(أرسلها إلينا صديق عارف خبير عندما أسسنا جمعية الدعوة والإرشاد) (١) ليس للمبشرين عمل في الجهة البحرية من فاشوده إلا في الخرطوم. أما قبلي فاشوده، فلهم فيه أربع نقط على النيل الأبيض، وهي: تنجه والكنيسة وبور والمنجلة، كما أن لهم مركزًا في واو عاصمة مديرية بحر الغزال، ولا يؤذن لهم الآن في التبشير في غير العاصمة من هذه المديرية. (٢) إن الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها المبشرون في تنصير الأهالي تنحصر في فتح المدارس التي يلقنون فيها أصول الدين المسيحي لأولاد الأهالي الذين يدخلون تلك المدارس. (٣) يعتمد المبشرون في حمل الأهالي على إرسال أولادهم إلى مدارسهم على الإحسان إلى الآباء والتودد إليهم. ففي واو مثلاً يعطون لآباء التلامذة ٣ أرطال ذرة يوميًّا، كما يعطونهم أيضًا بعض الأقمشة أو بعض الحلي المستعملة عندهم، ومن طرق الإحسان التي يستعملونها لهذه الغاية التطبيب، فهم يداوون كثيرين من مرضى الأهالي الذين يكونون عن مقربة من مركزهم. (٤) يعلم المبشرون في مدارسهم أصول الدين المسيحي، والقراءة والكتابة بلغة إفرنجية، ومبادئ العلوم الضرورية كالحساب، وعدا هذا فهم يقسمون التلاميذ إلى جماعات يختص كل جماعة منهم بتعليم صنعة من الصناعات؛ كالتجارة والحدادة والبناء. فيبدءون عملهم بتشييد مسكن لهم وبجواره كنيسة ومدرسة، ثم يأخذون قطعة أرض ويجرون فيها تجارب زراعية، والذين يعملون لهم فيها هم الأهالي المجاورون لهم في مقابلة مكافأة تعطى لهم والتلامذة أنفسهم. وقد يوجهون همتهم إلى تجارب في كل ما يظنونه يعود على الأهالي والحكومة بالربح والرفاهية، فيربون النحل ويعملون له الخليات على الطرز الأوربي، ويستخرجون منه الشمع إلى غير ذلك من التجارب على مقدار ما تسمح به قوتهم المالية ومعارفهم العملية. (٥) إن أشد القبائل استعدادًا للتدين بما تدعى إليه هي قبائل النيام نيام. هذه القبائل ليس لها تقاليد دينية تصدهم عن اعتناق أي دين يدعون إليه، ويقابل هؤلاء في سهولة انقيادهم (الدنكا) في شدة تمسكهم بعوائدهم، وهؤلاء الدنكا لهم بعض معتقدات دينية أذكر أن اللورد كرومر فصل بعضها في أحد تقاريره. * * * (مساعدة الحكومة للمبشرين) إذا صرفنا النظر عما يحصل من بعض أفراد الموظفين الإنكليز، ونظرنا إلى أعمال الحكومة العمومية وإلى أعمال الأكثرين من رجالها، صح لنا أن نصف الحكومة السودانية بالنزاهة في هذا الباب. بل إن الحكمة قد تفعل أحيانًا ما لا يرضي المتعصبين من المسيحيين. ففي بحر الغزال وغيره من البلاد الوثنية تحتفل الحكومة بالأعياد الإسلامية احتفالاً شائقًا تدعو إليه مشايخ القبائل ورجال قبائلهم، كما أنها تبطل يوم الجمعة أشغالها، وفي رمضان لا تشتغل بعد الظهر، ولعل هذا بعض ما دعا أحد زعماء المرسلين الأمريكان إلى لوم الإنكليز في خطبة ألقاها في العام الماضي. على أني قد شعرت في آخر الأمر بأن الحكومة تريد أن تظهر مجاملتها لهؤلاء المبشرين، فقد ساعد أحد مديريها إحدى الإرساليات على إحضار أولاد الأهالي إلى مدارسها بنفوذ الحكومة. عرفت ذلك من مصدر يوثق به، ولكن لست أدري هل كان هذا العمل بناء على رغبة المدير خاصة أم رغبة الحكومة الرئيسية؟ والحكومة تمنع الآن المرسلين من التبشير في داخل بحر الغزال، ولكن سبب هذا المنع إداري محض. فالحكومة تستعمل الأهالي في حمل بضائعها، وفي حمل عفش ضباطها ومستخدميها، فهي تخشى من أقلام المبشرين إذا اطلعوا على هذه الحقيقة، خصوصًا إذا شاهدوها بأعينهم. (مقدار نجاح المبشرين في مهمتهم) (٧) للآن لم ينجح المبشرون في عملهم، وعدم نجاحهم هذا قد يغر قصار النظر من المسلمين فيجزمون بعدم نجاحهم في المستقبل، ولكن المرجح عندي أنه إذا طال زمن إهمال المسلمين، فالمبشرون ناجحون في المستقبل. أتاحت لي المصادفة مقابلة بعض أهالي أوغندا واستطلعت منهم حالة بلادهم، ففهمت منهم أن البلاد صارت مسيحية أو كادت؛ وذلك للمجهودات التي يبذلها المبشرون، حتى لقد نشروا كتبهم المقدسة كلها هناك مترجمة بلغة الأوغنديين، ومكتوبة بحروف إنكليزية؛ يعني أن القارئ يقرأ كتابة انكليزية، ولكنه ينطق بكلمات أوغندية. لست أجهل أن هناك بعض عبارات تستوجب وجود الصعوبات في سبيل هؤلاء المبشرين في السودان المصري مثل: وجود العساكر السودانية المسلمين بين هؤلاء الوثنيين، وأن هذه الأصقاع هي مجال واسع لتجار السودان وغيرهم من المسلمين، ولكن المتأمل في طريقة هؤلاء المبشرين في تنصير الأهالي، لا يسعه مع علمه بكل هذا إلا الحكم بترجيح نجاحهم، وإلا فما هي قوة هؤلاء الأطفال الذين يلقى بهم بين أيدي هؤلاء المبشرين، الذين يلقنونهم أصول الدين المسيحي كأنها حقائق لا نزاع فيها؟ أليس الأجدر بالمتأمل أن يحكم بأن هؤلاء الأطفال يصيرون رجالاً مسيحيين كالمسيحيين المولودين من أبوين مسيحيين؛ لأن ما يتلقاه هؤلاء الأطفال من أصول الدين المسيحي لا يجد له مزاحمًا ولا معارضًا في نفوسهم فيزعزعه، كما أنه ليس هناك رجال دين آخر يبثون أصول دينهم في نفوسهم كي تغالب ما ألقي إليهم.