من الرحلة الحجازية الموسومة (بالارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) للأمير شكيب أرسلان
إن الحجاز فيه بقاع زراعية هي في الدرجة القصوى من الخصب والزكاء ولكن ينبغي لها المال والعلم فلابد من بناء السدود كما كانت من القديم ومن حفر الآبار الارتوازية لاستنباط المياه، ومن الاعتماد في السواني على الآلات الرافعة البخارية (المواتر) وهناك طريقة رأيتها في الصيف الماضي في جزيرة ميورقة وهي الدواليب الهوائية تدور بهبوب الريح فترفع الماء ويتصبب إلى الصهاريج، ولا يتكلف عليها صاحبها زيتًا ولا فحمًا. فإذا وجد الماء وجد من الخصب والخير والمير في الحجاز ما لا يوجد في قطر آخر. وأما المال اللازم للمشروعات الزراعية المذكورة فله طريقان: (إحداهما) أن تُنظَّم الميزانية المالية لحكومة الحجاز تنظيمًا حسنًا ويفرز منها جانب وافٍ لمصلحة الزراعة، فتأخذ هذه كل سنة بمشروع وتقوم بإنشائه من مال الخزانة ثم تستوفي ذلك من الأهالي المنتفعين على أقساط معلومة مؤجلة إلى عدة سنوات بحسب جسامة المشروع. (والثانية) أن تتقدم لهذه الأعمال شركات إسلامية بحتة من حجازيين ونجديين ومصريين وشاميين وهنود وأندونسيين وغيرهم وتعطيها حكومة الحجاز بها امتيازات إلى آجال معينة، وهذه الشركات هي التي تبني السدود وتستوفي على الري شيئًا معلومًا من الزُّرَّاع، أو تحفر الآبار الارتوازية وتأخذ بدل العمل مع الربح الذي يكون وقع عليه الشرط، أو تقدم المواتر لأصحاب السواني وتأخذ ثمنها منجّمًا على عدة سنوات وما أشبه ذلك [١] . ويوجد عدا الزراعة منبع عظيم الرزق في الحجاز بل في كل جزيرة العرب هو المعادن. فإن غنى الجزيرة بالمعادن موصوف معروف عند جميع الأمم من قديم الدهر حتى إن المؤرخين أجمعوا على أن حضارة هذه الجزيرة الباهرة في الحقب القديمة إنما قامت بأمرين: (أحدهما) نقل متاجر الهند والشرق الأقصى إلى الغرب بموقع العرب بين الاثنين. (والثاني) ثروة المعادن التي تكنها أرض الجزيرة. فينبغي الآن وقد مضى وقت الفتوحات وصرنا لا نطمح إلا إلى حفظ الموجود بيدنا، أن نَأْرِز إلى الجزيرة التي هي مهد العرب المنتشرين في أقطار المعمور جميعًا ونجعلها الكهف المانع، والأصل الجامع، ونستخرج كل ما فيها من عيون الحياة الكامنة، حتى تصون نفسها، وتنجد أخواتها التي انبسطت عليهن أيدي الاستيلاء الأجنبي، وأصبحن لا يملكن لأنفسهن أمرًا، فتزحزح عنهن هذا الرق الذي يرسفن في قيوده، وتتم بذلك الجامعة العربية التي هي نكتة المُحَيَّا، ونشيدة آمالنا في هذه الدنيا. ويجب أن لا ننسى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله. فقد كانت معادن الجزيرة في القديم من أغزر منابع ثروتها وعزها وارتقائها وهي لا تزال هي هي لا ينقصها إلا الإرادة والعمل. لقد يقال: إن استثمار المعادن ليس بأمر سهل وأنه إن أنشبت الشركات الأوربية مخالبها في هذه المعادن جنينا منها السيطرة الأجنبية، والذل، والندامة فالأفضل أن نكون فقراء أحرارًا ولا نكون أغنياء أرقاء. ولن نكون أرقاء وأغنياء أبدًا؛ لأن الثروة لا تجتمع مع فقد الاستقلال. وهاؤم أهل المغرب والجزائر ... وتونس عندهم من معادن الفوسفات وغيرها ما يقوَّم بالمليارات وليس بأيديهم منه شيء حتى كأن ذلك ليس في أرضهم. كل هذا التعليل صحيح لا اعتراض عليه. وأحسن لنا أن نبقى فقراء مستقلين من أن يبتلعنا الاستعمار الأجنبي بواسطة معادن نرجو في استثمارها اليسر، فيئول بنا الأمر إلى الخسر. ولكن هذا التعليل لا يحل المشكل، ولا يجوز لأمة عاقلة رشيدة أبية تبغي الحياة مثلنا أن تعول في قضية ذات بال كهذه على حل سلبي صرف، نظن أننا قد أجبنا به ضمائرنا الناشزة، وسكَّنَّا به خواطرنا الثائرة، على حين أنه الحل الذي يليق بالأمم التي استوى عندها الماء والخشبة والتي لا تريد أن تعمل شيئًا بل تنظر قضاء الاستيلاء الأجنبي أن