للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]
ورد علينا رقيم من مصر بإمضاء (أحد مشتركي المنار) ينتقد صاحبه علينا
ويخطئنا في أمور هو فيها مخطئ، وأغلاط الرقيم اللفظية تحاكي أغلاطه المعنوية،
ولذلك أضربنا عن نشره ونكتفي بذكر المسائل التي أنكرها وبيان الحق فيها فنقول:
(المسألة الأولى) : قولنا في العدد الرابع: إن أكثر العلماء ذهبوا إلى
عدم انتفاع الأموات بقراءة القرآن من الأحياء. زعم صاحب الرقيم أن الأكثرين
ذهبوا إلى الانتفاع والإثابة. دلالتنا ما صرح به العلامة المحدث الشمس محمد بن
علي العسقلاني أحد شيوخ الحافظ ابن حجر في رسالته (القول بالإحسان العميم) وقد
لخصها الزبيدي في شرح الإحياء، فليراجع صاحب الرقيم الصفحة ٣٦٩ من الجزء
العاشر من ذلك الشرح إن لم يكن له وصول للرسالة.
(المسألة الثانية) : قولنا في العدد الماضي: إن الرخصة في زيارة
القبور إنما هي لأجل التذكر والاعتبار، ولذلك كانت عامة لزيارة قبر المسلم
والكافر، والصالح والفاسق. ولقد أنكر صاحب الرقيم هذا القول أشد الإنكار، وأتى
بكلمات تنبئ عن دعوى مع جهل وقلة اطلاع، حيث قال: (ومن الغريب الذي
تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع الذي ما سمعنا به ولا من قبلنا ولا أحد نطق به أو
قال بطلبه، زيارة قبور الكفرة والفساق، سوى حضرتك، مع أن المروي والمتلقى
هو طلب الإسراع بالمشي عند المرور صوب قبورهم، فكيف هذا مع مدعاكم
بطلب زيارتهم، فهل عندكم لهذا دليل من كتاب أو سنة أو عن سلف صالح؟) .
اهـ.
نقول بعد الاستعاذة بالله من افتئات الجهلاء على الدين وأهله: إن هذه المسألة
منصوص عليها في شروح البخاري ومسلم، وفي كثير من كتب الفقه والتصوف،
ولنذكر بعض النقول في ذلك من الصفحة ٣٦١ من الجزء العاشر من شرح الإحياء:
قال الشارح في الكلام على حديث (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها
تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرًا) : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أذن
النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي، وعلله بأنها تذكر الموت والدار
الآخرة، وأذن إذنًا عامًّا في زيارة قبر المسلم والكافر، والسبب الذي ورد عليه لفظ
الخبر يوجب دخول الكافر، والعلة موجودة في ذلك كله إلخ. ثم نقل عن شرح
المناوي للجامع الصغير: أن هذه الزيارة يستوي فيها سائر القبور، ولا يخص قبر
دون قبر، قال: قال السبكي: متى كانت الزيارة بهذا القصد لا يشرع فيها قصد قبر
بعينه، ولا تشد الرحال لها، وعليه يحمل ما في شرح مسلم من منع شد الرحال
لزيارة القبور، وكذا بقصد التبرك إلا للأنبياء فقط. اهـ
(فليعتبر الذين يشدون الرحال لزيارة قبور الشيوخ) . قال: وقال بعضهم:
استُدل به على حِل زيارة القبور، هب الزائر ذكرًا أم أنثى، والمزور مسلمًا أم
كافرًا، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي (مقابل قول
الجمهور) : لا يجوز زيارة قبر الكافر. وهو غلط اهـ.
وبهذا القدر مقنع لمن يطلب الحق، وجزم الإمام النووي بغلط صاحب الحاوي
في مخالفة الجمهور هو مساوٍ للقول بأن المسألة لا خلاف فيها، فليعتبر صاحب
الرقيم.
(المسألة الثالثة) : تخطئتنا للذين يستغيثون بالأموات ويستعينون بهم على
قضاء حاجهم في معاشهم وسائر شؤونهم الدنيوية، وقد خبط صاحب الرقيم في هذه
المسألة خبط عشواء في مدلهمة ظلماء، وزعم أنها من أصول الدين، وأن الأحاديث
في الطلب من الموتى مستفيضة ومجمع عليها، ونُقول السلف فيها كثيرة، مع أن
السلف ما سمعوا بهذا الضلال، ولم يرد فيه إلا حديث واحد مكذوب موضوع لعن
الله واضعه (وستعلمه) وعجبت كيف لم يورده صاحب الرقيم وقد أورد ما هو أبعد
منه في الدلالة على المقصود، كحكاية الشهيد الذي قاتل ثم نام فإذا هو ميت، فعلموا
أنه قام من بين الأموات من باب الكرامة وحياة الشهداء.
ونحن نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، والاعتقاد لا يؤخذ من
الحكايات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا من أقوال الشيوخ وأفهامهم، وإن
سماهم صاحب الرقيم أو أصحاب المطابع الذين يطبعون كتبهم (أئمة) كما سمى
الشيخ داود البغدادي إمامًا لأنه اقتدى به في قوله: إن الأموات يتصرفون في قبورهم.
