للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخلافة الإسلامية
(٥)

٣٣- كراهية غير المسلمين لحكومة الخلافة:
قد يقول قائل: إن غير المسلمين في البلاد التي توصف بالإسلامية (نسبة
للسواد الأعظم من أهلها) يكرهون أن تؤسس حكومة الخلافة فيها، ولا سيما
النصارى الذين يرون أن ضعف النفوذ والتشريع والآداب والتقاليد الإسلامية في كل
بلد إسلامي إنما يكون بقوة نفوذ الإفرنج وتشريعهم وآدابهم وتقاليدهم - وكذا لغاتهم -
وبذلك تكون مقومات الأمة ومشخصاتها أقرب إلى النصرانية منها إلى الإسلام، ومن
لم يؤمن بالعقيدة النصرانية والوصايا الإنجيلية بمحبة الأعداء وكراهية الغنى وإدارة
الخد الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن - فإنه قد يكون أشد استمساكًا بالنصرانية
الاجتماعية السياسية أقوى من المؤمنين بالإنجيل إيمانًا، فتلك النصرانية المُزَوَّرَة
التي تنسب إليها المدنية المادية الأوربية هي مثار التعصب والكراهة لكل ما هو
إسلامي، لا نصرانية الإنجيل الزاهدة المتواضعة الخاشعة ذات الإيثار الذي يسمونه
(إنكار الذات) .
وإذا كان أمثالهم من مُتَفَرْنِجَة المسلمين يكرهون الحكومة الدينية ويعارضون
في إحياء منصب الخلافة، أفلا يكون متفرنجة النصارى أولى؟ وإذا كان الأمر
كذلك فكيف نعود إلى تجديد حكومة دينية يكرهها كثير من رعاياها وينفرون منها؟
الجواب عن هذا يحتاج إلى تفصيل نكتفي بالضروري منه فنقول: إذا صح
ما يُعْزَى إلى من ذُكر من أهل الوطن بمقتضى العاطفة وتأثير التربية فإن مَن
يمحص الحقيقة وينظر إليها بعين المصلحة سواء كان منهم أو من غيرهم فإنهم
يحكمون فيها حكمًا آخر.
إن حكومة الخلافة إسلامية مدنية قائمة على أساس العدل والمساواة إلا أن
لغير المسلمين فيها من الحرية الشخصية ما ليس للمرتد والمنافق من المسلمين،
فهؤلاء يريدون أن يكون الإسلام رابطة جنسية أدبية حرة بحيث يكون لهم في
حكومته جميع حقوق المسلمين الشرعية والعرفية والقانونية، وإن صرحوا بأنهم لا
يدينون الله بالإيمان بعقيدته ولا بإقامة أركانه وشعائره وهم يعلمون أن الحكومة
الإسلامية لا تعطيهم شيئًا من ذلك، حتى إن المرأة إذا علمت من زوجها أنه ارتد عن
الإسلام حرم عليها أن تقيم معه وتستمر على عصمته، وأحكام المرتدين معروفة،
فأمرهم أغلظ من أمر الوثنيين، دع الكتابيين الذين تحل ذبائحهم والتزوج
بالمحصنات من نسائهم، ولا تعاقب الحكومة الإسلامية غير المسلمين على كل
شيء يحل لهم في دينهم - وإن لم يكن حلالاً في الإسلام - إلا ما فيه إيذاء لغيرهم -
بل لا تحاسبهم على شيء من أعمالهم الشخصية التي لا تضر المسلمين ولا غيرهم
من رعيتها وإن خالفت دينهم، ولكنها تحاسب المسلمين وتعاقبهم على المعاصي
بالحدود وأنواع التعزير كالتوبيخ والحبس، وذلك أن من أصول الإسلام حفظ
الآداب والفضائل ومنع الفواحش والمنكرات، وقد وصف الله المسلمين بقوله:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ} (الحج: ٤١) وقال فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: ١١٠) وأحكام الردة
والحسبة في الإسلام معروفة.
فعُلم بهذا أن ملاحدة المسلمين وفُسَّاقهم المستهترين أجدر أن يكونوا أشد
كراهية لإقامة أحكام الشريعة من غير المسلمين؛ لأنها تكلفهم ما لا تكلف غيرهم
وتؤاخذهم بما لا تؤاخذهم به، وقد اقترح بعض هؤلاء الملاحدة على جماعة المؤتمر
السوري العام الذي عقد في دمشق أن يقرروا جعل الحكومة السورية غير دينية،
ولا أذكر أن أحدًا من الأعضاء النصارى وافق على الاقتراح، بل صرح بعضهم
برده كأكثر المسلمين، واقتُرِحَ في ذلك المؤتمر أن تقيد مادة الحرية الشخصية من
القانون الأساسي بقيد عدم الإخلال بالآداب العامة، فرد هذا الاقتراح بعض هؤلاء
الموصوفين بالمسلمين وصرَّح بعضهم بتعليل الرد بأنه يترتب عليه أن يجوز
للشرطة منع الرجل من الجلوس مع امرأة في ملهي من الملاهي أو مقهى من
المقاهي العامة لمعاقرة الخمر ‍!! وقد كان ردُّ هذا الاقتراح أقبحَ خزيٍ صدر من
ذلك المؤتمر، وإن علل الرد بعضهم بالاستغناء عن قيد الآداب العامة بقيد القوانين
التي يمكن أن ينص فيها على ذلك القيد، وخُدع بعض أهل الدين والأدب بذلك،
وما كان ينبغي لهم أن يُخدعوا، بل أقول: إن أكثر النصارى من أعضاء ذلك
المؤتمر كانوا أقرب إلى المسلمين المتمسكين بأحكام الإسلام منهم إلى المنفلتين من
الدين، وإن كانوا يتقربون إليهم وينتصرون لهم فيما يوافق أهواءهم من مخالفة
هداية الدين العامة.