ينفذ فيها. أقول في تعليل ذلك: (أولاً) إن الذين يقترحون استثمار هذه المعادن الثمينة لا يشيرون بإعطاء أقل شيء منها لشركة أجنبية أو لشركة مؤلَّفة من مسلمين هم تبع لدولة أجنبية غير مسلمة، بل يشيرون بإعطاء الامتيازات لاستثمارها إلى شركات إسلامية مرجعها حكومات إسلامية، ومما لا نزاع فيه أن الشركات التجارية في بلاد الإسلام قليلة وأن رءوس الأموال قليلة أيضًا. فالمسلمون لم يتعودوا أسلوب الشركات في التجارة فضلاً عن أن ثروتهم العامة لا تساعدهم على تأليف هذه الشركات. إلا أن المبالغة في كل شيء مذمومة فلا يجوز أن نظن أن تأليف الشركات عند المسلمين مستحيل ولا أن المال معدوم تمامًا بين أيديهم، فكلا هذين الافتراضين مخالف للمحسوس. وفي بلاد الإسلام شركات اقتصادية كثيرة، ومن المسلمين عدد غفير من ذوي الثروة، وعدد غفير من ذوي المهارة في الأمور الاقتصادية. وإذا جربت حكومتا الحجاز واليمن استثمار المعادن التي في هذين القطرين على أيدي متمولين من المسلمين فلا يبدأ هؤلاء بالربح ولا يتحقق المسلمون أن هذه المشروعات ذات عوائد أكيدة حتى يقبلوا على المساهمة من كل صوب وتجد من رؤوس الأموال عند المسلمين ما لا يخطر لك على بال، وذلك لأن الربح جلاب، وحيث تحقق وجود الفائدة وُجد المال بلا شك. إذن يمكننا أن نستثمر معادن جزيرة العرب برؤوس أموالٍ أصحابها مسلمون بل أصحابها مسلمون لا تلي بلدانهم دول غير مسلمة [٢] وليس بضربة لازب أن نستثمر هذه المناجم كلها دفعة واحدة، بل يمكننا أن نستخرج خيراتها تدريجيًّا، ولكن الذي لا يجوز أصلاً هو أن نظمأ والماء فوق ظهورنا وأن نشكو مزيد الفقر والمال تحت أرجلنا. (ثانيًا) إن الظن الذي يظنه بعضنا أن الشروع في استخراج هذه المناجم يفتح أعين الأوربيين على الجزيرة لا سيما إذا رأوا الخيرات تدر منها وأنهم قد يشنون الغارات على البلاد لأجل حيازة هذه المعادن هو ظن لعمري بغير محله. فإن الإفرنج يعرفون مواقع هذه المعادن، ويعلمون ما فيها إن لم يكن تفصيلاً فإجمالاً. وعندهم علم آخر من طبقات الأرض يجعلهم عارفين بما يحتوي من المعدن والفلز كل نوع من هذه الطبقات، فإن كانوا لم يشنوا الغارات إلى اليوم على الجزيرة فليس لجهلهم بما في بطنها من الكنوز والخيرات، بل لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، والاستيلاء على جزيرة العرب أو على بعض أقسام من جزيرة العرب ليس بالأمر السهل، بل دونه عقبات من وعورة الجبال، وحرارة الرمال، وشجاعة الرجال، فضلاً عما بين الدول من التنافس الذي يحمل بعضهن على الوقوف بالمرصاد لبعضٍ مما يُخشى منه وقوع الحرب بينهن. وعلى كل حال فالجزيرة إلى الآن سالمة من استيلاء الأجنبي إلا بعض أطراف لا بال لها. فليس من الحكمة ولا من الحزم أن نضيع على أنفسنا ثروة نحن في أشد الاحتياج إليها تحت ملاحظات ليست صحيحة وأسباب غير واردة. ومما يدلنا على كوْن هذه المعادن معروفة عند الإفرنج رسالة بالألمانية أطلعني عليها مؤخرًا مؤلفها المستشرق الألماني الشهير الأستاذ موريتز واسمها (المعادن في العربية القديمة) die bergwerke in alten arabien. جاء فيها ما ملخصه: يظن الناس إجمالاً أن جزيرة العرب هي من أفقر بلاد الدنيا، وحقيقة الحال أنها ليست كذلك بل إذا نظرنا إلى ما كانت عليه في القرون الوسطى نجدها كانت ذات ثروة تُضرب بها الأمثال وكانت تلك الثروة آتية من منبعين (أحدهما) كون الجزيرة طريق التجارة بين الشرق والبحر المتوسط (والثاني) وفرة المعادن التي كانت فيها، وأخصها الذهب، فقد كانت هذه المعادن في أواسط عهد الألف سنة قبل المسيح معروفة عند العبرانيين والفينيقيين والآشوريين. وقد كان سليمان بن داود أرسل بعثة على حسابه إلى البحر الأحمر، وعادت بغنائم تُدهش العقل. وذكر سترابون (جغرافي يوناني مات في زمان طيباريوس قيصر) ... وديودور (مؤرخ يوناني يقال له ديودور