طلبنا من مولانا الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية أن يكتب لنا رأيه في كتاب أسرار البلاغة الذي طبعناه بإرشاده فكتب حفظه الله ما يأتي: اطلعت على كتاب أسرار البلاغة من تأليف الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر الجرجاني وسعيت في طبعه وقرأته درسًا في الجامع الأزهر. وقد وضعه مؤلفه في علم البيان والاستعارة والمجاز وسلك المسلك الذي يوافق العقل البشري سلوكه في تصوير المعاني وتشخيصها على وجه تتأثر منه العقول بالأثر المطلوب من إبرازها لها. ولم أرَ كتابًا في هذا الفن لا بقلم متأخر ولا بقلم متقدم يقرب من هذا الكتاب في حسن الأسلوب وحياة المعنى ورونقه. ولقد كان كنزًا مخفيًّا لا تصل إليه يد الباحث حتى يسر الله لنا نسخة بعث بها إلينا أحد أهل العلم من طرابلس الشام، وكان فيها نقص وتحريف فأرسلت أحد طلبة العلم إلى الآستانة العلية ليقابلها على نسخة هناك ثم أكمل تصحيحها أثناء الدرس فكان ظهور هذا الكتاب من نعم الله على المشتغلين بهذا الفن الجليل. وهو جدير بأن ينتفع به الأستاذ ويقتطف منه التلميذ وتزين به كل مكتبة في مشارق الأرض ومغاربها. ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده *** دلائل الإعجاز يعلم قراء المنار أن الإمام عبد القاهر الجرحاني قد أسس علمي البلاغة بكتابيه المشهورين (أسرار البلاغة) الذي طبعناه، وهو في فن البيان، و (دلائل الإعجاز) الذي نطبعه وهو في فن المعاني. وإنما سماه دلائل الإعجاز؛ لأنه لا طريق إلى معرفة كون القرآن الآن معجزًا ببلاغته (كما أنه معجز بهدايته) إلا بالقوانين التي وضعها في هذا الكتاب. وقد كتب رحمه الله مقالة أو رسالة سماها (المدخل في دلائل الإعجاز) وجعلها مقدمة له مبينة لمنزلته، ودالة على مكانته , ومصرحة بأنه هو الواضع للفن. وهي على اختصارها قد أشارت إلى أصول قواعد النحو، وقال بعد ذلك: إن جميع كلام العرب كان موافقًا لهذه القواعد، فإذا قال معترض: ما هذا الذي امتاز به القرآن حتى كان معجزًا؟ نقول: إن الجواب عن هذا السؤال هو كتاب دلائل الإعجاز لا جواب غيره. وإنني أذكر خاتمة كلامه في المدخل بنصه وقصيدة ختمه بها وهو: (إذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم بكونه خبرًا لمبتدأ أو صفة لموصوف وحالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر - فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء بالقوى والقدر , وقيد الخواطر والفكر حتى خرست الشقاشق [١] ، وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان. ولم يُبِن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زَند، ولم يمض له جد وحتى أسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا؟ أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونرده عن ضلاله، وأن نَطِبَّ لدائه ونزيل الفساد عن رائه؟ [٢] فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقًا غيره أومأ لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك، وهذه أبيات في مثل ذلك: إني أقول مقالاًُ لست أخفيه ... ولست أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النظم إلا بما أصبحت أبديه [٣] فما لنظم كلام أنت ناظمه ... معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام ... فما يتم من دونه قصد لتشبيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ... ما أنت تثبته أو أنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ ... تلقى له خبرًا من بعد تثنيه وفاعل مسند فعل تقدمه ... إليه يكسبه وصفًا ويعطيه [٤] هذان أصلان لا تأتيك فائدة ... من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما ... سلطت فعلاً عليه في تعديه هذي قوانين يكفي من تتبعها ... ما يشبه البحر فيضًا من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه ... إلا انصرفت بعجز عن تقصيه [٥] هذا كذاك وإن كان الذين ترى ... يرون أن المدى دانٍ لباغيه [٦] ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم ... بما يجيب الفتى خصمًا يماريه تقول من أين أن لا نظمَ يشبهه ... وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى ... حكم من النحو نمضي في توخيه [٧] لو نقَّب الأرض باغٍ غير ذاك له ... معنًى وصعد يعلو في ترقيه [٨] ما عاد إلا بخسر في تطلبه ... ولا رأى غير غي في تبغيه [٩] ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في ... أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يُلفى العلم مشتركًا ... بها وكلا تراه نافذًا فيه فليس معرفة من دون معرفة ... في كل ما أنت من باب تسميه ترى تصرفهم في الكل مطردًا ... يجرونه باقتدار في مجاريه فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا ... حتى غدا العجز يهمي سيل واديه قولوا وإلا فاصغوا للبيان تروا ... كالصبح منبلجًا في عين رائيه وقد كان هذا الكتاب كالذي قبله كنزًا مخفيًّا فظفر الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بنسخة منه، وكان عند الأستاذ العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي نسخة أخرى، وكلاهما كان محرفًا ومبدولاً فعلم الأستاذ الإمام أن في المدينة المنورة نسخة منه وفي بغداد أخرى فعمل على استناسخها وصحح الكتاب هو والأستاذ الشنقيطي بمقابلة النسخ الأربع فكان الكتاب الوحيد الذي اجتمع على تصحيحه أعلم علماء العصر في المعقول والمنقول. هذا وإن هذا الكتاب أكبر من أسرار البلاغة حجمًا، وأغزر علمًا، فهو يزيد عليه بنحو عشر ملازم، وقد شرعنا بطبعه على ورق جيد وجعلنا قيمة الاشتراك فيه مع ذلك قيمة الاشتراك في أسرار البلاغة رفقًا بمجاوري الأزهر الذين سيكونون أكثر الناس اشتراكًا به؛ لأن الأستاذ الإمام سيقرأه درسًا في الأزهر الشريف. وستكون قيمته بعد تمام الطبع عشرين قرشًا أميريًّا فمن أراد الاشتراك فليدفع إلينا القيمة ويأخذ بها وصلاً بإمضائنا.