وقد ثبت بالتجارب أن غير المتدينين إذا اختلفوا لأسباب سياسية أو غيرها
فإنهم يكونون أشد عداوة وقسوة بعضهم على بعض من المتدينين بالفعل من الفريقين -
فالمتدين وإن شذ يكون أقرب إلى الرحمة من المادي - واعتبر ذلك بما وقع من
القسوة في هذه الحرب البلقانية العامة بين الأوربيين أنفسهم وبين من غلبت عليهم
تربيتهم من الأرمن والروم والترك.
وأضرب مثلاً آخر: الدكتور (برتكالوس) الرومي قال لجماعة من السوريين
كانوا يُظْهِرُونَ الابتهاج والسرور بالدستور العثماني عقب إعلانه: إن حكم الشريعة
الإسلامية خير لنا - معشر النصارى - من حكم الدستور الذي يسلبنا كثيرًا مما أعطتنا
الشريعة من الامتيازات، ويُحمِّلنا ما أعفتنا من التكليفات. وأيد كلامَه اشتدادُ العداء
بين الترك وبين الروم والأرمن وغيرهما بعد الدستور الذي ترتب عليه سلب هؤلاء
كثيرًا مما كان لهم منذ كان الحكم بالشرع وحده.
وإنني أعقب على هذا القول بأن أشد ما يتبرم به متفرنجة الترك من أحكام
الشريعة هو ما أعطته من الحرية الواسعة لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ويرون
أنه لولاها لصارت هذه البلاد ملة واحدة كبلاد أوربا التي لم يكن فيها شيء من هذه
الحرية، ولاستراحت من العداوات والفتن التي أثارها عليهم نصارى الرومللي
فالأناضول بدسائس أوربة حتى كانت سبب انحلال السلطنة العثمانية. هذا رأيهم،
ومن الغريب أن كثيرًا من نصارى بلادنا المتفرنجين يوافقونهم على هذه النظرية،
ويقولون ياليت المسلمين أكرهوا أجدادنا على الإسلام في أزمنة الفتح والقوة، إذًا كنا
في أوطاننا أمة واحدة ذات ملة واحدة فنسلم من شقاء هذا الشقاق والفتن المخربة
للبلاد.
لا مجال في هذا المقام لتحرير القول في هذه المسألة، وليس من الصعب بيان
خطأ مَن يظن أن معاملة نصارى الدولة بعدل الشريعة الإسلامية وحريتها هو الذي
ألبهم عليها، ولا إثبات أن الذي ألبهم ثم أثارهم هو جهل رجال الدولة وغفلتهم عن
دسائس أوربة في هذه الشعوب وما بثوا في مدارسها وكنائسها، وإنما غرضنا من
ذكرها أن الشريعة الإسلامية خير للنصارى في بلاد أكثر أهلها مسلمون، من حكومة
مدنية لا يتقيد أهلها بأصول هذه الشريعة - كما كانوا في عهد الخلفاء من العرب - فإن
الفرق الحقيقي بين الحكومتين هو أن الأكثرية المسلمة لا يحل لها أن تتبع هواها
في التشريع الديني ولا في التنفيذ بما يعد ظلمًا للأقلية غير المسلمة؛ لأن الله تعالى
حرَّم الظلم تحريمًا مطلقًا لا هوادة فيه ولا عذر، وأوجب العدل إيجابًا مطلقًا عامًّا لا
محاباة فيه، وحذَّر تحذيرًا خاصًّا من ترك العدل في حالة الكراهية والبغض من أي
فريق كان بقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) أي ولا يحملنكم بُغْضُ
قوم لكم أو بغضكم لهم - قال بعض المفسرين: أي الكفار، والصواب أنه أعم - على
أن لا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم - وحذفُ المعمول دليلُ العموم- أي
اعدلوا عدلاً مطلقًا عامًّا في المؤمن والكافر والبر والفاجر والصديق والعدو إلخ، وقال
في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى
أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٣٥)
أي كونوا قائمين بالعدل في الأحكام وغيرها على أكمل وجه - كما تدل صيغة
المبالغة - شهداء لله في إثبات الحق، وما كان لله لا يميز فيه المؤمن نفسه ولا والديه
وأقرب الناس إليه على غيره؛ لأن هذا التمييز إيثار لنفسه أو لقريبه على ربه الذي
جعل الشهادة له سبحانه، ولا يفرق فيه بين الغني والفقير بأن يحابي الغني طمعًا في
نواله والفقير رحمة به، وقَفَّى على هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو اتباع هوى النفس
كراهية للعدل، وبحظر اللَّىّ والتحريف للشهادة أو الإعراض عنها أو عن الحكم
بالحق، وتهدد فاعل ذلك وتوعده بأنه خبير بأمره لا يخفى عليه منه شيء. دع ما
ورد في الأحاديث النبوية من الوصية بأهل العهد والذمة خاصة، ولولا ذلك لفعلت
الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لهم ما فعل غيرهم من إبادة بعض وإجلاء
آخرين عن ديارهم أو إكراههم على الإسلام أو سن قوانين استثنائية لقهرهم وإذلالهم.
