ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [١] (١) الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له أمة) [٢] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام، كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان. المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين. وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم، فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير من الأغنياء. فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص ٦٩. وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها. تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة الأولى. كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح. ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة الرجاء في اليأس، فنقول: إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم، كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه. إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة الجهاد. ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) . نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم، وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار. ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء، وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو كالضروري. وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين، ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال لقتال مصر والدولة البريطانية. وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف. صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين، وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها، وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد. وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها، بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء، ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات، ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟ وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد. ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن، فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين، وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة إلى المساعدة عليه بأموالهم ولا بأنفسهم. تلك أصناف الأغنياء الذين يصح أن يتعلق بهم الرجاء، بما في أنفسهم من هدي الدين أو علو الهمة، أو العناية بأمر الأمة، وقد علم أن من يوجد في هذه البلاد منهم قليل، وأن الرجاء في هذا القليل ضعيف. فلم يبق من فريق المعتدلين الذين يرجى رفدهم إلا المستورون الذين لا يقدرون على مساعدة الإصلاح إلا بما يوفرون من كسبهم بالاقتصاد في النفقة اللائقة بأمثالهم، كصاحب الرسالة التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال، ولا غناء في مساعدة هذا الصنف إلا إذا كثر أفراد الباذلين منه، وفاقًا للقاعدة المقررة: القليل من الكثير كثير، وما أظن أن الظفر بهذا الكثير عندنا ميسور. فعلم مما شرحناه أن من يرجى منهم بذل شيء من فضول أموالهم في سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي قليلون، وأن ما يرجى بذله من هؤلاء القليلين في بلادنا قليل لا غناء فيه، لأن أكثر الأنفس أُحضرت الشح، واستحوذ عليها الصَّغار والذل، وكذبت وعد الله بالإخلاف على المنفق، وصدقت وعد الشيطان له بالفقر، ثم إن بذل المال الكثير في هذه السبيل إنما يصدر عن عرفان ووجدان، عرفان بالمصلحة فيه وشدة الحاجة إليها، ووجدان إيمان راسخ تنال به سعادة الدنيا والآخرة، أو وجدان شرف باذخ تنال به سعادة الأولى فقط، على أن باعث الشرف وباعث الإيمان قد يتلاقيان ويتصافحان، وإنني أوضح هذا المقام بأمثال، أشير بها إلى أعظم من رجوت هنا من الرجال. كان أرجى أغنياء مصر عندي لمشروع الدعوة والإرشاد ثلاثة أصرح باسم واحد منهم وهو رياض باشا تغمده الله برحمته، ذلك الرجل الذي انفرد في كبراء مصر وأغنيائها بأنه لم يكن يخيب فيه