للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


روابط الجنسية والحياة الملية
وفلسفة الاجتماع البشري

وعدنا في خاتمة المجلد السابع بأن نعود في هذا المجلد إلى نشر المقالات
الاجتماعية والفلسفية، وذكرنا هناك بعض الموضوعات التي سبقت إلى الذهن عند
كتابة تلك الخاتمة ومنها الحياة الزوجية والحياة الملية وكذا الوطنية. وقد حالت
الحوادث دون الإكثار من المقالات وسبح القلم سبحًا طويلاً في بحث الحياة الزوجية
فكان ست مقالات، ورأينا أن نقفي عليه بالكلام في الحياة الملية وكذا الوطنية بعد
تمهيد في فلسفة الاجتماع البشري بالإيجاز، فنقول:
خلق الإنسان ليعيش مجتمعًا يتعاون أفراده على الأعمال التي هي قوام حياتهم
الشخصية والنوعية وإظهار استعدادهم الإنساني في استعمار الأرض وإظهار أسرار
الكون فأعني بالاجتماع ما هو أوسع من اجتماع الزوجين الذي يشاركهم فيه سائر
أنواع الحيوان، ومن اجتماع النحل والنمل وتعاون أفرادهما على ما به حفظ حياة
نوعيهما، فالحياة الزوجية ليست خاصة بالإنسان، ولا الحياة الأهلية (العائلية)
فمن كان لا يشعر بفائدة لنفسه إلا أنه يعمل ليأكل ويطعم من يعول من أهل وولد
فحياته إن كانت أوسع من حياة الطير، فهي لا تصل إلى مرتبة بعض الذباب
والحشرات (النحل والنمل) فإن لهذين النوعين من التعاون على الأعمال المشتركة
ما تقصر عنه همة كثير من الناس، فما أحقر من يرى وجوده أضيق من وجود الذباب
والحشرات.
لا تفاوت بين أفراد نوع من أنواع المخلوقات نعلمه كالتفاوت بين أفراد البشر
يتسع وجود زيد منهم فيملأ الآفاق، ويضيق وجود عمرو حتى يضيق به قفص
جسمه، يشعر ذاك بروحه الكبيرة أنه خلق لينهض بأمة كبيرة أو ليفيد جميع الأمم،
ويَحار هذا في خدمة جسده، ويرى نفسه عاجزة عن تغذيته وتوفير لذته، فإذا
ازدوج فصارت له بيت كان همه أكبر؛ لأنه أعجز عن سياسته وأصغر، وبين
هذين الطرفين سواد عظيم لكل منهم سهم من سعة الوجود على قدر قوة الإنسانية فيه
وضعفها، فإذا كثر أصحاب السهام العظيمة في أمة من الأمم اتسع وجودها ببسط
سلطانها على الأمم التي قلت سهامها وخف بها ميزانها فينقبض وجود هذه بمقدار
اتساع وجود تلك فإما أن تعتبر فيخرج أفرادها من مضيق الحياة الشخصية الجسدية
إلى بحبوحة الحياة الاجتماعية حتى يتقلص ظل غيرهم عنهم، وإما أن يكونوا غذاء
للغالب لا بقاء لهم إلا باستبقائه إياهم لحاجته وقد ينكمش وجودهم ويتقلص حتى
يضمحل ويفنى كأن لم يكن شيئًا مذكورًا.
أين المصريون الأقدمون؟ أين الكلدانيون والآشوريون والبابليون؟ أين
الرومان والفرس الأولون، أين هنود أمريكا العريقون؟ منهم من اندغم وجوده في
وجود آخر أوسع منه وأقوى، ومنهم من انقرض وجوده فلا تحس منهم من أحد ولا
تسمع لهم ركزًا، سنة الله في التكوين والتمكين {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨) الذين يتقون أسباب الفساد
والزوال، ويصلحون في الأرض بالأحكام والأعمال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: ١١) .
قلنا: إن وجود الشخص الواحد يتسع ويضيق بمقدار معنى الإنسانية في روحه
قوة وضعفًا، وإن وجود الأمة ينبسط وينقبض بحسب كثرة أصحاب السهام العظيمة
من سعة الوجود فيها، فهذا هو معنى الحياة العزيزة في الأفراد، وفي الأمم فكمال
الشخص إنما هو في كونه يعمل للأمة التي يعتز بعزتها، ويهون بهوانها وضعتها،
وكمال الأمة إنما هو في حفظ ما به كانت أمة وبسطه يجعل وجود غيرها تابعًا
لوجودها.