وفي التاريخ العثماني أن السلطان سليمان استفتى شيخ الإسلام أبا السعود العمادي
الدمشقي الأصل في إكراه النصارى على الإسلام أو الجلاء، فأبى أن يفتيه وبيَّن له
أن الشريعة لا تبيح ذلك، فأذعن وكان يريد أن يفعل بهم كما فعلت الدولة الأسبانية
بمسلمي الأندلس.
وثَم فرق آخر بين الشرع الإسلامي والاشتراع البشري الذي لا تتقيد حكومته
بالدين هو في مصلحة غير المسلمين أيضًا، وهو أن كل مسلم يعتقد أن الحكم
الشرعي حكم إلهي، وأن طاعته قربة وزلفى عند الله يُثاب عليها في الآخرة،
وعصيانه عصيان لله تعالى يُعاقَب عليه فيها، سوء حكم به الحاكم عليه أم لا، ولكن
حكم الحاكم يرفع خلاف المذاهب فتكون طاعته ضربة لازب، وهذا ضمان لغير
المسلم، الوازع فيه نفسيّ، ولا ضمان مثله للمسلم من غيره.
(فإن قيل) : كل ذي دين يحاسب نفسه (أو ضميره) على ما يعتقده من
حق عليه.
(قلنا) : هذا عام مشترك وما نحن فيه أخص منه، وهو احترام الحكم
الشرعي، ووجوب طاعة الحاكم إذا حكم عليه سواء اعتقد صحته أم لم يعتقد، وإن
أمن عقاب الحكومة في التفصي منه بالحيلة.
وجملة القول: إنه ليس في الشريعة ظلم لغير المسلم يُعْذَر به على كراهيتها،
وهي تساوي بين أضعف ذمي أو معاهد وبين الخليفة الأعظم في موقف القضاء
وتقرير الحقوق، والشواهد على هذا في عصر الخلافة الراشدة وما بعدها متعددة،
وإننا نصرح بكل قوة بأن العدل العام المطلق لم يوجد إلا في الإسلام
ولا نعرف لهم مطعنًا في هذه المساواة إلا مسألة رد شهادة غير المسلم على المسلم،
وهي مسألة لا يقوم دليل على إطلاق القول فيها بل لها مخرج من الكتاب والسنة
وأصول الشريعة، فقد قال تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن
ليس فيها حكم منسوخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ
حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: ١٠٦) الآية -
والمتبادَر الذي عليه جمهور السلف والخلف أن المراد بـ (غيركم) غير المخاطبين
بالآية، وهم المسلمون، وخصه بعض العلماء بأهل الكتاب، ولا دليل على هذا
التخصيص، وقيَّدَه بعضهم بمثل الحالة التي نزلت فيها الآية بناء على أن الأصل
في شهادة غير المسلم العدل أن ترد؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: ٢) وقد بيَّنا ضعف الاستدلال بهذه الآية على ما ذكر في تفسير آية المائدة
بتفصيل، منه أن هذا في الأمر بالإشهاد في مسألة المطلقات المعتدات من المسلمات
لا في الشهادة مطلقًا ولا في كل إشهاد، وقد قال الله تعالى في الإشهاد على الأموال:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (النساء: ٦) ولم يقيِّد هذا الإشهاد
بالعدول من المؤمنين كما قيده في المسألة الخاصة بالنساء المسلمات، وبيَّنا ضعف
حمل المُطْلَق على المقيَّد في الآيتين مع اختلاف موضوعهما، والفرق بين الإشهاد
والشهادة، كما بيَّنا ضعف القول بأن غير المسلم لا يكون عدلاً بدليل القرآن؛ إذ جاء
فيه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: ١٥٩) وقوله:
{وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: ٧٥) كما بيَّنا
ضعفه بدليل سيرة البشر المعلومة بالاختبار والعقل، وهو أنه لم توجد أمة من الأمم
جردت من الصدق والعدالة بحيث لا يصدق أحد من أهلها، وبيَّنا أيضًا سبب
تفضيل الفقهاء للمسلم على غيره في الشهادة من أربعة أوجه، أهمها ما كان عليه
المسلمون الأولون من التقوى والصدق وعدم المحاباة عملاً بوصايا الدين التي تقدم
بعض الآيات فيها آنفًا، وما اتفق عليه المؤرخون في مقابلة ذلك من غلبة فساد
الأخلاق على الأمم الأخرى التي فتح المسلمون بلادها.
