للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أثر المقتطف في نهضة
اللغة العربية بالعلم

الخطبة التي ألقاها صاحب هذه المجلة في حفلة عيد المقتطف الذهبي التي
أقيمت بدار الأوبرا الملكية في ٣٠ إبريل سنه ١٩٢٦.
سادتي الأفاضل.. كان لي الحظ أن كنت أول من اقترح الاحتفاء بالمقتطف
عندما يتم الخمسين من عمره، إذ كان هذا منذ عشر سنين، وأحمد لله تعالى أن
اقتراحي قد تحقق، ورغبتي قد استجيبت، وأنني كنت عضوًا في اللجنة التي
نشرت الدعوة إلى هذا الاحتفال ووضعت النظام له.. على أني صرت أكره
الاحتفالات بعد أن أصبحت (مودة) تقليدية تقام لكل إنسان له بعض الأنصار
والمحبين سواء عمل ما يستحق الاحتفاء به أو لم يعمل وهو أمر تضيع به فائدة
الاحتفاء ويصير تمتعًا بلذة أدبية لجماعات من الناس وكان ينبغي أن لا يحتفل إلا
بأصحاب الأعمال النافعة للأمة.
صار الناس يتنافسون في إقامة احتفالات عظيمة للحفاوة ببعض الوجهاء أو
الأدباء لا ينقصها إلا اشتراك الملوك فيها، وحفلتنا هذه تمتاز باشتراك جلالة مليكنا
المعظم فيها بجعلها تحت رعايته وندب دولة رئيس ديوانه العالي ليمثله فيها وتمتاز
أيضًا باشتراك بعض الجماعات والجاليات العربية في الأقطار البعيدة وبعض
المدارس العالية فيها.. إن الاحتفال والتحاشد على الحفاوة بالعامل المفيد للأمة بعمله
ضرب من ضروب الشكر العام، والشكر للمحسن مدعاة للمزيد من الإحسان،
وحافز للهمم وباعث لها على إتقان الأعمال، كما أن شكر أهل المظاهر وإن أساءوا
مثبط للهمم، وصاد للدهماء عن خدمة الأمة وسبب للغرور بالباطل وفي الحديث
الشريف (المشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور) [١] قد أحيا ملك مصر باشتراكه
في عيد المقتطف سنة من سنن خيار ملوك الإسلام المتقدمين جرى عليها من
بعدهم ملوك أوربة المتأخرون في تكريم العلماء لإعلاء منار العلم والحث على
النبوغ فيه، فقد حكى عن بعضهم (ملك شاه أو غيره) أنه كان إذا نبغ عالم في
عهده يقيم له احتفالاً فخمًا يمشي فيه ذلك العالم ومن حوله من عظماء الدولة والأمة
من الوزراء والعلماء وأمامهم بعض الجياد من خيل الملك وعليها شارته الملكية
(الأرمة أو الإمرة الرسمية) للإشعار باشتراكه في الاحتفال وأمره بالحفاوة بذلك
العالم. وقد نبغ بتأثير هذه العادة في تكريم العلماء عالم فاق الأقران فكان من شأن
الملك في المبالغة والعناية بتكريمه أن مشى هو في الحشد المحتفل ووضع تلك
الشارة الملكية على عاتقه بدلا من وضعها على بعض جياده للإيذان باشتراكه، فقيل له
في ذلك؛ فقال: إن هذا العمل سيكثر في الأمة أمثال هذا العلامة الكبير، وقد كان
ذلك.. إننا قد اجتمعنا اليوم لإقامة هذه السنة الاجتماعية، اجتمعنا لنثني على إثارة
علمية نافعة لأمتنا العربية، ثبت العامل عليها نصف قرن كامل، هذا العمل هو
مجلة المقتطف العلمية الصناعية الزراعية التي أنشأها العالمان العصريان
الكبيران: الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر منذ خمسين سنة وقد أحسنا
فيها خدمة هذه الأمة من وجوه.. عهد إلي زملائي أعضاء لجنة الاحتفال أن أقول كلمة وجيزة في أحد تلك الوجوه وهو (أثر المقتطف في نهضة اللغة العربية بالعلم)
وهو موضوع واسع لا يوفى حقه وتبلغ غايته إلا بتأليف سفر كبير، وإنني مهما أوجز
في القول لا أستطيع بيان المسائل التي يصح أن تكون فهرسًا لهذا السفر. وحسبي أن
أشير إلى ما خطر في بالي منها اليوم عندما فكرت في موضوع خطابي، وهو يدخل
في خمسة أبواب لا يبيح لي الوقت المقدر لكل منا (خطباء الحفلة وشعرائها) تجاوز
عتبة باب منها، فأكتفي بذكرها..