ما به تكون الأمة أمة معنى يوجد في كل فرد من أفرادها يربط بعضهم ببعض
حتى يكون الجمع الكثير به واحدًا، وقد يعبر عنه بالجنسية: وهو النسب، والبيئة
أو الوطن، واللغة، والدين، والحكومة، وأنت ترى أن بعض هذه المعاني أوسع
من بعض، فأول اجتماع كان بين البشر يتعاون به أفراد كثيرون على مصلحة الجميع
هو اجتماع القبائل البدوية التي تنسب إلى أب واحد، ثم كانت دائرة الاجتماع تتسع
في البشر فتكبر الهمم وتعلو النفوس لشعورها بسعة وجودها وما هي مطالبة به من
العمل لحفظ كون كبير واسع. وكلما اتسعت دائرة الاجتماع تتسع منها فائدة البشر
فبعد أن كان امتياز القبائل والشعوب لأجل التناكر والتغابن، صار باتساع ذلك
المعنى لأجل التعارف والتعاون، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: ١٣) .
إذا كانت الجنسية في الأمة هي النسب كانت بسطتها في الوجود بطيئة. كذلك
الوطن إذا كان بلادًا محدودة كمصر أو الشام أو العراق. وليس نشر اللغة وجعلها
جنسية بالأمر السهل ومثلها الدين إذا كان خاصًّا كاليهودية. وأما الحكومة فهي أوسع
من جميع ما ذكر وبها تكونت الأمم الكبرى كإمبراطورية الإسكندر والإمبراطورية
الرومانية في الزمن الماضي وكالسلطة العثمانية والحكومات الاستعمارية في هذا
الزمان. ولكن الجنسية في الحكومة لا تعد جنسية حقيقية إلا إذا كانت الشريعة أو
القوانين التي يحكم بها الرعايا المختلفون في النسب والوطن واللغة والدين مبنية
على قواعد العدل والمساواة بينهم، وكان القائمون بها من لفيفهم لا من طائفة معينة
منهم. على أن هذا الشرط الأخير إنما تشترطه الطوائف والشعوب الراقية في
معارج الاجتماع دون سواها وأن من الشعوب ما يغلب فيها الشعور بأنها خلقت
لتكون محكومة من الغرباء وأن جنسها لا يصلح للأحكام.
يكون اتساع محيط الجنسية نافعًا للبشر ما قصد بها تكثير سواد أهلها ومشاركة
كل من يدخل فيهم لهم في جملة مزاياهم. ومتى قصد الشعب الاستئثار بالمنافع دون
من يمتد وجودهم إليهم وينبسط نفوذه فيهم كان آفة على سائر الشعوب لا يعدل فيهم
ولا يمكنهم من الارتقاء في معارج الكمال الإنساني، فسنة الله في كمال الشعوب
والأمم ونقصها كسنته في الأفراد، نقص كل منهما بالأثرة والغلو في حب الذات حتى
لا يتحرك حركة إلا لمنفعة ذاته وكمال كل منهما بالقصد إلى نفع غيره وإيصال الخير
إليه وجعل المنفعة الذاتية تابعة للمنفعة العامة.
فالنتيجة لما تقدم من القواعد أن أكمل الجنسيات وأنفعها للبشر ما كانت أعم
وأشمل للطوائف والجمعيات المختلفة في النسب والوطن واللغة والدين والحكومة بأن
يقصد بها الخير للجميع والمساواة بينهم في الحقوق وتمكينهم من الرقي إلى ما
أعدتهم له الفطرة البشرية من الكمال الاجتماعي وإنها لجنسية يتحسر عليها نوابغ
الحكماء وهي موجودة في الملة الإسلامية، وإن كان المسلمون من أبعد الناس عنها
فهذه الملة هي التي عرفها كتابها العزيز بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) .