وفي أصول الشريعة مستند آخر لشهادة غير المسلم، وهو دخولها في عموم
البينة إذا ثبت عند القاضي صدقه فيها، فإن البينة في اللغة كل ما يتبين به الحق،
وقد فصَّل المحقق ابن القيم هذا المعنى في كتابه: (إعلام الموقعين) ونشرنا ذلك
في المنار وبيَّنا أنه يدخل في عموم البينة كل ما تجدد في هذا العصر من أنواع الكشف
عن الجرائم، كأثر خطوط الأصابع على الأشياء مثلاً، ومن أراد التفصيل فعليه
بالمنار وتفسيره.
فلم يبق بعد هذا البيان على إجماله من عذر لغير المسلمين إذا كرهوا إحياء
الشريعة الإسلامية العادلة لمحض التعصب الأعمى أو لتفضيل تشريع الأجانب على
تشريع من يشاركهم في وطنهم، وليس من الحق ولا من العدل أن تكلف أمة ترك
منقبة التشريع الفضلى ومثل هذه الحكومة المثلى؛ إرضاء لفئة قليلة لا مصلحة لها
في تركها وإنما تكرهها لمحض التعصب على السواد الأعظم من أهل وطنها،
وناهيك بما تأرّث من الضغائن بين مسلمي الأناضول والروم والأرمن الذين خرجوا
على الترك في زمن محنتهم وساعدوا أعداءهم عليهم في حربهم.
وموضوع الكلام في إقامة الخلافة في هذه البلاد التركية، فإذا رضي الترك
بذلك وعاملوا هؤلاء الجناة البغاة بعدل الشريعة ورحمتها، فلا يُعقل أن يكرهوا ذلك
أو يفضلوا عليه غيره إن كانوا يعقلون، وإنما أخشى أن يكون هذا الأمر نفسه مما
ينفر كثيرًا من الترك عن إقامة الشريعة التي تحرم أن يتبعوا الهوى في معاملة أقوام
أولئك الجناة القساة الذين خربوا ديارهم بالنار والبارود وهم يرونها بأعينهم أكوامًا
من الرماد والأنقاض.
وهذه حكومات جزيرة العرب إسلامية محضة ليس فيها قوانين وضعية ولا
تشريع أوربي، وأقدَمها حكومة أئمة اليمن، وهنالك كثير من اليهود وهم راضون من
حكومة الإمامة الشرعية لم يشْكوا منها ظلمًا ولا هضمًا ولا يفضِّلون عليها حكومة
أخرى، ولو سرى إليهم سم السياسة الاستعمارية من طريق التعليم أو غيره لأفسدوهم
على حكومتهم وأثاروهم عليها لطلب وطن قومي لهم في البلاد، وَلَوَعَدَهم نافثو السم
بالمساعدة على ذلك حبًّا في الإنسانية، أي حبًّا بإفساد الإنسانية وإثارة البغضاء بين
المختلفين في الدين والجنس أو اللغة بعضهم على بعض؛ ليتمكنوا هم من استعباد
الجميع {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) .
***
٣٤- الخلافة ودول الاستعمار:
من البديهي [١] أن إقامة الخلافة الإسلامية يسوء رجال دول الاستعمار، وأنهم
قد يقاومونها بكل ما أوتوا من حول، وقوة وأحرصهم على ذلك الدولة البريطانية.
ولا أجهل ممن يظنون أنها كانت تسعى قبل الحرب لجعل الخلافة في الأمة العربية،
إلا الذين يظنون اليوم أنها تود تأسيس دولة أو دول عربية! ولو كانت تريد هذا من
قبل لكان أقرب طرقه مساعدة أئمة اليمن المجاورين لها في منطقة عدن على التُّرك
بالسلاح والمال لتنظيم جيشهم والاستيلاء على الحجاز؛ فإن حكومة الإمامة في اليمن
قوية عادلة قديمة راسخة يرجع تاريخها إلى القرن الثالث من الهجرة وقد حاربتها
الدولة العثمانية زهاء أربعة قرون لإسقاطها فعجزت عن ذلك، ولكن الحكومة
البريطانية كانت لها بالمرصاد، وما زالت تكيد لها وتسعى بالدسائس والفتن للتدخل
في شؤونها والتوسل بذلك للاستيلاء عليها ولم تستطع ذلك، ولن يجعل الله لها
عليها سبيلاً.
ولقد اشتهر لدى الخاص والعام أن الدولة البريطانية كانت ظهيرة للخلافة
العثمانية التركية، وما ذلك إلا لعلمها أنه صورية وأنها هي التي تنتفع بإظهار
صداقتها لها، وكان رجال هذه الدولة الداهية أعلم الناس بأن هذه الدولة قد دَبَّ في
جسمها الانحلال، وأنها سائرة في طريق الفناء والزوال، وإنما كانوا يحاولون أن
تبقى حصنًا بين القيصرية الروسية المخيفة بسرعة تكونها ونموها، وبين البحر
الأبيض المتوسط على شرط أن تكون قوة هذا الحصن بما وراءه من المساعدة
البريطانية لا بنفسه، وقد بيَّنا هذا في المنار من قبل، وأن الغازي أحمد مختار باشا
وافقنا على أن قاعدة الدولة البريطانية في السياسة العثمانية: أن لا تموت الدولة ولا
تحيا، وبيَّنا أيضًا أن هذه القاعدة قد تغيرت بما كان بين الدولتين - البريطانية
والروسية - على مسائل الشرق، واقتسامهما بلاد إيران قبل الحرب، وأنها تجنح إلى
إقامة خلافة عربية صورية تكون آلة بيدها بعد الحرب العامة، والتمكن من خداع
شريف مكة وتسخيره لمساعدتها، ونحمد الله أن جعلنا من أسباب خيبة هذا السعي
حتى لم يتم لها.