فلنضرب بالحكايات وأقوال الشيخ التي استنبطتها أفكارهم أو أوهامهم عرض الحائط،
ولنتكلم على الآيات القرآنية التي أوردها واشتبه عليه معناها، كما اشتبه على كثير
من المحرفين أو المخرفين، فإن القرآن هو الإمام الحق الذي لا يضل من اتبعه.
أما هذه الآيات فهي قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: ٥٧) وقوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: ٥)
ولقد وفى مسألتنا حقها في تفسير الآية الأولى العلامة الآلوسي المحقق في تفسيره
روح المعاني، وإننا ننقل زبد كلامه وعيونه في ذلك.
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَة} (المائدة: ٣٥) : هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز
وجل، من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرب إليه بشيء.
ثم قال ما نصه:
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين
وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال:
اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو الميت من
عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى لي ليرزقني كذا وكذا. ويزعمون
أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون - وهم كاذبون - عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) أو فاستغيثوا بأهل القبور.
وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة
بمخلوق وجعله وسيلة - بمعنى طلب الدعاء منه - لا شك في جوازه إن كان المطلوب
منه حيًّا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول،
فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في
العمرة: (لا تنسَنَا يا أخي من دعائك) . وأما إذا كان المطلوب منه ميتًا أو غائبًا فلا
يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف.
ثم ذكر الدعاء للأموات وقال: (ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله
تعالى عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئًا، بل قد صح
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرًا:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم
ينصرف ولا يزيد على ذلك، ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم
أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله تعالى عنهما - شيئًا، وهم أكرم من
ضمته البسيطة، وأرفع قدرًا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة) .
ثم ذكر الدعاء في ذلك المحل، وأنه لم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند
الدعاء، ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يُستقبل، بل ويُستدبر، وأن
المعول عليه استقبال القبر وقت السلام، واستقبال القبلة وقت الدعاء.
ثم قال: (فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على
الحقيقة صلى الله تعالى عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه
الصلاة والسلام، ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة
العباد) .
ثم ذكر مسألة القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، وذكر أن ابن عبد السلام
أجازه في النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه نقل عن أحمد مثل ذلك، وأن
(من الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه) قال:
(وهو الذي يَرشَح به كلام المجد بن تيمية، ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله
تعالى عنه وأبى يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام) .
وأطال في البحث وذكر فيه مسألة استسقاء الصحابة بالعباس، وأن معنى
التوسل به طلب الدعاء منه، ولذلك دعا وأمنوا على دعائه، ثم قال: والناس قد
أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه - عز شأنه - بمن ليس في
العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون
من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة، وتيسير كل
عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور إلخ، وهو حديث مفترى
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من
العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى - صلى الله تعالى
عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك. فكيف يتصور منه - عليه
الصلاة والسلام - الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها، سبحانك هذا بهتان عظيم،
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة
المسجون بالمسجون، ومن كلام السَّجَّاد رضي الله تعالى عنه: إن طلب المحتاج
من المحتاج سفه في رأيه، وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام: وبك
المستغاث. وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) الخبر. وقال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) .
ثم ذكر أنه لا يرى بأسًا بالتوسل بجاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -
وحرمته اللذين هما من فضل الله تعالى ورحمته عليه، وكذلك القسم، فكأن المتوسل
توسل وأقسم على الله بصفة من صفاته، قال: إذ معناه: اللهم اجعل رحمتك وسيلة
في فعل كذا، ثم صرح بقوله: (ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت،
نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم،
ولعلَّ ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم
قريبو عهد بالتوسل بالأصنام - شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين) .
ومن العجيب أنه مع هذا قال: لا بأس بالتوسل بجاه غير النبي - صلى الله
تعالى عليه وسلم - إن كان المتوسَّل بجاهه مما عُلم أن له جاهًا عند الله تعالى
كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يُتوسَّل بجاهه، لما
فيه من الحكم الضمني على الله - تعالى - بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي
ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى.
وفي هذه الإجازة انتقادات:
الأول: خروجها عن سنة سلف الأمة، وفي الحديث الصحيح: (فعليكم
بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات
الأمور، فإن ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
الثاني: أن الولاية ظنية فلا يقطع بها لأحد إلا بنص من الشارع، وأين النص
إلا ما ورد من بشارة بعض الصحابة بالجنة.
الثالث: أنه يخشى من عموم الجهل في هذه الأيام ما لم يكن يخشى في زمن
نزول الوحي وبيان الحق من الباطل، والتمسك بالتوحيد على أكمل وجهه، وإنه يعلم
كما يعلم كل مختبر أن النزغات الوثنية عادت إلى الناس من جراء ذلك، ولا منكِر ولا
مرشِد.
الرابع: أن التوسل بالمعنى الذي ذكره لا يعقله إلا عالم فقيه في دينه، وإنه
لتأويل حسن لمن يفهمه؛ لأن تفسيره التوسل بقوله: (معناه: اللهم اجعل رحمتك
وسيلة في فعل كذا) هو كقولك: اللهم اشملني برحمتك التي رحمت بها فلانًا
وأعطني من فضلك الذي أعطيته، ولقد ختم هذا الفاضل البحث بجملة صالحة
وإننا ننقلها بنصها زيادة في البيان وهي:
(البقية بعدُ)
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ... ... ... ...