الملة الإسلامية تساوي بين المختلفين في الأنساب والأوطان والأديان وتسمح
لمن يدخل في حكمها وهو على دينه أن ينشئ في بلادها محاكم لأهل ملته وأبناء
جلدته فلا تلزمه بأحكامها إلزامًا، فإن هو اختار حكمها بنفسه ساوت بينه وبين أقرب
الناس من بنيها وأعلى أفرادها مكانة فيها. فهي تدعو جميع البشر إلى التعارف
والتآلف في ظل حمايتها وإنه لظل ظليل يباح للمستظل به كل شيء إلا محاولة
إزالته أو إزالة فائدته للناس وهي دفع الشر والأذى عنهم وتقريب الخير منهم مع
حفظ حريتهم في أديانهم وأعمالهم التي لا تضر سواهم. هذا ما تبذله لكل من قبل
حمايتها، واستظل برايتها، ثم إنها تختص من قبل هدايتها في الدين بأخوة روحية،
أخص من هذه الأخوة الإنسانية، لأنه يشارك أهلها فيما يؤهلهم لسعادة الحياة
الأخرى، فهو أقرب إليهم بالروح ممن لا يشاركهم إلا في سعاة الحياة الدنيا.
هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم في هذه الحياة ولكن
الناس لمّا يستعدوا لها تمام الاستعداد؛ لذلك لم يرعوها حق رعايتها ونعتقد أن
سيعودون إليها في يوم من الأيام. نقول: يعودون إليها عودًا، دون يقصدون إليها
قصدًا؛ لأنها قد وجدت في الجملة مدة قليلة على عهد الخلفاء الراشدين فرقص لها
العالم الإنساني وأقبلت عليها شعوبه أيما إقبال ثم طفق نورها يخبو بما أفسد فيها
الأمويون ومن بعدهم ولكنه كان على ضعفه أفضل عند جميع الأمم من كل ما عداه
لذلك كان يخرجهم باختيارهم من جنسياتهم إخراجًا، فيدينون لها شعوبًا ويدخلون فيها
أفواجًا.
كانت حكومة الخلفاء الراشدين حكومة عسكرية؛ لأن الدعوة لم تكن أمنت،
والسلطة لم تكن استقرت، وكانت على ذلك حكومة عادلة رحيمة فضلها كل من ذاق
حلاوتها على ما عهد من قومه. وكانت حكومة الأمويين في الشرق والغرب
وحكومة العباسيين في الشرق إسلامية في أكثر الفروع دون الأصول، وأعني
بالأصول قواعد الحكومة الأساسية كانتخاب الحاكم العام وإلزام الأمة له بالشورى
واتباع الشريعة وكانت على ذلك أفضل من جميع الحكومات التي عرفها الناس قبل
الراشدين. لو وجدت الحكومة الإسلامية على حقيقتها في دولة آمنة مطمئنة
لاختارها كل من عرفها من الراقين، حتى تكون ملاذ البشر أجمعين.
سيقول الجاهلون بحقيقة الإسلام إن هذا من غلو المسلم المذعن ويأتون على
ذلك ببعض الأعمال والتقاليد التي انتقدت على المسلمين وإنني لعلى علم بشبهاتهم
لكثرة ما بلوت من أمثالهم وما كشف تلك الشبهات عليّ بعسير ولكن القول قلما يقنع
الجاهل لا سيما إذا كان متعصبًا لرأيه، غير محيط بتفصيل ما عند خصمه.
لست أعجب ممن نشأ في دين يعادي الإسلام إذا هو أنكر مزايا الإسلام
الظاهرة، وأصوله الواضحة؛ بله المزايا التي فقدت من المسلمين، فلا أثر لها إلا
في ثنايا آيات الكتاب المبين، إنما عجبي ممن نشأ في المسلمين وهو منهم ثم يجهل
مكان الجنسية الإسلامية الواسعة العامة لجميع الشعوب والطوائف الشاملة لجميع
الخيرات والعوارف، فيدعو إلى جنسية الوطن كبعض أحداث المصريين أو جنسية
اللغة والنسب كبعض جهلة الترك. فمثل هؤلاء كمثل من يهدم مصرًا ويبني قصرًا،
بل هم أضيق وجودًا وأضعف فكرًا.
يعذر في مثل هذه الدعوة القبطي في مصر والأرمني في بلاد الترك
والإسرائيلي في فلسطين لأن السلطة في أيدي غيرهم فلهم الحق في أن يطلبوا
مساواتهم بسائر أبناء بلادهم. على أن وجود هذه الطوائف القليلة العدد أوسع من
وجود دعاة الوطنية والجنسية فإنهم يطمعون في الاستقلال ببلاد أكثرها لغيرهم فهم
يطلبون سعة وامتدادًا، ودعاة الوطنية والجنسية منا يبغون ضيقًا وتقلصًا.