الباب الأول: حاجة أمتنا العربية في حياتها الاجتماعية والاقتصادية أو حياتها
العصرية إلى العلوم والفنون الكثيرة، إذ لا يعرف قيمة خدمة المقتطف للعلم إلا
الذين يشعرون بهذه الحاجة.
الباب الثاني: كون هذه العلوم والفنون لا تفيدنا الفائدة التامة إلا إذا أخذناها
باستقلال الفكر والاجتهاد في الحكم، بحيث تصير ملكات راسخة في الأمة، وأما
حشو الأذهان بالألفاظ والمصطلحات وشغل العقول بحفظ بعض المسائل تقليدا لمن
نقلت عنهم قد يكون ضرره أكبر من نفعه.
الباب الثالث: توقف هذا الاستقلال في العلم واجتناب التقليد الصوري فيه
على تلقيه بلغة الأمة حتى يكون ملكة من ملكاتها التي تصدر عنها أعمالها.
الباب الرابع: إشراع الطريق الموصل لجعل لغة الأمة تتسع لهذه العلوم
والفنون وما يتجدد منها في كل آن.
الباب الخامس: ضرب الأمثال للفروق بين تعلم العلوم بلغة الأمة وتعلمها
بلغة أجنبية، وبين الاستقلال الذي تكون به العلوم والفنون ملكات في أنفس الأمة
وصناعات في أيديها، والتقليد الذي حظ صاحبه حفظ بعض الاصطلاحات والمسائل
التي قد يذهب بها النسيان، ولا تؤتي كل ما يراد بها من الأعمال وإنني أشير إلى
مثل واحد يغني عن أمثال كثيرة.
أيها السادة:
إنني لم أتعود الإطراء والمدح الشعري ولا المبالغات الخطابية
التي تثير الإعجاب، وتبعث على التصفيق والهتاف، وإنما أنا كلف بحب الحقيقة
مشغوف بالتصريح بها وإن لم يرض به إلا القليل من الناس.. فأستأذنكم بأن أقول
ما أعتقد في اشتغال أمتنا المصرية العربية بالعلم، أقول: إن تلقيه بلغة أجنبية جعله
تقليديا لا غناء فيه، ولا ترتقي البلاد به إلى ما تبتغيه، وهو أن يكون العلم ملكة
في أنفس الأمة وصناعات في أيديها، إنه قلما يوجد فينا من يسمى عالمًا بكل ما
يفهم أهل الغرب من معنى هذا اللقب، ويوجد في الأمة اليابانية ما لا يحصى من
العلماء المماثلين لعلماء أوربة في كشف الحقائق والاختراعات، وذلك أنهم نقلوا
العلوم والفنون إلى لغتهم، وتلقوها تلقيًا استقلاليًّا فكانت ملكات في أنفس الأمة
وصناعات في أيديها، مع محافظتهم على جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية،
وأزيائها وعادتها الوطنية، فهذا سبب فوزهم بما لم نفز به من ثمرات العلوم الفنون
مع أننا سبقناهم إلى اقتباسها بعشرات السنين، ولهذا نرى رجال التربية والتعليم
عندنا قد شرعوا بتلافي هذا الخطأ في عهد الاستقلال لو أننا نقلنا العلوم والفنون إلى
لغتنا العربية لكان انتشار المقتطف والاستفادة منه أضعاف ما نعلم الآن. ويمكنني
أن أقول: إن المقتطف لم يقدر قدره، ولم ينتشر الانتشار الذي يستحقه بعنايته في
نقل العلم إلى لغة الأمة.