قد عنيت الدولة البريطانية منذ أول زمن هذه الحرب بالبحث في مسألة
الخلافة، وطفق رجالها يستطلعون علماء المسلمين وزعماءهم في مصر والسودان
والهند وغيرها آراءهم فيها ليكونوا على بصيرة فيما يريدونه من إبطال تأثير إعلان
الخليفة العثماني الجهاد الديني بدعوى بطلان صحة خلافته من جهة، وبدعوى أن
هذه الحرب لا شأن للدين فيها من جهة أخرى، وقد وجد من منافقي الهند مَن كَتَبَ
لهم رسالة باللغة الإنكليزية في ذلك وأرسلها إلينا ناشرها لنترجمها بالعربية
وننشرها في المنار، فعجبنا من جهله ونفاقه، ولولا المراقبة الشديدة على الصحف
عامة والمنار خاصة في تلك الأيام لرددنا عليها، وقد اطلعنا على ما كتبه بعض
علماء مصر لهم في الخلافة، وهو نقل عبارة (شرح المقاصد) وعبارات أخرى
في معناها، وعلمنا أن بعض العلماء كتب لهم بعض الحقائق فيها.
وقد دارت بيننا وبين بعض رجالهم مناقشات في المسألة العربية اقتضت أن
تكتب لهم مذكرات في تخطئة سياستهم فيها، بيَّنا في المذكرة الأولى منها التي قدمناها
لهم في أوائل سنة ١٩١٥ أن أكثر مسلمي الأرض متمسكون بالدولة العثمانية
وخليفتها؛ لأنها أقوى الحكومات الإسلامية وأنهم يخافون أن يزول بزوالها حكم
الإسلام من الأرض، وأن هذا أعظم شأنًا من بقاء المعاهد المقدسة سليمة مصونة،
بل بيَّنا لهم أيضًَا أن إعلانها الجهاد شرعي، وأن سبب ضعف تأثيره في مثل مصر
هو الاعتقاد بأنها منتصرة مع حلفائها فلا تحتاج إلى مساعدة.
وعدت إلى بحث الخلافة في آخر مذكرة منها وهي التي أرسلتها إلى الوزير
لويد جورج في منتصف سنة ١٩١٩ فقلت في بيان ما يرضي المسلمين من إنكلترا:
(إن الوزير قد علم أن الاعتراف باستقلال الحجاز وتسمية أمير مكة ملكًا لم يكن
له ذلك التأثير الذي كان الإنكليز يتوقعونه من قلوب المسلمين - ذلك بأن بلاد
الحجاز أفقر البلاد الإسلامية وأضعفها في كل شيء، وهي موطن عبادة لا ملك
وسيادة، ولم يكن المسلمون مضطربين من الخوف على المساجد المقدسة أن تهدم أو
يمنع الناس من الصلاة فيها والحج إليها وزيارته، بل الاضطراب الأعظم على
السلطة الإسلامية التي يعتقدون أن لا بقاء للإسلام بدونها، والحرص على بقائها
ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يرى دينه باقيًا إلا بوجود دولة إسلامية
مستقلة قوية قادرة بذاتها على تنفيذ أحكام شرعه بغير معارض ولا سيطرة أجنبية،
وهذا هو السبب في تعلق أكثر مسلمي الأرض بمحبة دولة الترك واعتبارهم إياها
هي الدولة الممثلة لخلافة النبوة مع فقد سلطانهم لما عدا القوة والاستقلال من شرطها
الخاصة، ولولا ذلك لاعترفوا بخلافة إمام اليمن لشرف نسبه وعلمه بالشرع
واستجماعه لغير ذلك من شروط الخلافة، ذلك بأن الشروط تعد ثانوية بالنسبة إلى
أصل المطلوب. مثال ذلك: أن الحكومة المصرية تشترط في مستخدميها أن يكونوا
مصريي الجنس عارفين باللغة العربية حاملين لشهادات مخصوصة - ولكنها عندما
تحتاج إلى مستخدم فني لعمل لا يوجد مصري يعرفه تترك اشترط ذلك فيه؛ لأنه
إنما يُقَدَّم المستوفِي للشروط على غيره إذا كان قادرًا على أصل العمل المطلوب) .
اهـ. المراد هنا من مذكرتنا إلى لويد جورج.