لولا جنسية النسب لما تمزقت السلطة الإسلامية في ريعان شبابها فكانت
عباسية في الشرق أموية في الغرب فاطمية في الوسط والشريعة واحدة والملة واحدة
ولما كان بين ذلك من ملوك الطوائف ما كان. لولا جنسية اللغة والوطن لما تفرق
المسلمون بعد ذلك إلى دول وممالك كالتركية والفارسية والأفغانية وما كان قبلها في
الهند من السلطة التيمورية وغيرها في المشرق وكالعربية في شمال أفريقية الغربي
وغير ذلك مما كان في قلب هذه القارة الإسلامية التي استولت عليها أوروبا إلا قليلاً
ولو عقل المسلمون معنى الحياة الملية لكانوا في هذه الممالك كلها أحسن نظامًا
ووحدة من الإمبراطورية الإنكليزية.
إن الحياة الوطنية الصحيحة هي جزء من الحياة الملية الإسلامية، فإذا حيي
المسلمون في قطر ما حياة إسلامية فبشر جميع دعاة الوطنية الصحيحة من أهل
الملل التي تعيش معهم بجميع ما يطلبون من عدل وحرية ومساواة وتعاون على درء
المضار وجلب المنافع وكل ما به تعمر البلاد وتزيد خيراتها، وبشر المسلمين منهم
بأن سيكونون مركز الجاذبية العامة لجميع الشعوب المسلمة في الأرض ثم مشرق
المدينة الفضلى لجميع العالمين.
يالله العجب؛ ثلاث مئة مليون أي ثلاث مئة ألف ألف من المسلمين قد اكتظ
بهم قلب الأرض من مراكش إلى الصين ولا تجد لهم قوة ولا سلطة عزيزة لا يعبث
باستقلالها عابث، ولا يلمس شرفها لامس، أرأيت لو كان لهم حياة ملية، تشعرهم
بحقيقة الأخوة الإسلامية، أما كان يعتز بعضهم ببعض ويمد بعضهم بعضًا ولو إمدادًا
معنويًّا؟ أكان يسهل على الناقم من شعب من شعوبهم أن ينتقم منه بغيًا وعدوانًا وهو
يعلم أن قلب الأرض يخفق للعدوان عليه خفقانًا لا يستهان به؟
ما هو المرض الذي أضعف في المسلمين هذه الحياة الملية العليا؟ هو عصبية
الجنس، واللغة، والوطن، وهي العصبيات التي حاول الإسلام القضاء عليها فلما
غير الملوك شكل حكومته إلى ضدها تمكنوا من محاربته بجنسياتهم فما أفسد علينا
ديننا ودنيانا إلا الملوك المستبدون وأعوانهم من علماء السوء وتلك سنة قد خلت في
كل أمة قال فيها الشاعر:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
هل من سبيل إلى إضعاف هذه النزعة الجنسية الخبيثة وإماطة هذه النزعة
الوطنية الحمقاء من طريق الحياة الملية الإسلامية وإشعار المسلمين في جميع
الأقطار بحقيقة الرابطة التي تضم بعضهم إلى بعض إشعارًا يملك الوجدان وتصدر
عنه الأعمال التي توثق هذه الرابطة وتؤكد ما فيها من حقيقة الأخوة مع بقاء كل قوم
منهم في بلادهم وتعاونهم مع سائر أهلها على عمارتها بالعدل والإحسان والتوادّ
والإخلاص؟ السبيل واضحة وهي حبل الله المتين وسراجه المنير ولكن السياسة
والجهل عقبتان كؤدان من دونها يصدان السالك عن المضي فيها ولا يذلل العقبات إلا
هم الرجال، فأين الرجال؟
السياسة المانعة من حياة المسلمين الملية نوعان: سياسة أجنبية، وسياسة
مسلمية، وإن أهل البصيرة من المسلمين لعلى خلاف في أيتهما أشد وطأة فالذين
يحكمهم الأجانب يعتقدون أن حكامهم أعداء دينهم فهم وحدهم العقبة في طريق رقيهم
في هذه الحياة. والذين يحكمهم المسلمون يعلمون أن حكامهم بجهلهم وبما تيمهم
وتبلهم من عشق الاستبداد والسلطة المطلقة التي لا تكون إلا لله هم العقبة الكبرى في
طريق الحياة الملية بالاعتصام بحبل الله المتين، والاهتداء بكتابه المبين، والجمع
بذلك بين مصالح الدنيا والدين.
