاة فاتحين، ولا أقرب إلى العقل من أن يكونوا نزحوا إلى هناك من الجزيرة العربية فإن المشاهد والمعروف في كل العصور التاريخية إلى الآن أن هؤلاء أعني أهل الجزيرة العربية كانوا يهاجرون من سائر أنحائها إلى الشام والعراق يستوطنون هناك تجارًا أو زرّاعين يحرثون الأرض ويربون المواشي وإذا وجدوا نهزة للتغلب والتسلط على مجاوريهم انتهزوها. *** رجوع إلى تقسيم اللغات السامية الأرومة السامية تتشعب إلى فرعين: القحطاني والعادي ظهر لنا مما مرَّ أن البلاد العربية هي موطن السامية والساميين أي المتكلمين بالسامية (سواء كانوا ساميين أو حاميّين في النسب) فننظر إلى ما في شبه جزيرة العرب من اللغات فإن كان هناك لغة أو آثار لغة واحدة لا غير فتلك اللغة هي الأرومة السامية الكبرى وإن كان هناك لغتان فاللغتان هما الفرعان اللذان انشعبا من الأرومة الكبرى. إن التقاليد العربية والتواريخ المكتوبة الباقية عندنا إلى اليوم تذكر أن قد كان في شبه جزيرة العرب لغتان هما القحطانية والعادية. وأن القحطانية كانت بين السريانية والعبرانية وهي أميل إلى السريانية كما نرجح. وبيانه - قال المسعودي: وكان الهيثم بن عدي الطائي يقول إسماعيل تكلم بلغة جُرهُم؛ لأن إسماعيل كان سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكة على ما ذكرنا فصاهر جرهم ونشأ على لغتها ونطق بكلامها ونزار تأبى أن يكون إسماعيل نشأ على لغة جُرهُم ويقولون: إن الله عزَّ وجل أعطاه هذه اللغة - إلى أن يقول: ووجدنا ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد - ويقول: وقد وجدنا (قحطان) سرياني اللسان وولده (يعرب) بخلاف لسانه. (راجع المسعودي مجلد أول وجه ١٩٢ طبع المطبعة الأزهرية المصرية سنة ١٣٥٣) . وقال العلامة ابن خلدون: وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية - وقيل إنما نزلت جرهم الحجاز ثم بنو قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن فلم يزالوا بمكة إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة ورجعوا إلى ديارهم باليمن إلى أن هلكوا (ابن خلدون مجلد ثان وجه ٣٠ طبعة بولاق) . وقال العلامة ابن هشام إنهم وجدوا في ركن الكعبة كتابًا بالسريانية قرأه لهم رجل يهودي (راجع سيرة ابن هشام جزء ١ وجه ٦٦ طبعة بولاق) . يظهر من النقول التي أوردناها أن الإمامين ابن خلدون والمسعودي متفقان على أن جرهم قحطانية وكانت ديارهم اليمن أولاً (وهذا نص ابن خلدون) إلا أن الإمام المسعودي يقول: إن لغة جرهم السريانية، وأما ابن خلدون فيقول: إنها العبرانية، وأرى أن التوفيق بينهما إذا قلنا: إن القحطانية أقرب إلى السريانية سهل ؛ لأنه يمكننا حمل العبرانية في كلام ابن خلدون على اللغة التي كان يتكلم بها اليهود في أيامه وهي السريانية أو العبرانية البابلية. وإذا كانت القحطانية هي السريانية القديمة أو لغة قريبة منها فيترجح عندنا بل ينبغي أن تكون الحميرية التي خلفت القحطانية، وبقيت في الجزيرة العربية في اليمن إلى الجيل الثالث بعد الهجرة - على ما نصه العلامة الهمداني [١] قريبة من السريانية أيضًا وأرجح أن قد بقي أثر كبير من هذه الحميرية في مخلاف حضور وحوالي مدينة ظفار إلى اليوم وفي الشحر وسواحل حضرموت أيضًا. قلنا: إن لغات شبه جزيرة العرب لغتان القحطانية الأولى، وقد خلفتها الحميرية التي بقيت في اليمن إلى الجيل الرابع بعد الهجرة على ما نص العلامة الهمداني كما أشرنا قبيل الآن، والعادية وهي العربية الأولى، وأهلها من عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق هم العرب العاربة، وقد انقرضوا على ما يقولون وخلفهم العدنانيون أو النزاريون في أغلب مواطنهم التي كانوا فيها تكلموا بلغتهم. ولغتهم أى العدنانيين هي هذه اللغة العربية المضرية لغة القرآن والحديث والمعلقات وغيرها من الشعر العربي المشهور. ونسبتها إلى العربية الأولى لغة عاد وثمود كنسبة الحميرية إلى القحطانية الأولى على ما أرجح. دعوني أنقل ما ذكره الطبري في هؤلاء العرب العادية وفي لغتهم ومواطنهم وسأختصر في النقل ما استطعت. قال رحمه الله - فعمليق أبو العماليق كلهم أمم تفرقت في البلاد وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر منهم. ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، ومنهم كانت الفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم , وكان ساكنو المدينة منهم - وأهل نجد منهم - وأهل تيماء منهم. وكان ملك الحجاز منهم بتيماء واسمه الأرقم وكانوا ساكني نجد مع ذلك - فكانت طنم وعماليق وأميم وجاسم قومًا عربًا لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي - وولد إرم بن سام بن نوح عوض بن إرم وغاثر بن عوص وعاد بن عوص وعبيل بن عوص، وولد غاثر بن إرم ثمود بن غاثر وجديس بن غاثر وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان المضري، فكانت العرب تقول لهذه الأمم العرب العاربة؛ لأنه لسانهم الذي جبلوا عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم العرب المتعربة؛ لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم , فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب. فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت واليمن كله، وكانت ثمود بالحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، ولحقت جديس بطسم فكانوا معهم باليمامة وما حولها إلى البحرين واسم اليمامة , إذ ذاك جوّ ٌ، وسكنت جاسم عمان فكانوا بها. (انظر الطبري مجلد ١ وجه ٢١٣ و٢١٤ و٢١٤ طبع ليبسك) يظهر مما نقلناه عن هذا المؤرخ الثقة الصلة التامة في اللغة بين هذه القبائل البائدة وأشهرها عاد وبين القبائل العدنانية الباقية إلى اليوم وأشهرها كان بعد قريش قيس وتميم. ويظهر منه أيضًا الصلة بين أهل نجد والحجاز وبين الكنعانيين في الشام فإنهم جميعًا من العمالقة. ومن الصلة بينهم في النسب نستنتج الصلة في اللغة وعليه فتكون العربية والعبرانية من فرع واحد؛ لأنها أي العبرانية الفينيقية والكنعانية من فرع واحد إن لم يكونا لغة واحدة. ويظهر منه أيضًا البلدان التي احتلتها هذه القبائل، فإن عادا نزلت الأحقاف إلى حضرموت واليمن كله، وثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وطسم وجديس اليمامة وما حولها إلى البحرين، وجاسم عمان والعمالقة نجدًا والحجاز وتيماء، فما كان صالحًا للفلح والزرع فلحوه وزرعوه وما كان في طريق التجارة أقاموا فيه محطات لها من خليج فارس شرقًا إلى أيلة وبحر الشام، غربًا ومن حضرموت واليمن جنوبًا إلى برية الشام وفلسطين شمالاً، فكانت من ثم مواطنهم لذلك الحين من أحسن النقط التجارية . ولذلك كثر غناهم وعظمت دولتهم وأصبحوا مضرب مثل عند من خلفهم في الغني والقوة والعظمة وتناقلوا عنهم لعظم آثارهم أخبارًا هي أشبه بأخبار القصاص الموضوعة للتسلية والإغراب منها بالإخبار الممكن أن تقع، فإنهم نسبوا معظمها إلى الجن وتسخير القوات غير المنظورة كما نسبوا مثل ذلك إلى بعلبك وتدمر وبعض آثار بابل وآشور. ((يتبع بمقال تالٍ))