الصقلي صاحب تاريخ عظيم، وكان معاصرًا لأغسطس قيصر) أنهرًا في بلاد العرب كان فيها التِّبْر. وقد كانت جزيرة العرب قبل الإسلام وقبل دخولها في الفتوحات النائية ذات ثروة عظيمة بالزراعة والمعادن، وكانت مكة أشبه بمركز حكومة جمهورية ذي مراكز تجارية عظيمة ذات علاقات مع الآفاق، وكان الأخذ والعطاء جاريين بقوة بينها وبين سائر البلدان، وكانت فيها صناعة الحلي بالغة درجة الإتقان، ولا يزال صاغة مكة، وصنعاء اليمن وعُنيزة نجد إلى يومنا هذا مشهورين بإتقان الصنعة. أماكن معدن الذهب في جزيرة العرب: فأما الأقاليم التي فيها معادن الذهب من جزيرة العرب فمنها الأقاليم الغربية والذهب يوجد فيها بإسناد الجبال بين الداخل والساحل أي إسناد الجبال المتدلية إلى التهائم. وكذلك توجد معادن ذهب في أواسط الجزيرة في الأماكن المجهولة الضاربة إلى الجنوب والشرق. وهذه الجوانب الجبلية متكونة من حجر الغرانيت مع كثير من الرخام السماقي، وهذه الحرات التي في الجنوب والتي تمتد إلى مكة وإلى غربيها لا شك أنها تولدت تحت تأثير التحولات الجيولوجية التي أدت إلى هذه القفار المحرقة وهذه اليبوسة في الجزيرة، وإن شكل الغرانيت الصواني هذا يظهر في وسط البلاد وتمتد آثاره إلى جهة الشرق أي في جبال نجد. وأطرافه الجنوبية تظهر في شمالي اليمن إلى أن تحاذي صنعاء من الشمال. وأما الجنوب الغربي من الجزيرة والجنوب كله فتشكلاتهما الجيولوجية مختلفة عن الأولى، والذهب إنما يوجد في الجهات التي فيها الصوان أو الغرانيت وهي ما يأتي: (أولاً) في الشمال الغربي من الجزيرة بأرض مدين القديمة. (ثانيًا) في أرض الحجاز الضاربة إلى الجنوب. (ثالثًا) في الشرق من الجزيرة نحو نجد. (رابعًا) في الجنوب الشرقي إلى جهة اليمامة. (خامسًا) في الجنوب المحض بأرض عسير إلى الشمال من اليمامة. فمدين هي البلاد الواقعة بين البحر الأحمر وقمم الجبال المحاذية للبحر الممتدة من نحو العقبة في الشمال أي وادي الحمض في الجنوب وهي اليوم تابعة للحجاز. وهناك مراكز على ساحل البحر منها (ظبا، والمويلح، والوجه) . فأنت ترى من هذه الرسالة المنشورة سنة ١٩١٧ أي منذ أربع عشرة سنة أن الأوربيين يعرفون ما في جزيرة العرب من المعادن إن لم يكن تفصيلاً فإجمالاً وأنه ليس عدم سماعهم بثروتها المعدنية هو الذي ثبَّطهم حتى اليوم عن احتلالها. بل لذلك أسباب سياسية مرجعها حفظ التوازن الدولي، وعسكرية مرجعها صعوبة مِرَاس أهلها. فالأولى بنا أن نغتنم الفرصة ونستغل ما أمكننا من هذه المعادن لتقوى بها جيوشنا، ونصلح إدارتنا، ونبثّ العمارة في بلادنا، وأن لا نأخذ هذه الأمور بالتسويف والمماطلة حتى يصيبنا ما أصاب تركيا في مطاولاتها باستخراج الكنوز التي كانت تحت يدها إلى أن جاء الأجانب واستولوا عليها، فقد كانت قادرة على أن تستفيد من زيت الموصل من عهد طويل، فلم تبت في أمره شيئًا، ولم تزل تماطل إلى أن أضاعت بهذه المماطلة ثروة تقوَّم بالمليارات الكثيرة من الجنيهات لا من الفرنكات، وكان عندها البحر الميت فلم تصنع في استخراج ثروته شيئًا، ولا أبدت ولا أعادت إلى أن جاء الإنكليز بعد الحرب العامة فحللوا مياهه وقوموا ما يمكن أن يُستخرج منه، فقالوا إنه يمكن أن يستخرج منه قيمة خمسة آلاف مليار جنيه، وعشرون ألف مليون طن من الفوسفات وهلم جرًّا مما تعيى العقول عن تصوره، وليس في جزيرة العرب شيء من الخيرات التي تقوَّم بهذه المليارات من الجنيهات ولكنه بدون شك فيها كثير من المعادن التي يمكن كلاَّ من حكومة الحجاز ونجد السعودية وحكومة اليمن الإمامية أن ترتفق به وتستعين به على إصلاح بلادها وتعزيز أجنادها، وذلك على شرط أن لا تلجأ في هذا الموضوع إلا إلى رؤوس أموال، أصحابها مسلمون ليسوا من تبعة الأجانب وهذا ممكن إذا أرادته هاتان الحكومتان وبدأتا بفحص فني عن هذه الأماكن حتى تعلما ما تحت أرجلهما قبل مباشرة العمل.