للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة في تقاليد أهل الطرق

جاءنا من أحد علماء تونس المصلحين ما يأتي:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله.
حضرة العلامة الأستاذ المشهور السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار
الغراء أمده الله بروح من عنده، ومنحه من الإعانة على الإرشاد ما لا ينبغي لأحد
من بعده.
سعد حظي - أيدكم الله - بما امتننتم به عليَّ من اعتباركم لي مشتركًا في
مجلتكم التي تقشع بمظهرها سحاب الضلال والبدع التي أحدقت بالأمة ذات اليمين
وذات الشمال، والخرافات التي انصبغت بصبغة الدين، والأوهام التي لعبت بعقول
أولئك الجامدين، فتبارك الذي أيقظ همتك لإرشاد أمتك فأوضح للساري بمنارك
المحجة {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} (الزمر: ٣٧) سيما وقد شفعت ذلك
بفتح باب الأسئلة للمسترشد، ولعمري إنك قد آتيت بذلك من كنوز السعادة للأمة،
ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقد حملني فضلكم هذا على تقديم أسئلة
لأعتابكم الكريمة:
خرجت في بعض هذه الأيام الأخيرة قصدًا لأداء صلاة العشاء مع الجماعة،
فما برحت مكاني حتى سمعت أصواتًا مرتفعة وقد رجت الأرض رجًّا فحسبت أن
أبخرة احتبست فيها فنشأ عنها زلزال فكثر لغط القوم على ما أعرفه عنهم عند
حدوث الزلزال، ولم يزل ظني كذلك حتى دخلت المسجد فوجدت فيه عددًا كثيرًا
من نوع الإنسان ينيف على الخمسين يذكر الله ويرقص ويصفق بيده وقد تصبب
جبينه عرقًا، فعلمت أن رجة الأرض من وطأة قدميه، فسألني شقيقاي المشهوران
عن ذلك فكان جوابي: (الجنون فنون) ! ! فأعاد عليَّ السؤال: كيف يسعى في
جنون من عقل؟ فقلت: وأنَّى لهم بالعقل ولو كانت لهم منه مسكة لما فكروا في
مثل هذا وتجرأوا علي معصية الله في بيته.
هلا انفرد كل منهم بنفسه وذكر الله تعالى كما أمره بقوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} (الأعراف: ٢٠٥) وهذا إن لم
يكن لهؤلاء المجانين شغل تعجل منفعته وإلا فليحملوا فوق هذه الأوزار أوزارًا،
وليستعدوا للعذاب المضاعَف يوم لا يجدون من دون الله أنصارًا، ألم تروا أن
قضاء الفوائت واجب على الفور إلا في مواضع حسبوا منها الاشتغال بحرفة
يحترف المرء بها.
ثم ليت شعري أية فائدة ونتيجة في اجتماعهم هذا وترديدهم كلمة التوحيد؟ إن
نطقت بها ألسنتهم فقد جحدتها أفعالهم باتخاذ الوسائط وليتهم أدركوا حقيقتها
وتركوها ونفسها.
عجبًا لهم اتخذوا رسالة في التوحيد لدفين مكناس الشيخ محمد بن عيسى
يتلونها بعد صلاة المغرب كل ليلة، ولو سئلوا عن برهان الوحدانية لم يكن جوابهم
إلا السكوت أو الاستناد إلى أن ذلك اعتقاد الأقدمين من آبائهم، مع أن مذهب
المؤلف عدم نجاة المقلدين، وهو الحق الذي تقتضيه طبيعة الدين، وإن خالف في
ذلك أقوام بنوا مذهبهم على الخرافات والأوهام، والعمل بمرائي ليست في الحقيقة
إلا أضغاث أحلام، سألت بعض التالين لهذه الرسالة عن قول المؤلف: (تنزه عن
المكان) ، فقال: إني أتلو هذه الجملة نحو ثلاثين سنة وسمعنا من قبلك أساتذة أكبر
علمًا وسنًّا، فلم يسألنا واحد منهم هذا السؤال، ولم يكافحنا بمثل هذا المقال، فإن
كلام الأولياء لا تصل إليه الأفكار، ولا تتوجه نحو إدراك حقيقته الأنظار! ! !
اللهم إلا ممن عميت بصائرهم، وطمست سرائرهم، وقال سبحانك أعوذ بك من
هؤلاء الضالين، فقلت: إذا كان الأمر كذلك أفيحسن بك أن تردد ما لا تفهم، ثم
أعرضت عنه فلاطفه أحد شقيقيّ حتى أوصله إلى معنى الجملة على بساطتها
بأوضح برهان وأحسن تبيان، فكان خلاصة قوله بعد ذلك التقرير: أنا أعتقد أن
الله عز وجل في السماء، مستدلاًّ بحكاية عن عجوز كانت ترفع بصرها إلى السماء
كل صباح وتقول: عِمْ صباحًا يا مولانا ورؤيت بعد موتها وعليها ثياب خضر.
ولعلي أطلت ذيل المقال في الكلام على هؤلاء الجهلة من أرباب الضلال،
حتى خرجت بذلك عن دائرة السؤال، إلى دائرة التشكي من هذه الأحوال، فسئم
الأستاذ المسترشد، مع عدم الوقوف على المقصد.