وكان الغرض من هذا أن لا يغترُّوا بما يعلمون من عدم استجماع الخليفة
التركي لشروط الخلافة، ولا بما كانوا يرمون إليه من جعل شريف مكة خليفة بعد
اعترافه لهم بأن مكان الأمة العربية من إنكلترا مكان القاصر بالطفولية أو العَتَه من
الوصي ورضاه بحمايتهم له ولها، وقد صرحنا للوزير في هذه المذكرة بأن الذي
يرضي العالم الإسلامي من دولته ترك الشعوب الإسلامية العربية والتركية
والفارسية أحرارًا مستقلين في بلادهم وبقاء مسألة الخلافة على ما هي عليه إلى أن
يمكن تأليف مؤتمر إسلامي عام لحل مشكلتها، وقد بيَّنا فيها أيضًا أن هذه الدولة
مستهدفة لعداوة الشرق كله بالتبع لعداوة العالم الإسلامي، فلا يغرنها ضعف المسلمين
وتفرقهم فتحتقر عداوتهم مع كونهم مئات الملايين، فإنهم لن يكونوا أضعف من
(ميكروبات) الأوبئة، وسننشر هذه المذكرة في الوقت المناسب.
لم يبال هذا الوزير بنصح هذه المذكرة فاستمر على سياسة القضاء على دولة
الترك واستعباد العرب حتى خذله الله وخذله قومه وأسقطوا وزارته، لكن بقي أشد
أنصاره في الوزارة التي خلفتها وهو لورد كرزون الذي هو أشد تعصبًا وعداوة
للمسلمين منه؛ فلذلك لم يتغير من سياسة الدولة شيء في المسألة الإسلامية إلا ما
اضطرت إليه من مجاملة الدولة التركية الجديدة بعد تنكيلها بالجيش اليوناني الذي
أغرته وزارة لويد جورج بالقضاء على ما بقي للترك من القوة في الأناضول، فأثبتت
بذلك أنها لا تلين إلا للقوة وأما الحق والعدل والوفاء بالعهود والوعود فلها في
قاموس سياستها معانٍ أخرى غير ما يعرفه سائر البشر في لغاتهم.
* * *
٣٥- الخلافة وتهمة الجامعة الإسلامية:
إن العيب الأول لكون الدولة البريطانية هي الخصم الأكبر الأشد الأقوى من
خصوم الخلافة الإسلامية هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام وتتحقق فكرة
الجامعة الإسلامية فيحول ذلك دون استعبادها للشرق كله، وقد نشرنا في مجلدات
المنار أقولاً كثيرة للساسة الأوربيين في هذه المسألة، من أهمها ما نشرناه في المجلد
العاشر سنة ١٣٢٥ من رأي كرومر في تقريره السنوي في مصر والسودان سنة
١٩٠٦ فيها، وأهمه قوله:
(المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال اجتماع المسلمين في العالم
كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نُظر إليها من هذا الوجه وجب
على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة
مراقبة دقيقة لأنه يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة فتضرم فيها نيران التعصب
الديني في جهات مختلفة من العالم .....)
ثم ذكر أن للجامعة الإسلامية معانيَ أخرى أهم من المعنى الأصلي، وهي:
(أولها) في مصر الخضوع للسلطان وترويج مقاصده...
(وثانيها) استلزامها لتهييج الأحقاد الجنسية والدينية إلا فيما ندر ...
(وثالثها) السعي في إصلاح أمر الإسلام على النهج الإسلامي!! وبعبارة
أخرى السعي في القرن العشرين لإعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدًى لهيئة
اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة.
وذكر أن عيب هذه المبادئ والسنن والشرائع هو المناقضة لآراء أهل هذا
العصر في علاقة الرجال بالنساء. وأمرًا ثالثًا، قال: إنه أهم من ذلك كله، وهو
إفراغ القوتين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا تحويرًا
(قال) : وهذا ما أوقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
ثم قَفَّى على تحذير الأوربيين من الجامعة الإسلامية بتحذيرهم من الجامعة
الوطنية؛ لئلا تتجلبب بها الأولى (التي هي أعظم الحركات المتقهقرة) .
رددنا على اللورد كرومر في كل هذه المسائل ردًّا مسهبًا ورد غيرنا عليه
أيضًا، وفي هذه المباحث ما فيها من تفنيد كلامه، وغرضنا هنا أن نبين شدة
اهتمام الإنكليز بمقاومة الجامعة الإسلامية بكل معنى من معانيها وتحريضهم جميع
الأوربيين وجميع النصارى عليها، وعلى مَن يتصدى لها وتخويف المسلمين منها.
