كتب الشيخ محمد بخيت رسالةً سماها (إزاحة الوهم والاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكورتاه) أورد فيها ما انتقدناه عليه في الجزء الثاني من المنار ورد عليه , وقد اطلعنا على الرد فكنا كما قرأنا جملةً من أوائله ورأينا ما فيها من المكابرة والتناقض والتهافت. نقول في نفسنا: إن الرجل ما كتب هذا إلا ليغالط الناس لاعتقاده بأنهم لا يفهمون ما يقال، وإنما يأخذون من جملة الأقوال؛ إنه قد دافع عن نفسه وَفنَّدَ كلام المعترض عليه، ولما أوغلنا في القراءة ترجح عندنا أنه هو نفسه لم يفهم ما كتب؛ إذ لو فهمه لكرَّم نفسه أن ينسب ذلك إليها، وكنا اعتقدنا فيه مثل هذا الاعتقاد عندما نشر رده الأول في بعض الجرائد الساقطة منسوبًا إليها، وإننا نبين بعض تهافته بما فيها العبرة للقارئين. أدب الشيخ بخيت في رده قال الشيخ في أواخر (ص٢٩) من رسالتيه: (وإنما نقلنا عبارة المعترض بطولها ليعلم الناظر فيها مقدار ما عليه من الأدب والأخلاق، ويُلبِسه المطلع عليها برودًا من نسيج خيوطها) ، اهـ بنصه البليغ. أقول: إنني أعترف بأن في عبارة نقد المنار لرسالتيه يبوسة وأشرت إلى السبب العام لذلك. ذلك أنني كتبت تلك العبارة وأنا متألم الروح لقوله بجواز كون إمام المسلمين كافرًا، واستدلاله على ذلك بحديث لا يصح الاحتجاج به مع عدم الحاجة إلى ذلك في موضوع الرسالة. وقد تلمست له عذرًا في نشر هذه المسألة في رسالة طبعها في وقت اشتد فيه الخلاف بين الدولة العثمانية ودولة غير مسلمة فأعوزني العذر، ولم أجد في قاله ولا حاله منفذًا لنور الإخلاص فكتبت (تحت عامل التأثير) كما تقول الإفرنج، فجاءت العبارة شديدة اللهجة كما يقول كتابنا، ولكنها - بحمد الله - سالمة من مثل ما في كلام الشيخ من النبز بالألقاب، ومجاوزة حدود الآداب، والتشدق بالفخر والإعجاب، وإليك نموذج ذلك من كلامه: قال - بعد أن ذكر أن مستفيدًا كتب يسأله عن عبارات أشكلت عليه في الرسالة -: (وقد رأينا أيضًا بعض الناس قد اعترض على الرسالتين معًا ونشر اعتراضه في إحدى المجلات التي تطبع في مصر فوجدناه كلامًا عليه صبغة الحقد (١) والحسد (٢) وملؤه نفثات النفثات (كذا) في العُقَد (٣) نستعيذ منه برب الفلق (٤) كما نستعيذ برب الفلق من شر ما خلق (٥) ولا نجارى هذا المعترض على مثل هذا القول! ! بل نستعين عليه بذي القوة والحول، ونفوض أمرنا إليه، ونتوكل في جميع شؤوننا عليه، فإنه سبحانه وحده هو الذى يهب لمن يشاء من عباده من العلم والحلم ما يشاء، ويمنعهما أو يسلبهما عمن يشاء (٦) ويبتليه ببغض العلم والعلماء (٧) فيختلق ما شاء أن يختلق عليهم (٨) وينسب كذبًا ما شاء أن ينسب إليهم (٩) وإن لم يكن منهم في شيء (١٠) ولا شخص له فيهم ولا فيء (١١) فرأيت من الحكمة والصواب أن أجيب عما جاء في الخطاب، وعما اعترض به ذلك السباب (١٢) اهـ بنصه النزيه. فأنت ترى أنه لم يخلُ سطر من هذه الأسطر من السب والشتم والنبز واللمز والعُجْب والفخر وأنه ليس فيها وراء الشتائم والسباب التي دخلت في جمع الكثرة غير دعوى العلم والحلم والتوكل على الله وعلو الآداب، والترفع عن مجاراة المعترض عليه بالسباب (هذا وما فكيف لو) . ووصف المعترض عند ابتداء الرد عليه في (ص٢٥) بالمتعنت العنيد وقال في (ص٢٦) إنه عاب الكلام؛ لأنه لم يفهمه وتمثل بيت (وكم من عائب..) إلخ ونقص منه لفظ (صحيحًا) و (السقيم) نزاهةً وتفننًا في البديع ولا يتنزه عما رأيت وسترى من ألقابه في سبابه , وقال في (ص٢٩) : جرت عادة المعترض وأمثاله ممن كادوا يتميزون من الغيظ حسدًا على أن يخترعوا علينا الأباطيل، ثم ادعى أنه في رفعة مقامه لا يخطر أحد من هؤلاء الحاسدين على جنانه، ولا يجرى ذكره على لسانه، قال: ولكن الحسد يعمي ويصم , وقال في (ص٥٢) عند قول المعترض: إن الأعراب هم المقيمون في البادية، فهي مسألة خلافية بين الله تعالى وبين هذا المعترض! ونحن ممن يقول بقول الله تعالى، ولا نقول بقول هذا المعترض المخالف لكتاب الله، فانظر إلى أدب هذا الأستاذ مع الله تعالى ويعني بمخالفة كتاب الله أن كتاب الله ذكر أن من الأعراب المؤمن والكافر والمنافق، واستنبط هو باجتهاده الجديد أن هذا التقسيم ينافي كون الأعراب هم سكان البادية ويا ليته راجع كتب اللغة وكتب التفسير قبل كتابة ما كتب لعله يعلم أن المعترض عليه لم يقل إلا بما به قال اللغويون والمفسرون أجمعون، ولكنه إذا علم ذلك ولم يعلم أنه لا ينافي التقسيم المبين في كتاب الله فإنه لا يستفيد ما يمنعه من القول بأن المسألة خلافية بين ... (تعالى عما قال هذا الشيخ علوًّا كبيرًا) . وقال عن قول المعترض (إن حديث جابر منكر أو موضوع) إنه جرأة على الأحاديث لا فرق بينها وبين الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وستعلم مكان علمه بهذا كما علمت مكان أدبه فيه , وقد دعا على المعترض في آخر (٥٧) ونسبه إلى الاختلاق والافتراء في أول (٥٨) وعَرَّضَ بعد ذلك بما عَرَّضَ به , وقال في أوائل ص (٦٠) : وأما قول المعترض: إن المرأة والأعرابي المقيم بالبادية وراء أنعامه ليسا مظنة (الخلافة) إلخ فهو قول من لم يؤتِهِ الله فهمًا، ولم يذُق للكلام طعمًا، ولك كثير من مثل هذا التعبير الذي يعد في الذروة العليا من النزاهة والأدب فلا نستقصيه , وقال في أواخر الرسالة ما قال من قبل في اتقاد المعترض وأمثاله حسدًا له وتمثل بقول الشاعر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... مات أكثرهم غيظًا بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد وقال بعد ذلك في خاتمة الرسالة: (وأما ما قاله المعترض من سوء الأدب في العبارة فإننا نسامحه فيه، ونرجو الله أن يسامحه حيث كان من نفسه الأمَّارة، ومع ذلك إن عادت عدنا لها مع عدم مجاراته في السوء الذي هو غاية ما يبغيه، ونقف عند رد ما يبديه من الشبهات بالحجج والبراهين، وإن لم يكن من فرسان ميدان المناظرة) . فيا ليت شعري لو لم تكن أريحية الحلم والكرم والنزاهة والأدب هزت الأستاذ الفاضل للعفو والسماح عن المعترض ماذا كان يقول فيه، ولو لم يلُذْ بالتواضع والخشوع والاعتصام والتوكل ماذا كان يقول عن نفسه؟ ! هذا نموذج حلمه وأدبه وتواضعه وهضم نفسه وسيرِدُ على القارئين نموذج علمه واجتهاده في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))