أقول: إني صدعت بما أظنه الحق لما رأيت ذلك المنكر فقلت: تالله ما هذا
من الدين، أيها الناس أين أنتم من صفة السمع (أربِعوا على أنفسكم فإنكم لا
تدعون أصم ولا غائبًا) وكان جوابهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٢) قلت: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} (الأنبياء: ٥٤-٥٥) ثم نادوا
بصوت عالٍ: أين أنت يا قطب مكناس والجرس الأكبر بديوان الصالحين،
والغوث المتصرف في السماوات والأرض مزق هذا المعترض كل ممزَّق! ، فقلت:
أنتم وأيم الله تشركون من حيث لا تشعرون، أتدعون من دون الله ما لا ينفعكم
شيئًا ولا يضركم؟ وما القطب والجرس والغوث إلا كلمات تدل على معانٍ يعرفها
اللغوي فجعلتموها أعلامًا لأفراد أكلت الأرض أجسادهم، أقول لكم ولا أخشى لومة
لائم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (النجم: ٢٣) .
تزعمون أنكم مسلمون وقد دعوتم غير الله تعالى!
تزعمون أنكم مسلمون وقد اتخذتم لله وزراء وعمَّالاً سميتموهم بأهل الديوان!
أهذا الديوان عندكم مجلس نواب الأمة؟ !
فرددوا عليَّ اللعنة ثم قالوا: نجتمع ليلة النصف من شعبان تلك الليلة الفضلى
ونذبح بقرةً أمام زاوية هذا القطب الكامل وندعوا عليه فيموت ببركة الشيخ ابن
عيسى!
فقلت: وما فضل ليلة النصف من شعبان؟ إن هي إلا ليلة كسائر الليالي نرى
القمر فيها كاملاً كما نراه في غيرها.
إن زعمتم أنها الفضلى بما أن الأرزاق والآجال تقدر فيه كما تقولون فاعلموا
أن أفعال الله تعالى منزهة عن العبث، والأرزاق والآجال قدرت من قبل أن يخلق
الكون، فلا معنى لتقديرها تلك الليلة مرة ثانية.
وإن زعمتم أنها الفضلى بما أن الله يستجيب دعاء المتضرع فيها ولابد فنقول
لكم: أعندكم على ذلك دليل أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ !
سيدي: هل في كلماتي هذه ما يوجب المروق من الدين، والكفر بالله رب
العالمين، خاصة والقوم على إهراق دمي متفقون، فأوضحْ لي سبيل الصواب أيها
المرشد الكبير، والمنصف الذي لن يجد الحق دونه من نصير، ودونك من الوالد
والشقيقين سلامًا، وتحية كواهلها إجلالاً لمقامكم وإعظامًا، ومن الحقير مثل ذلك
على ما تعلمون من صدق الوداد، والخلة الثابتة أصولها بسويداء الفؤاد، وكتب فى
٢٠ جُمادَى الآخرة سنة ١٣٢٤. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. ي ... ... ... ... ... ...

(المنار)
نشرنا هذا في باب المناظرة والمراسلة لا في باب الفتاوى؛ لأنه رسالة مفيدة
في التنديد بالبدع والشكوى من الجهل والميل إلى الإصلاح ولا نرى السؤال فيه إلا
من قبيل استفهام التعجب؛ وإلا فأي شبهة في الكلام يبنى عليها تكفير المتكلم؟
أقول له: إن دعاء غير الله شرك بالله، كيف وهذا ليس من الشرك الخفي الذي
هو أخفى من دبيب النمل وإنما هو أشد الشرك وأظهره وأجلاه ونصوص القرآن في
ذلك لا تحتمل التأويل ولا التحريف. نعم إن الذين يرون لأنفسهم رياسة دينية
باعتقاد العامة علمهم وصلاحهم يسهل عليهم تكفير كل من خالف أهواءهم، وتقاليد
العامة التي تتوكأ في بدعها عليهم وهم يتحرون رضاها لما لهم من الفائدة في ذلك،
وإن كانوا يقولون: إننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا إذا جحد ما هو مجمع عليه
معلوم من الدين للضرورة من غير تأويل ولازم المذهب ليس بمذهب.
هذا وإن كان الكاتب قد يلام على خطاب العامة بما ينفرهم من قبول كلامه،
ويحول دون فهم مرامه، وكان يجب أن يأتيهم من ناحية الإقناع ويحتج عليهم بكلام
من يعتقدون ولايته على إبطال خرافاتهم الصريحة، ثم ينتقل منها إلى ما هو دونها
بالتدريج، ولكل مقام مقال وإنما يخاطَب الناس على قدر عقولهم، فعسى أن يراعي
ذلك بعدُ، ويتحاشى المبالغة في كل شيء، فقد انتقدت عليه قوله: (لا ينبغي لأحد
من بعده) ، وقوله: (أعتابكم) ، وقوله: (ولن يجد الحق دونه من نصير) ،
والله يؤيدنا ويؤيده، ويسددنا ويسدده، وعليه وعلى والده وشقيقيه السلام.
وقد جربنا هذه الطريقة في نصيحة العامة فرأينا فائدتها بأعيننا واختبارنا،
نعم إن مشايخ الطرق الذين يعيشون بأكل السحت ومخادعة العوام قلما يسمعون أو
يعقلون، فينبغي الإعراض عن مكابرتهم، والموعظة التي تقنع مقلديهم بفساد
حالتهم.