ولقد كان من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكومتها أن جعلتها تخاف
وتحذر كل ما يكرهه الأوربيين منها وتُظهر الرغبة في كل ما يدعونها إليه وجروا
على ذلك حتى صار الكثيرون منهم يعتقدون أن ما يَستحسن لهم هؤلاء الطامعون
فيهم هو الحسنُ، وما يستقبحونه منهم هو القبيحُ؛ إذ تربوا على ذلك ولم يجدوا
أحدًا يبين لهم الحقائق. وكان هذا عونًا لهم على سلب استقلال هؤلاء المخدوعين
والمرهبين في بعض البلاد وغلبة نفوذهم على نفوذ الحكومة في بلاد أخرى كمصر
والدولة العثمانية، واستحوذ الجبن والخور على رجال الحكومات في هذه البلاد حتى
إن أركان الدولة العثمانية لم يتجرأوا على الإذن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية في
عاصمتها باسم (دار الدعوة والإرشاد) كما تقدم، ولم يكونوا كلهم يجهلون ما
ذكرت، بل قال لي شيخ الإسلام حسني أفندي رحمه الله تعالى: إن عندنا قاعدة
مطردة في الإفرنج هي أن كل ما يرغبوننا فيها فهو ضار بنا وكل ما ينفروننا عنه
فهو نافع لنا. وإنما هو جبن بعض الرؤساء وفساد عقائد بعض، وما الجبن إلا
غشاوة من الوهم على عين البصيرة انقشعت عن ترك الأناضول فرأوا أنهم بعد
انكسارهم في الحرب العامة وفقدهم لتلك الممالك الواسعة أعز وأقوى مما كانوا عليه
منذ مائتي سنة؛ إذ كانت البلاد فيها تنتقص من أطرافها ونفوذ الأجانب في عاصمة
الدولة فوق نفوذ خليفتها وسلطانها.
لهذا السبب ينوط الرجاء بحكومة الأناضول ألوف الألوف من المسلمين أن
تحيي منصب الخلافة وتجدد به مجد الإسلام وشريعته الغراء التي يُرْجَى أن يتجدد
بإحيائها مجد الإنسانية ويدخل البشر في عصر جديد ينجون به من مفاسد المَدَنِيَّة
المادية التي تهدد العمران الأوربي بالزوال.
أنا لا أتصور أن يكون الرعب من معارضة دول أوربة الاستعمارية هو الذي
يمنع الترك من إقامة الخلافة الإسلامية؛ فإن هذا شكل حكومتنا ومقتضى ديننا،
وطالما صرحت هذه الدول بعد الحرب بأنها لا تفتات على المسلمين في أمر الخلافة،
وأما الجامعة الإسلامية فهي مسألة أخرى، ولكل دولة لها رعايا من المسلمين أن
تسوسهم بالطريقة التي تراها أحفظ لمصلحتها، نعم لن يكون الإفرنج هم الذين
يمنعون إقامة الخلافة ولكن الذي يخشى أن يمنعها إنما هم المتفرنجون دون غيرهم
وقد شرحنا ذلك من قبل.
من المعقول في السياسة أن يطعن المستعمرون للبلاد الإسلامية في جامعة
دينية يظنون أنها قد تفضي إلى انتفاض أهل هذه البلاد عليهم، ويخافون أن تكون
الخلافة الحق سببًا لتحقق هذه الجامعة، وأن يطعنوا في الشريعة الإسلامية وينفروا
المسلمين منها لأجل ذلك كما يطعن فيها دعاة النصرانية لهذه العلة وللطمع في
تنصير المسلمين، وهذا الخوف من إقامة الخلافة يكون على أشده إذا كان الباعث
على إقامتها السياسة المحضة التي يستحل أصحابها كل عمل لأجل مصلحتهم، وقد
يكون ذلك إذا كان الباعث دينيًّا محضًا وهو إقامة حكم الإسلام كما شرعه الله تعالى،
وليس من شروطها أن يتبعها جميع المسلمين، ونحن نعلم أن هذا متعذِرٌ غير
مُسْتَطَاع في هذا الزمان وتكليفُ غير المستطاع ممنوعٌ في الإسلام: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) بل نحن نرى الرأي الغالب في بعض البلاد
يأبى إحياء الخلافة حتى إننا نجتهد في إقناع الحكومة التركية الحاضرة به ونشك في
قبولها، فإن زعيمها وصاحب النفوذ الأعلى في أقوى أحزابها يصرح في خطبه بأن
السلطة في هذه الحكومة للأمة التي يمثلها المجلس الوطني الكبير بلا شرط ولا قيد،
وأنه لا يمكن أن يكون لشخص معين نفوذ فيها مهما يكن لقبه، أي خليفة سُمِيَ أو
سلطانًا.
لما أذاع الاتحاديون عزمهم على إنشاء مدرسة جامعة إسلامية في المدينة
المنورة وابتداع سجل لطلاب الشفاعة النبوية فيها، وقالت الجرائد وغير الجرائد: إن
مرادهم بذلك إحياء الجامعة الإسلامية - كتبتُ مقالة في هذا الموضوع نشرتها في
المجلد السابع عشر من المنار (سنة ١٣٣٠) قلت فيها نصه:
(وأما رأيي الذي أنصح به الدولة فهو أن تصدي رجاله السياسيين لتحريك
أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون
هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها- من أسباب ما نراه من
شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرِّره الإمام الغزالي
(كن يهوديًّا صِرْفًا وإلا فلا تلعب مع اليهود) .
ومُرَادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:
(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية إلا
ما كان من النظام الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام، وتعطي مقام
الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام وإقامة الحدود وحرية أهل الأديان ولا يعجزها
حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم أهواء سياسية ولا ضلع
مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليها منه الآن إن شاءته، ولو كان لي
رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي أو جعله محل النظر والبحث لبينت ذلك بالتفصيل
ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي تعترض في طريق تنفيذه من
داخلية وخارجية مع بيان المَخْرَج منها، ثم ما يترتب عليه من تجديد حياة الدولة،
وكونه هو المُنْجِي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير من الناس أنه هو المسرع
بالخطر ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة إذا علمت أنها شرعت
بنهضة إسلامية لعلمها بأن هذه هي حياتها الحقيقية، وكون حياتها بهذا هو ما
يصرح به بعض أحرار الأوربيين، وإن خوف منه بالتمويه والإيهام أكثر
السياسيين.