إن صاحبي المقتطف قد هيأهما القدر ليكونا ركنًا من أركان النهضة العلمية
العربية فبلغا منها الغاية المعروفة لأهلها، ولم يكن لهما ولا لأمتهما ولا لدولتهما
سعي فيما أسندناه إلى القدر الإلهي، وهذا بيانه بالإجمال:
زين لبعض أغنياء الأميركان أن يؤسسوا في بيروت مدرسة كلية يتوسلون
بها إلى الدعوة إلى مذهبهم الديني بنشر العلم والتربية الأميركانية الاستقلالية، وأن
يجعلوا التعليم فيها بلغة الأمة السورية وهي العربية، ففعلوا خلافًا لعادة أمثاله من
مؤسسي المدارس في الشرق الذين يتوخون فيها إحياء لغاتهم وإماتة لغة البلاد،
وجعل العلم الجديد فيها تقليديًّا ضعيفًا لا يرجى بلوغ الكمال فيه، ولا يثمر جميع
الثمار المقصودة منه.. وكان من حسن التوفيق أن وجد في أساتذة هذه المدرسة من
أحب العرب والعربية وسورية والسوريين حبًّا خالصًا غير مشوب بالهوى، وفي
مقدمتهم الدكتور كارنيليوس فانديك الشهير، ذي الذكر الحميد، وكان هذان
الشيخان الكبيران يعقوب صروف وفارس نمر من تلاميذه في الرعيل الأول من حلبة
العهد الأول لهذه المدرسة، فتخرجا فيها عاشقين للعلم يتجلى في معارض
اللغة العربية وحللها، وللغة العربية تكون مجلى للعلوم العصرية وفنونها، فاشتغلا
زمنًا بالتعليم على هذه الطريقة في المدرسة، ثم بدا لمؤسسي المدرسة فتحولوا عن
النهج الأول وجعلوا تعليم العلوم والفنون فيها باللغة الإنكليزية فخرج الأستاذان
البارعان منها وعولا على خدمة العلم باللغة العربية وخدمة للغة العربية بالعلم
بإنشاء مجلة لذلك فأنشئا مجلة المقتطف في بيروت وبعد بضع سنين انتقلا بها إلى
مصر حيث مجال العلم أوسع، وبضاعة الفنون أروج، وقيمة العاملين أرفع
ولو عارض أولو العلم بهذه اللغة عبارة المقتطف من المجلات والكتب
الإنكليزية في كل علم وفن بعبارة غيره من المترجمين الذين تلقوا تلك العلوم
والفنون باللغات الأجنبية لحكموا للمقتطف بأن أثره في نهضة اللغة العربية بالعلم
أفضل الآثار وأمثلها، فإن العربي الذي يقرأ المقتطف يفهم كل ما يقرأه إلا ما يجهله
من الاصطلاحات وبعض الأسماء الأعجمية، ولا يشعر بأنه يقرأ كلامًا مترجمًا. وإذا
كان القارئ من علماء هذه اللغة يعرف قدر الجهد الذي بذل في كل باب من أبواب
المقتطف لإبراز ما يتجدد من مسائل العلوم الكونية والاجتماعية والطبية
والاقتصادية وفي الصناعة والزراعة والتجارة بعبارة عربية في الزمن الذي هجرت
فيه أكثر مفردات اللغة، ونسيت المصطلحات التي وضعها سلفنا في نهضتهم العربية
السابقة، على قصورها عن أداء معشار ما تجدد في هذا العصر كان محرر المقتطف
يقف عند الكلمة الأعجمية المفردة وقفة قصيرة أو طويلة يبحث فيها عن كلمة
عربية ترادفها وكان مما يراجعه فقه اللغة - ولا سيما قبل طبع المخصص -
ومفردات ابن البيطار وقانون ابن سينا وكتاب الحيوان للجاحظ أو للدميري وغيرها
ولو أن الدكتور صروف جمع ما سبق إلى استعماله من الألفاظ التي كانت
مهجورة فوصل شملها بما يناسبها، ومن المصطلحات الجديدة لبلغت سفرًا كبيرًا.
على أن الاصطلحات الجديدة التي تعلمها منشئا المقتطف بالعربية في المدرسة كانت
يسيرة لا غناء فيها ينتقد بعض علمائنا الغيورين على اللغة تساهل المقتطف في
التعريب وكثرة استعماله للمفردات الأعجمية التي يسهل وجود ما يحل محلها من
اللغة بالترادف أو التجوز أو الترجمة أو وضع جديد يشهر بالاستعمال، وهذا مذهب لا
يمكن لفرد من العلماء أن ينهض به بل يتوقف على مجمع لغوي علمي دائم ينهض به
وهذا عمل كبير لا ينهض به فرد ولا أفراد وقد ذكر في الحفلة التي أقامها صديقنا
المرحوم إسماعيل بك عاصم لصاحبي المقتطف احتفاء بمضي أربعين سنة من حياته
وحضرها بعض كبار الوزراء والعلماء وأصحاب المجلات سعينا مع
بعض من حضر تلك الحفلة إلى إنشاء المجمع وأنشئ بالفعل وكان صاحبا
المقتطف من أعضائه العاملين ثم كانت أحداث سنة ١٩١٩ سببًا لتوقيفه ثم تجدد
السعي لإعادته والظاهر أنه لن يتم ذلك إلا بمساعدة الحكومة لرجال العلم على إحيائه
فنسأل الله تعالى أن يوفقها لذلك، وحسب المقتطف حسن أثر في نهضة اللغة العربية
بالعلم بضع وستون مجلدًا كتبت بهذه اللغة تخلد لكاتبها الفخر وتنطق ألسنة المنصفين
بالشكر وما من حسن من أعمال البشر إلا وفي الإمكان أحسن منه؛ لأن استعداد هذا
النوع لا غاية له ولا حد، وقد قال معلم الخير - عليه الصلاة والسلام - (من لم
يشكر الناس لم يشكر الله) .