رجاء، ولا يفوته مساعدة عمل من أعمال الخير، ولو عرف كنه مشروع الدعوة والإرشاد لما اكتفى بالتبرع له بمائة جنيه، وإنما عرف منه أنه مدرسة خيرية، فنفحه بمثل ما نفح به مدرسة محمد علي الصناعية، وهي المدرسة التي تولى رياسة جمع الإعانات لها، على أن الخديوِ وارث ملك محمد علي التي أنشئت المدرسة إحياء لاسمه وتذكارًا لمرور مائة سنة على ملكه لم ينفحها بأكثر من ذلك، فهذا عذر رياض باشا في عدم صدق رجائي كله في مساعدته لهذا العمل. وأما اللذان لا أصرح باسمهما فقد كان رجاؤنا في أحدهما أكبر من رجائنا في رياض باشا، وهو أوسع منه ثروة، وفهم من كُنْه المشروع ما لم يفهمه، بل قال فيه كلامًا يؤثر ويدون له (منه) أنه طالما فكر فيه، وتعجب من إحجام المسلمين عن القيام به إلى اليوم، وأنه يود لو يكون عضوًا عاملاً فيه، وإنما يمنعه من وضع يده في أيدي أعضاء إدارته عدم ثقته بثباتهم، اللهم إلا واحدًا منهم، وعلل ذلك بأن أهل بلادنا هذه يقولون ولا يفعلون، ويبدأون بالأعمال ولا يَثبتون (ومنه) أن هذا العمل سيلقى صعوبات، وتوضع في طريقه العقبات، وأنه لا يقول هذا تثبيطًا أي بل تنبيهًا، ولا تنصلاً من المساعدة فإنه سيساعد بالمال، ثم إنه أكد هذا الوعد غير مرة لنا، وذكره لغيرنا، وقد كان آخر عهدنا بالسعي لاستنجازه شهر رجب الماضي. وأما الثالث فهو غني معروف بالعلم والفضل والتدين، وقد كان منانًا لأحد أصدقائه بأنه سيتبرع للمدرسة بمائة جنيه غير ما يفرضه على نفسه من الاشتراك السنوي، وذكر لنا صديق آخر له عزمه على المساعدة من غير تحديد، وقد بلغنا أن ما يجب عليه من زكاة النقد كل سنة أضعاف ما يملكه صاحب الرسالة التي نتكلم في موضوعها، وقد ذكرناه في هذا العام بشدة حاجة المدرسة إلى ما تنتظر من مساعدته لانقطاع إعانة الأوقاف عنها، ونفاد ما قد جمع لها، فاعتذر بما يعتذر به أكثر الناس في هذا العهد، وهو العسرة التي جاءت بها هذه الحرب. فإذا كان وعد أرجى من نرجو من أغنى أغنيائنا، واشتراك من يشترك في مثل هذا المشروع من أفضل فضلائنا، لا يوثق بهما ولا يتكل عليهما في استئجار دار لمدرسة خيرية، فهل يظن (م. ن) صاحب تلك الرسالة أن ما جاء به من النصيحة والتذكير يبسطان الأيدي المغلولة، وينبهان [٣] الأنفس المفسولة [٤] ، فتتدفق الدنانير على مدرسة الدعوة والإرشاد اليوم كما تدفقت على جمعية الصليب الأحمر بالأمس، وعلى جمعية الهلال الأحمر من قبل؟ إن كان يظن ذلك فما نحن بظانين، ولا نحن من فضل الله وحياة المسلمين يائسين، ولكننا بعد طول اختبار لا نغتر بوعد واعد، ولا بثبات متبرع ولا واهب، وإن كان هذا أو ذاك، ممن اشتهروا بالسخاء، فإن أكثر أصحاب هذه المظاهر، مصداق لقول الشاعر: يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما ... لكنها خطرات من وساوسه كلا إنه لا يرجى في هذا القطر جمع مال كثير بالتبرع يكون رأس مال لمدرسة كمدرستنا أو مدرسة دونها إلا بنفوذ الأمراء والحكام، وقد كان بعض هذا ممكنا لنا من قبل ولم نطرق بابه، وأما اليوم فلا يرجى كله ولا بعضه، فأما سبب بذل المال تقربًا إلى الأمراء والحكام فمعروف، وأما إمساكه عن المصالح العامة فسببه ضعف الإيمان، وضعف وجدان الشرف وحب الكمال، والحرمان مما يولدان من المقاصد العالية والآمال العظيمة، وليس في تربية الأمة ما يحيي ذلك في نابتتها. هذا وإننا بعد هذا البيان نقول لصاحب تلك الرسالة وغيره من أهل الغيرة: إن هذا المشروع لا يرجى أن ينفذ بحسب نظامه المعروف إلا إذا نجحنا فيما سعينا إليه في الآستانة ثم في مصر من تقرير إعانة له كبيرة ثابتة من وزارة الأوقاف فبهذا يستقر ويوثق بثباته واستمراره ويشتهر نفعه في الأمصار والأقطار، ويرجى بعد ذلك أن يتبرع له ويقف عليه العقار والأراضي كثير من أهل الخير، ولا سيما بعد أن يتخرج في مدرسته من يحسنون القيام بما فرضه الله تعالى على المسلمين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) فإذا ظفرنا بإعانة ثابتة من وزارة الأوقاف فذاك، وإلا جعلنا المدرسة خارجية، وأنفقنا عليها مما آتانا الله من كسب ومساعدة أهل المروءة والإخلاص مهتدين بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: ٧) . ((يتبع بمقال تالٍ))