(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور الدين
إلى الجمعيات الدينية الحرة والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها
أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانة المالية من
أوقاف المسلمين الخيرية (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تُجِبْ
طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع بقائها بمَعْزِل عن
السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لَمَا اشترطت على رجال الدولة وجمعية
الاتحاد - إذ عرضت عليها مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة
لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة بل تكون نفقاتها
مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين الخيرية
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر:
٤٤) اهـ.
هذا ما كتبناه في ذلك الوقت، وقد شرحنا آراء الإفرنج في الجامعة الإسلامية
وما فيها من الأوهام وما ينبغي للمسلمين، مرارًا في مجلدات المنار.
***
٣٦- شهادة لوردين للشريعة الإسلامية:
ما كل من يتكلم في الإسلام وشريعته من الإفرنج يتكلم عن علم صحيح، وما
كل من لديه علم يقول ما يعتقد؛ فإن منهم من تنطقه السياسة بما تريه من مصلحة
دولته، ومنهم المتعصب الذي لا يبحث عن شيء من أمر الإسلام إلا ما يمكن
الطعن فيه لتشكيك المسلمين في دينهم أو لتحريض أعدائهم عليهم، وقد وُجد فيهم
من قال الحق في الإسلام وشريعته في أحوال اقتضت ذلك.
من هؤلاء لورد كرومر الذي طعن الشريعة تلك الطعنة النجلاء التي أقامت
مصر وأقعدتها، قد اضطر إلى إنصافها وتقييد ما أطلقه من الطعن فيها بما لا ينكره
أحد، وذلك في مجلد المنار العاشر إذ كان هو بمصر، فقد قلت في سياق الرد على
طعنته: إن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى حدثني أنه كان يكلمه مرة في مسألة
إصلاح المحاكم الشرعية في إبان اهتمام الشعب والحكومة بها واعتراض بعض
العلماء على إصلاحها فأقام له الدلائل على أن الإسلام يدعو إلى كل إصلاح ويناسب
كل زمان فقال له اللورد ما ترجمته:
(أتصدق يا أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة وقامت به دولة
عظيمة لا يكون أساسه العدل؟ هذا محال ولكنني أعلم أن هذه المقاومات - أي
لإصلاح المحاكم - أمور إكليركية) أي تقاليد لرجال الدين الإسلامي كتقاليد الكنيسة
عند النصارى.
هذه الكلمة حملتني على إرسال كتاب إلى اللورد هذا نصه:
القاهرة في ٢٠ ربيع الأول سنة ١٣٢٥
جناب اللورد العظيم:
أحييك بما يليق بمكانتك وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو
أن تَمُنَّ عليَّ ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي
يهمني من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية تدافع عن الدين وتبحث في فلسفته وهو:
هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي
وُضِعَتْ منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه الذي هو عبارة عن القرآن
الكريم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن
كنت تعني الثاني فهو من وضع البشر، وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن
الأول، وخطَّأ فيه بعضهم بعضًا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه،
ولطلاب الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب،
وإن كنت تعني الأول فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما جاء في
الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة - وهي توافق
مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح بحكم
الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مُقابل المُعْظَم) راجع إلى ذلك
وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار بمصر
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
وقد أجابنا بالكتاب الآتي بنصه العربي موقعًا ومؤرخًا بخطه الإفرنجي، وهو:
كتاب لورد كرومر إلى صاحب المنار:
حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛
جوابًا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي
تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أَعْنِ الدين الإسلامي نفسه،
ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي
الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين، ولعل
العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة فلم تؤدِّ المراد تمامًا، واقبلوا يا حضرة
الأستاذ احترامي الفائق.
... ... ... ... ... في٤ مايو سنة ١٩٠٧ ... ... كرومر
كلمة لورد كتشنر للسيد الزهراوي:
زار السيد عبد الحميد الزهراوي عقب تعيينه عضوًا في مجلس الأعيان
العثماني مصر ونزل ضيفًا عند صديقه صاحب المنار؛ وزار لورد كتشنر العميد
البريطاني في ذلك الوقت بإيعاز، وكنت معه فكان مما قاله له اللورد باللغة
العربية [٢] :
إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منا - معشر الأوربيين -
ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد تربية تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها
ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم
الاجتماعية، فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة، فتقيم العدل
وتحفظ الأمن، وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا) .
هذه الكلام حق، وإن جاز على قائله الجهل والخطأ فيما يظن أنه لا يصلح لنا
من قوانين أوربة، ونحن نعلم أن كل ما لديهم من حق وعدل في ذلك فشريعتنا قد
سبقت إلى تقريره كما علم مما تقدم، ولتفصيل ذلك مقام آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))