ومن عرف الحكومتين، وعجم عودي السياستين، فهو أعلم بالحق، وأجدر
ببيان الفرق.
الأجانب الحاكمون في بلاد المسلمين منهم القاسي الحائف كهولندا وفرنسا
ومنهم اللين المتساهل كإنكلترا ولم يبلغ أشدها جورًا ومنعًا للمسلمين من التعليم
والتربية أن يحجب عنهم من كتب العلم والتربية ما تحرمه عليهم بعض الحكومات
الإسلامية أو المسلمية، ولكن محبي الإصلاح من المسلمين يرجون أن يغلبوا
حكوماتهم ويلزموها بالعدل والمساواة وترقية العلوم والعقول وحرية الاجتماع للخير،
ويرون الأجانب عقبة في طريقهم، فإن إكراه الحكام على ترك الاستبداد لا تتمكن منه
الأمة المستعدة له إلا بثورة داخلية، والمسلمون يعتقدون أن الأجانب يتربصون بهم
الدوائر، فإذا هم ثاروا على حكومة من حكوماتهم المستبدة اغتنم الأجانب هذه الفرصة
فأوقعوا بالدولة وقضوا عليها، فالأجانب عقبة في طريق المسلمين أينما ساروا
وتوجهوا لا فرق بين بلادهم المستقلة وبلادهم المستعمرة. وهذا هو السبب في مقت
عامة المسلمين لكل من يتكلم في عيوب الدولة العثمانية ولو كان صادقًا قاصدًا
للإصلاح، فإنهم في الغالب يعتقدون أن إظهار عيوبها عون للأجانب عليها وقد
يكونون مخطئين في اعتقادهم هذا وأنى لنا بالرجال العارفين الذين يكشفون للعامة
عن وجه الصواب فيعرفونه معرفة إذعان؟
المرشدون الرسميون فينا جاهلون بشؤوننا وسياستنا وعون للحكام كيفما كانوا
لأن لهم سهمًا من سلطتهم وأصحاب الجرائد منا لا هم لأكثرهم إلا الازدلاف إلى
الحكام، والحظوة عند العوام، على أنهم لا حرية لهم في بلادنا المستقلة تمام
الاستقلال، ولو كانت هناك حرية لوجد من يفيد لا سيما في البلاد العثمانية فإن البلاد
لم تخل من العقلاء المخلصين.
هذا شأن السياسة في صد محبي الإصلاح الحقيقي عن السعي إليه في طريقه
وأما الجهل فلا حاجة إلى بيان وجهه القبيح فإن ضرره مما لا ينكره أحد في جملته
ولا يتسع هذا المقال لتفصيله.
لا نيأس من روح الله، ولا نقنط من رحمته فإن حوادث الزمان تعمل لنا ما لا
نعمل لأنفسنا، ورب عدوان علينا لأجل إماتتنا، يكون سببًا من أسباب حياتنا،
بينا في الجزء الماضي أن الحرب الروسية العثمانية قد أحدثت في المسلمين هزة
حيوية، كما قال حكيمنا رحمه الله، وقد رأينا أثر هذه الهزة في هذا الشهر عندما علم
المسلمون بتهديد أوربا للدولة العلية واحتلال أسطولها المختلطة لجزيرة (مدللي)
لحمل الدولة على تمكينهم من إدارة الولايات المكدونية حتى أن بعض فضلاء
المسلمين في الهند (هو القاضي أمير علي الشهير) كتب إلى التيمس أشهر الجرائد
الإنكليزية يبين سوء تأثير عمل أوربا في نفوس المسلمين كافة وينذر بسوء العاقبة،
على أن الشدائد والبلايا إنما تكون محببة إذا عرفت الأمة كيف تستفيد منها فلندع
لها أثرها وفعلها الطبيعي ولنبحث فيما يجب علينا أن نعمله لحياتنا الملية، وكيف
نجتنب مكافحة السياسة ومنازعة الجهل وهو ما نبينه في مقال آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))